قضايا
صناعة الخوف.. من "أبو شوال" إلى "فيروس كورونا"
عندما كنا صغاراً كانت الأمهات تدفع أولادها للنوم عن طريق تخويفهم ب“ أبو شوال” و"أبو رجل مسلوخة”. وكنا نخاف بالفعل ونخلد إلى النوم سريعاً، أما مصدر خوفنا فكان من الخطر الذى يمكن أن يأتى بصحبة مجهول، يحمل شوالاً أو يمشى على رجلين مسلوختين، دون أن ندرك محتوى الشوال أو معنى أن تكون الرجل مسلوخة!
وعندما كبرنا قليلاً، ودخلنا المدرسة، سمعنا عن ”حجرة الفئران” التى يُعاقب بدخولها من يرتكب خطأً أو لا يسمع كلام مدرسيه. وهى حجرة لزجة مغطاة بالعسل والحشرات والفئران. وأذكر أنى فكرت كثيراً فيها، وكنت أخمن مكانها حتى عثرت ذات يوم على حجرة مغلقة طوال الوقت، وظننتها هى، فكنت أشعر بالرهبة كلما مررت بجوارها، حتى اكتشفت أنها حجرة عم على، بواب المدرسة، وأنها لا تحتوى إلا على سرير ومقعد وجلباب معلق على الحائط.
وعندما صرنا شباباً سمعنا، فى الجامعة وفى حياتنا العملية، تعبير ”وراء الشمس” الذى يطلق عادةً فى مواقف التهديد، وهى مواقف ترتبط، فى الغالب، بممارسات السلطة، سياسية أو إدارية، لأنها تعنى إرسال الشخص موضوع التهديد إلى مكان ما مجهول، بحيث يذهب دون رجعه. ويقال إن المصطلح يرتبط بالفترة الناصرية، وأن المقصود هو السجون السياسية، وربما يستند هذا التفسير إلى فيلم أخرجه محمد راضى عام 1978 يحمل الإسم نفسه، ويتناول المرحلة ذاتها. وبالرغم من مرور أكثر من نصف قرن على ميلاد هذا المصطلح وفقدانه للكثير من الآثار التي كان يتركها فى النفوس، إلا إنه مازال يتمتع بقدر لا يمكن إغفاله من الحضور فى علاقات الرؤساء بالمرؤوسين في الجهات الإدارية، وفى أحاديث الناس اليومية، باعتباره أداة ناجعة للتخويف.
وفى كل الأحوال، فإن الملاحظ فى هذه الأمثلة أن الخوف يأتى عندما يُواجه الإنسان بالمجهول، حتى ولو على مستوى اللغة فقط، أى مجرد الكلام. فكما يجهل الطفل محتوى الشوال الذى يمكن أن يحمله شخص ما فى الظلام، ويجهل التلاميذ مكان حجرة الفئران، يجهل الكبار طبيعة الماوراء الذى تخفيه الشمس.
وبالرغم من أن هيدجر يميز بين الخوف والقلق، ويرى أن مصدر الخوف هو شئ محدد، وأن مصدر القلق شئ غير محدد، إلا أننا، فيما يبدو، ليس لدينا هذا التمييز، وأننا ربما نشعر بالخوف بنحو أكثر عندما يكون مصدر الخوف غير واضح أو محدد. وليس أدل على ذلك من الهلع الذى انتابنا، منذ عدة شهور، ونحن داخل منازلنا مما أُطلق عليه ”عاصفة التنين”، ومازلنا نستشعره الآن تجاه فيروس كورونا، الذى تحول من محض ظاهرة مرضية إلى أسطورة لها أبعاد سياسية وعلمية ودينية وثقافية وأخلاقية.
وبهذا المعنى، فمازلنا واقعين تحت سيطرة الخوف من المجهول، الذى يحيط بنا من كل جانب، ويتم تغذيته من قبل كل الأطراف، حتى من قبلنا نحن. فالمشهد المعقد الذى نعيشه الآن، وحالة الرعب والفزع التى تهيمن على كل شئ، إنما تجد تفسيرها فى ضبابية الرؤية، وإحساسنا الدفين بأن ثمة شئ ما يُدبر في الخفاء، أو، على أقل تقدير، ثمة مستقبل غامض وخارج عن التوقعات.
فهل مازال الخوف أداة دافعة للنوم والاستسلام المريح، أم على العكس، صار مدعاة لليقظة والوقوف أمام الشمس؟!
د. ماهر عبد المحسن