قضايا

جورج برنارد شو الاشتراكي ومحنة الاطباء

جورج برنارد شو اديب وفيلسوف بريطاني ولد في ايرلندا عام 1856 وتوفي في عام 1950 .. لم يكن مؤمنا بأية ديانة لكنه كان يتسامح مع كل الاديان.

عاش في عائلة فقيرة وقاسى مصاعب وعذابات الفقر واضطر لترك التعليم للعمل كموظف. ولأن حياته كانت في بدايتها نضالاً ضد الفقر، فقد جعل من مكافحة الفقر هدفاً رئيسياً لكل ما يكتب وكان يرى أن الفقر مصدر لكل الآثام والشرور كالسرقة والإدمان والانحراف، وأن الفقر معناه الضّعف والجهل والمرض والقمع والنفاق.

حصل على جائزة نوبل عام 1938 لكنه رفضها حين قدمت له وقال: " إن هذا طوق نجاة يلقى به إلى رجل وصل فعلا إلى بر الأمان، ولم يعد يواجه اي خطر.

كانت اعماله ذات طابع كوميدي وكان معروفاً لدى اغلب الناس بكونه كاتب كوميدي مع انه تناول العديد من القضايا الجادة بطريقة كوميدية.

كان من مفكري ومؤسسي حركة الاشتراكية الفابية والتي يطلق عليها اسم "الجمعية الفابية" والتي أسسها عام 1883 اديث نسبت وهيوبرت بلاند .

ويستمد اسم الجمعية من أسم القائد الروماني فابيوس مكسيموس الذي كان يلقب بالمتردد بسبب استخدامه اسلوب الهجمات الصغيرة والسريعة في حربه مع هانيبعل وذلك لضمان الانتصار البطيء المضمون بدلا من الهزيمة السريعة الحتمية . وبذلك تحول لقبه السلبي الى صفة حسنة .

وقد كان اسلوب فابيوس التكتيكي البطيء والمتدرج بمثابة إلهام لاعضاء الجمعية الفابية الذين ايقنوا ان الديمقراطية الاجتماعية ( (social democracy لايمكن تحقيقها عن طريق العنف كما اراد لها المفكرون الاشتراكيون الثوريون مثل ماركس، وانما عن طريق الاساليب الديمقراطية المستمرة والدؤوبة حتى وان كانت تتسم بالبطء.

لقد اختاروا طريق التوعية لتحقيق القبول الشعبي بافكارهم الاشتراكية عن طريق تنظيم الاجتماعات والمحاضرات وتشكيل مجموعات الحوار وعقد الندوات والدورات، وتشجيع البحث العلمي في القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الصعيدين الوطني والعالمي، ونشر الكتب والكتيبات والدوريات واستخدام اية اساليب أخرى متاحة.

لقد كانت الجمعية الفابية من مؤسسي حزب العمال البريطاني، ومع انها كانت تخاطب الطبقة العاملة الا ان عددا من أثرياء المجتمع البريطاني أسهموا بمبالغ كبيرة في تمويل البحوث الاقتصادية والاجتماعية وفي دراسة وتحليل ظروف المعيشة في البلد.

 ذلك يعني أن الحركة الفابية كانت في المقام الأول حركة علمية، كما كانت معتقداتها مبنية على التحليل الدقيق للوقائع وعلى الدراسة. وهذه المقاربة العلمية والحصيفة للاشتراكية جذبت إليها في حينها أبرز الشخصيات التي نشطت في إطار الجمعية الفابية.

ويعود الفضل الى نشاطات الجمعية الفابية في تطور الدراسات الاجتماعية والصحية  ودراسات مستوى المعيشة والفقر .. وكانت تستخدم نتائج الدراسات العلمية لالقاء الحجة على الاحزاب السياسية اثناء المناقشات من جانب اضافة الى الارتقاء بوعي المجتمع وتشجيعه على معرفة حقوقه الشرعية.

ضمن هذه الخلفية الفكرية، كتب برناردو شو مسرحيته المشهورة : ورطة الطبيب، (doctors dilemma) والتي عرضت على المسرح عام 1906.

المسرحية تتضمن انتقادا وهجاءً لمهنة الطب ودعوة الى مراجعة اسلوب حصول الناس على الخدمات الطبية .

انها تناقش اخلاقيات مهنة الطب كموضوع مركزي لهذه المسرحية ..وخطورة ترك حياة الناس وصحتهم واموالهم بيد الطبيب الذي قد تحركه مصلحته الشخصية من حيث الحب او الكراهية او الرغبة بجمع الثروة ويتصرف بناء على ذلك بعيدا عن تحقيق مصلحة المريض بشكل نزيه.

كما انها تتناول النزاع الذي ينشب بين متطلبات مهنة الطب الخالصة بكل ماتفرضه من اخلاقيات، ومتطلبات تجارة الطب كنشاط اقتصادي فردي وشخصي   business

ويستخدم شخصية الطبيب الذي يواجه شحة في موارده ومحدودية في قدرته على استقبال ومعالجة المرضى.

إن المعضلة التي تحمل اسم المسرحية هي تلك التي واجهها الطبيب الجديد، الذي طور علاجًا ثوريًا جديدًا لمرض السل. الا انه يستطيع فقط (بخبرته وقدراته المحدودة، مع عدد محدود من الموظفين المساعدين والموارد)  علاج عشرة مرضى في كل مرة.

ومن بين مجموعة من خمسين مريضاً كانوا ينتظرون، اختار عشرة مرضى فقط يعتقد أنه يستطيع علاجهم ويعتقد أنهم أكثر جدارة بالحفاظ على حياتهم.

ومع ذلك، عندما تقترب منه امرأة شابة جميلة، مع زوجها المريض الذي يوشك على الموت وهو (الزوج) فنان موهوب لكنه غير اخلاقي ويخون زوجته ويقترض المال للانفاق على ملذاته ودون وجود نية لديه باعادة هذا الدين لاصحابه، يكتشف أنه يمكنه  إنقاذ مريض آخر، ولكن يجب التأكد من ان الشخص المعني يستحق أكثر من غيره ان يتم انقاذ حياته.

 ثم يزداد الوضع تعقيداً عندما يكتشف ان صديقاً وزميلا قديما له بحاجة أيضًا إلى العلاج. يجب على الطبيب الآن اختيار المريض الذي سيحفظ حياته :

هل هو الزميل الطبي الذي كان يعالج المرضى الفقراء بسخاء وبلطف،، أو فنان شاب موهوب للغاية، ولكنه فاسد وغير أخلاقي؟

ويجد الطبيب نفسه على الفور واقعا في حب الزوجة الشابة الجميلة والحيوية، وهنا يصبح من الصعب على الطبيب فصل دوافعه عندما يقرر من سوف يعيش.

يصبح من مصلحته (الشخصية جداً) ان يتخلص من الزوج وهذا يتناقض مع اخلاقيات الطب بطبيعة الحال.

انها ورطة حقيقية في تقرير مصير الآخرين وعلى اي معيار يتم اختيار من يعيش منهم!

وتشير مقدمة المسرحية الطويلة التي كتبها برنارد شو، إلى وجود معضلة أخرى:

عندما يكون الأطباء فقراء فانهم يميلون بسهولة إلى إجراء عمليات أو علاجات مكلفة أو غير مجدية (وفي أفضل الحالات غير ضارة) على مرضاهم لتحقيق مكاسب شخصية.

لا يزال موضوع المسرحية يثير الجدل الى الوقت الحاضر:

 عندما تكون هناك علاجات نادرة جدًا أو باهظة الثمن بحيث يمكن لبعض الأشخاص الحصول عليها بينما لا يستطيع البعض الآخر، من الذي يقرر، وعلى أي أساس يتم اتخاذ القرار؟ من يقرر من يحصل عليها ومن لايستطيع؟ وهل حياة أن الانسان وصحته يمكن ان تخضع لوضع من هذا النوع ؟ هل هو اخلاقي ؟

المسرحية كانت تعبير عن التفكير الاشتراكي لبرناردشو وقد احدثت أثراً بالغاً في الاوساط السياسية والاجتماعية وتعتبر من الاسباب الاساسية وراء تبني بريطانيا لنظام صحي يعتبر من بين الاكثر انسانية في العالم الغربي.

كان برناردشو يدعو الى ان يكون توفير الخدمات الطبية من مسؤوليات الحكومة وان توفر الحكومة للاطباء دخلاً يضمن لهم حياة كريمة تدفعهم للاخلاص في العمل. ولايجب ان تكون حياة الناس وصحتهم ميداناً لتحقيق الثروة.

ان الهدف من وراء اعداد ونشر هذه المقالة هو الأشارة الى الدور الذي يمكن ان تلعبه النخب الثقافية والفكرية في تغيير حياة الشعوب ونظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية

من خلال اعمالها الجادة الهادفة التي ترتقي بمستوى الوعي المجتمعي.

 

 

في المثقف اليوم