قضايا

الفسلفة عند المسلمين بين البحث والتحريم

حاتم السروييخرج علينا بين الحين والآخر بعض المفكرين والكتاب، ومن جهة أخرى بعض المشايخ الفضلاء على شاشات القنوات الفضائية أو على صفحات الجرائد وهم يتحدثون عن موقف الدين وعلماءه من النظر العقلي وتحريمهم القاطع من وجهة نظرهم للفلسفة وعلومها، وحقيقة الأمر أن البحث في تاريخ المسلمين بل في واقعهم – وهذا ما سوف نوضحه- يبعدنا عن تصديق هذا الرأي أياً كان مصدره سواءً قال به بعض المنتسبين إلى التنوير أو ذكره المتطرفون دينياً؛ إذ أن تحريم الفلسفة لم يكن موقفاً عامًا يلتزمه كل علماء الدين بل إن الغزالي نفسه وهو الذي كتب "تهافت الفلاسفة" لم يحرم الفلسفة جملةً من غير تفصيل وسوف نعرض تفصيلياً لرأي الغزالي وفتواه الشهيرة بتكفير الفلاسفة، ولكن بعد أن نعي أولاً تلك الحقيقة الغائبة وهي أن الفلسفة عند المسلمين لا تعد جريمة فكرية كما يحلو للبعض أن يدَّعي، ولم تؤثر إطلاقًا تلك الحملة الشعواء التي أطلقها ابن تيمية على موقف المسلمين من المنطق الذي هو العمود الفقري للفلسفة؛ فظل الشافعية والأحناف يتعلمون المنطق ويعلمونه بغير نكير؛ إلا إذا كان النكير هو بعض الحنابلة وليس كلهم!.

 والمدهش أن حملة الغزالي نفسه لم تقضِ على دراسة الفلسفة والبحث فيها، ببساطة لأن الغزالي نفسه كان فيلسوفًا! هل أقول هذا من عندي؟ أبدًا؛ وإنما هذا الرأي هو الرأي الذي استقر عليه كبار الأساتذة في مجال الفلسفة الإسلامية ومنهم الدكتور إبراهيم مدكور في كتابه الذي طبعته مؤخرًا مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن مشروع مكتبة الأسرة وهو بعنوان (في الفلسفة الإسلامية.. منهج وتطبيق) وهو رأي لم يأتِ من فراغ وإنما يستند إلى واقع تاريخي يؤكد أن الغزالي حارب الفلاسفة بالفلسفة أي بالنظر العقلي المحض وماله من قوانين وأدوات، ثم إنه قد برز في التصوف وعلم الكلام؛ وهما ولاشك من فروع الفلسفة، أو فلنكن أكثر تحديدًا فنقول أنهما يشكلان معًا خلاصة الفلسفة الإسلامية.. والحق أن الغزالي لم يحارب الفلسفة بما هي كذلك وإنما حارب (المشائين العرب) أو أتباع أرسطو من المسلمين: الفارابي، ابن سينا، الكندي... وغيرهم.

 ويقول الدكتور/ توفيق الطويل في كتابه الماتع "قصة النزاع بين الدين والفلسفة" الذي أعادت الهيئة العامة لقصور الثقافة طبعه مؤخراً ضمن سلسلة الفلسفة، إذ يقول الطويل في صفحة 112 ما نصه: " ولكن من الإنصاف لهذا الرجل أن نقول إنه مع عدائه للعقل ومحاولته دحض الفلسفة لم يُحرِّم الفلسفة جملةً من غير تفصيل لأن " الخلاف بينهم وبين غيرهم من الفرق ثلاثة أقسام: قسمٌ يرجع النزاع فيه إلى اللفظ، وقسمٌ لا يصدم مذهبهم فيه أصلاً من أصول الدين، والقسم الثالث ما يتعلق النزاع فيه بأصلٍ من أصول الدين، كالقول في حدوث العالم وصفات الصانع وبيان حشر الأجساد والأبدان" ثم يعقب قائلاً في تهافته " فهذا الغش ونظائره هو الذي ينبغي أن يظهر فساد مذهبهم فيه دون ما عداه". ثم إن الغزالي على ما أشرنا من قبل يشكو في "معيار العلم" وفي "المنقذ" من نفرة رجال الدين من الحساب والمنطق لمجرد أنهما من علوم الفلاسفة الملحدين، وهو يقرر أن الرياضيات مفيدةٌ في ذاتها وأنها في أصلها لا تتعلق بالدين نفياً أو إثباتا ".

ولنا تعقيب على قول الدكتور توفيق الطويل في هذا المقطع "إنه مع عدائه للعقل" لأن الغزالي لم يعادِ العقل وإنما عادى (الفلاسفة) أتباع أرسطو أو هؤلاء الذين مزجو بينه وبين أفلاطون – وأفلوطين أحيانًا- وهم لا يملكون الحق الحصري والوحيد في تمثيل الفلسفة، وإنما هم فئةٌ من العلماء، لهم وعليهم، ونقدهم لا يعتبر جريمة، وإن كان الغزالي قد استخدم خطاب التكفير في بعض المسائل فنحن لا نأخذ منه كل ما يقول فلا عصمة بعد النبوة؛ وبالتالي نحن لا نكفر أحدًا طالما لم يعلن صراحةً عدم إيمانه لأن التكفير سلطة لا نملكها، وأيضًا فإن الغزالي رحمه الله قد أسهب في ذم الفلاسفة ونسب إليهم كل تهمة بما يجعلنا لا نتفق مع هذا المنحى في البحث؛ لأنه في الحقيقة ليس من طبيعة البحث العلمي، وإنما هو حكم عقدي يرتدي فيه الغزالي زي الشيخ بعد أن ارتدى زي الفيلسوف، وفي إطار البحث الفلسفي ما يمكن أخذه من أبي حامد هو الفلسفة أما التكفير والهجوم فهذا لا شأن لنا به، ويبقى رغم ذلك أن نحترم ابن سينا ومجهوده لأنه من أحد أهم وأكبر مفاخر حضارتنا الإسلامية فهو الشيخ الرئيس، رئيس الأطباء والفلاسفة أيضًا، ورغم هذا فانتقاد الغزالي له في جانبه الفلسفي لا يحسن بنا إهماله، فقط نهمل دعاوى التكفير.

ونقول لقد عرف العالم الإسلامي على مدار تاريخه إلى جانب المشائين الذين هاجمهم الغزالي رجالاً أفاضل جمعوا بين علم الشريعة واحترام النظر العقلي ومحاربة الجهل والجمود واهتم علماء العقائد أو المتكلمون بالمنطق واحتلت متونهم فيه مكانها في التدريس بجوار العلوم الإسلامية المعروفة ونجد في هذا الإطار مصنفات الأبهري والكاتبي ومتن السُّلَّم المنورق في علم المنطق للإمام الأخضري، ولسنا من المنكرين لحقيقة الهجوم الشرس على المنطق وأهله غير أن التاريخ يثبت لنا أن كل هذا قد ذهب أدراج الرياح، بل إن علم الكلام على ما نعرف كان يستند منذ القدم في إقامة مقدماته وقواعده على فلسفة أرسطو وراح يبني عليها ويطور نفسه من خلالها وبالأخص منذ أيام الإمام فخر الدين الرازي المتوفي سنة 606 هـ وما أكثر ما وضعه المسلمون في المنطق من تعليقاتٍ وشروح بل إنهم نظموه شعراً حتى يسهل حفظ مبادئه على الطلاب وهو بالطبع شعرٌ تعليمي لا نعده من الفن والأدب ولا يصدق عليه وصف الشعر إلا من باب التجاوز وأهل النقد لا يعدونه شعرا.

 وهناك حقيقة عامة وهامة وهي أن ضعف الإقبال على تعلم المنطق والكلام والعلوم الذهنية وضعف مستوى ما كتب فيها إنما جاء في سياق الضعف الثقافي العام الذي أصاب المسلمين في العصر العثماني، ونحن لا يعنينا في هذا المقال أن ندافع عن الأتراك أو نهاجمهم فلهذا مقامٌ آخر، وإنما الذي يمكن أن نقوله الآن ولا نعتقد أنه محل خلاف هو أن العصر العثماني كان بلاشك عصر الضعف العلمي، سواءً في الفقه أو في الكلام أو في المنطق، وفي المقابل ساد اللامنطق وشاعت بين الناس كتب اليازرجا والطلاسم وفتح المندل، وبعد أن كان العامة يتحصنون بالآيات والأدعية صاروا يستعينون بالأحجبة والتعاويذ، وبذلك لم يتراجع المنطق وحده بل تراجع الدين أيضًا!.

وما قيل في المنطق الذي لم يحرمه أو يجرمه إلا قلة من أهل التشدد يمكن قوله في علوم الأوائل أيضاً (وهي دائرة المعارف التي اكتسبها العرب من ترجماتهم لتراث اليونان بما فيه من فلسفة وميتافيزيقا ورياضيات إلى غير ذلك من العلوم النافعة) وبهذا نعي حقيقة أن المتعصبين لم يفلح تزمتهم في القضاء على الدراسات والبحوث العقلية وإن كانوا قد استطاعوا أن يلحقوا الأذى ببعض المشتغلين فيها، وهذا ما سوف نتبينه من الإطلالة التاريخية التي نعرضها كما يلي.

بدأت حركة الترجمة عن السريانية واليونانية في العالم الإسلامي منذ فترةٍ مبكرة وعرفت نشاطاً واسعاً ومحموداً في العصر العباسي الأول حيث اهتم هارون الرشيد بالعلم والثقافة وجاء من بعده ولده المأمون فقرأ كتب الفلاسفة وتأثر بأرسطو ولعل هذا ما حبب إليه أفكار المعتزلة، وبعد ترجمة كتب اليونان تأثر بهم بعض المسلمين فاشتغلوا بالفلسفة وذهب الجمهور منهم إلى القول بتشابه الفلسفة مع الدين من حيث الغاية المنشودة فكلاهما يرمي إلى تحقيق (السعادة) عن طريق اعتقاد الحق وعمل الخير، وقال الفلاسفة المسلمون إن موضوعات الفلسفة والدين واحدة لأن مصدرهما واحد فهما يفيضان عن واجب الوجود على عقول البشر عن طريق العقل الفعال لأن جميع المعارف ما كان منها بوحيٍ أو بغير وحي تصدر عن واجب الوجود عن طريق العقل الفعال، وكلٌ من الدين والفلسفة يعطي المبادئ القصوى للموجودات.

وكان أكبر هم الفلاسفة المسلمين أن يوفقوا بين الدين والفلسفة في أسلوب قال عنه الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الأسبق / مصطفى عبد الرازق في كتابه " تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية" أنه ليس فيه غالباً شيء من العنف ولا النزوع إلى الكبرياء وإن كان بعضهم فيما يبدو لنا من أسلوبه يعمد إلى مهاجمة الدينيين، وكانت محاولة التوفيق هذه هي مناط الجِدَّة وموضع الابتكار الذي قدمه فلاسفتنا فاستحقوا به أن تكون لهم حقوق ملكيةٍ فكرية إن صح التعبير ويرى بعض المستشرقين أن توفيقهم بين الدين والفلسفة أفضى بهم أن ينقلبوا مبشرين بالإسلام ودعاةً له.

ومع كل ما سبق حاربهم بعض الفقهاء حرباً لا هوادة فيها ونسبوهم إلى الكفر والمروق والزندقة بل رموهم بالغباء والحماقة وقالوا عنهم ما ذكره مالكٌ في الخمر، وبعض الفقهاء تأثر بالفلسفة فلا نجد لديه ذلك الجفاء وإنما هو يتكلم عن الفلسفة وأهلها بشيءٍ من اللين والترفق.

وكما ذكرنا فقد أطلق العرب على ما ورثوه من علوم الإغريق من رياضيات وطبيعيات وفلسفة علوم الأوائل أو علوم الأقدمين وهي تقابل عندهم العلوم العربية وعلى رأسها الفقه والشريعة والتفسير والعقائد، وأصبحت علوم الأقدمين مظنة الكفر عند بعض أهل السنة حتى عندما كانت موضع اهتمام في البيئات الدينية عند المسلمين وعليه فقد كان سهلاً أن يتهم الرجل بالزندقة متى نحا إلى الفلسفة في كتاباته وهذا ما نراه يحدث على سبيل المثال مع أبي زيدٍ البلخي وأبي عبيدة الريحاني وغيرهما.

وقد بالغ المتعصبون في بغضهم للفلسفة حتى أنهم كانوا ينفرون من كل علمٍ يمت إليها بصلة وهذا ما شكا منه الغزالي في معيار العلم على نحو ما أسلفنا، رغم أن الغزالي عند الكثيرين هو دون شك أكبر أعداء الفلسفة المقتبسة من اليونان في تراثنا جملةً وهو الذي حارب أهلها في كتابه "التهافت" ورماهم بالزيغ والحماقة ونسبهم إلى ضعف العقل وغباء التفكير والغرور الشديد مع الادعاء وسوء الظن بالله، وهذا كله وقع من الغزالي ولا ننفيه فهو مسطر في كتبه، والنظر العلمي وحده جعلنا نهمل تلك الأوصاف رغم دفاعنا عن الغزالي، على أنه من غير المقبول وخاصةً بعد القراءة المستفيضة لميراث المشائين العرب أن نجعلهم زنادقةً ليس إلا، وقد كتبت عنهم بحثًا مفصلاً أرد فيه عنهم تهمة الإلحاد وسوف أنشرها لاحقًا بإذن الله.

ورغم أن ابن رشد قد حاول أن يرد على الغزالي بشكلٍ عام وبالأخص في مسائله الثلاث التي كفر فيها الفلاسفة إلا أنه لم يضاهِ الغزالي – فيما يرى البعض- في قوة الحجة وصلابة البرهان وقد أخطأه التوفيق على ما يراه أكثر المحققين، وإن كان يكفيه شرف المحاولة وأن يشكر على مجهوده الطيب.

وأخذ أعداء الفلسفة يصنفون الكتب ويضعون الفتاوى ويقولون لسائليهم من العامة أن الفلسفة هي العلم الذي لا ينفع وقد استعاذ نبينا صلوات الله عليه ربه من علمٍ لا ينفع وذكر ابن تيمية في مجوع فتاواه بالجزء الأول أن العلم هو ما كان موروثًا عن النبي وما سواه فليس بنافع أو هو لا يعتبر علماً وإن تسمى به

وتمثل بعضهم قول الشافعي:

العلم قال الله قال رسولُهُ.. وما عداه فوسواس الشياطينِ.

وقالوا بأن علوم الأولين هي حكمةٌ مشوبةٌ بكفر وهي تؤدي إلى تعطيل صفات الله والاستخفاف بالدين وكل من عُنِي بها فهو مغموزٌ في عقيدته متهمٌ في إسلامه ولا ينجيه من هذا أن يكون ثقةً في علوم الشرع وهذا ما فعلوه مع (الآمدي) رحمه الله حيث تم إيذاؤه بدافعٍ من فتوى ابن الصلاح الشهرزوري المحدَّث والمتوفي سنة 643، ونعرف أن ابن الصلاح ذهب سراً ليدرس المنطق والفلسفة على كمال الدين بن يونس الموصلي فلم يوفق ونصحه ابن يونس بتركهما وقال " يا فقيه المصلحة عندي أن تترك الاشتغال بهذا الفن " وبعدها انقلب هذا المحدث على الفلاسفة وأكثر من ذمهم وله في ذلك فتواه الشهيرة وكان من آثارها ما أصاب (الآمُدِيْ) وكان فقيهاً يشتغل مع نفسه بعلوم الفلسفة والمنطق ولا يدرسهما لطلابه وبعد نزوله إلى القاهرة وتدريسه فيها تطاير شرر فتوى ابن الصلاح فأصابه واتهمه العوام وكثير من المشايخ بفساد العقيدة والقول بالتعطيل واستباحوا دمه فهرب إلى دمشق وجعل يدرس فيها كما كان يفعل في القاهرة لكنه اتهم بنفس التهمة وتم عزله من منصبه!.

وبعد فتوى ابن الصلاح أصبح المنطق حرامًا بالكلية لكن اشتغال الإمام الغزالي به ألان من موقف البعض فنجد أن تاج الدين السبكي وهو من محبي الغزالي يفتي بإباحة تعلم المنطق والخوض فيه متى اطمئن دارسه على قواعد الشريعة في قلبه.

ثم إن عامة من حرموا علم المنطق كانوا من المحدثين وهؤلاء تغلب عليهم الجفوة مع البحث والنظر – إلا ما كان من بعضهم وخاصة الذين جمعوا الفقه مع الحديث- وعلم المحدثين عمومًا يقوم على النقل والحفظ ليس أكثر فهم صيادلة العلم الذين يجمعون الدواء ولكن لا يشخصون المرض ولا ينفعون المريض إلا بأمر الطبيب الذي يعرف العلة ودوائها، والطبيب هنا هو عالم الفقه، وخلاف المحدثين حتى مع الفقهاء من الأمور التي يعرفها الكافة؛ وكان عدائهم لأبي حنيفة بالذات وهو فقيه ومتكلم مثار استياء من بعض علماء السنة الذين وصفوهم بالكسل فهم يتعبون في التثبت من رواة الحديث ثم لا يفكرون في ألفاظه ومعانيه وقد يأخذونه بالظاهر، وتكون النتيجة هذا الفقه الضعيف الذي يحرم كل شيء تقريبًا؛ وإذا نظرت في كتبهم ألفيت ملكة ذهنية قاصرة واستغربت جدًا، ولكن لماذا تستغرب إذا عرفت أن عدم إعمال العقل يصنع الأعاجيب.

ومع مرور الزمن امتزج الفكر الفلسفي مع أبحاث المتكلمين أو علماء العقيدة وأصبح المنطق من المواد التي يدرسها طلاب الشريعة، وفي كلية أصول الدين بالأزهر الشريف قسمٌ خاص لدراسة الفلسفة وهو الذي تخرج منه الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الحالي فالقول بأن الفلسفة حرام أو إلحاد لم يعد له محلٌ من الإعراب وخاصة أن شيوخ الجامع الأزهر أمثال عبد الحليم محمود وأحمد الطيب وقبلهما مصطفى عبد الرازق قد تخرجوا من قسم الفلسفة بل وتعلموها في فرنسا وقاموا بتعليمها في مصر.

 

حاتم السروي

 

في المثقف اليوم