قضايا

إبداعُنا وحده.. لا يكفي!

مجدي ابراهيمفي قريتنا شيخ وقور جاوز السبعين من عمره، وبلغت به التجارب مبلغها الذي تصفو معه التجربة فتجود بالحكمة الخالصة والكلمة الصادقة والرأي السديد. تبدو على مُحَيَّاه إمارات الذكاء والحضور؛ جلست معه صُدْفة بين من كنتُ أجالس من أبناء قريتي؛ فإذا به يشكو إليَّ رسوب ابنه في إحدى الكليات للسنة الثانية حيث الفصل الذي ما بعده عودة إليها مرة أخرى .. وتطرّق الحديث معه إلى العلم والعلماء، وإلى الرِّدة عنه والفتور منه، وإلى التفوق فيه ثم النكوص عن هذا التفوق، وتحدّث عن الأدب والأدباء وإبداع المبدعين، فإذا به يجود من وحى خبرته بألطف ما سمعت وخبرت، وبأثمن ما قرأت وعرفت من نفائس الوعي والمعرفة وتذوق الحقائق على النموذج الذي لا كُلفة فيه ولا في التعبير عنها حين يُراد من الكلفة الزخرفة والتنميق، أو يُراد من التعبير عنها غير ما هو مكنون في النفس ومبثوث في طويا الضمير.

قال الشيخ المحنّك البصير والذي هو في سن الكهولة : هكذا يا ولدي علمتني الحياة أن العلم مركوزٌ في الطبائع الإنسانية ارتكاز النار في الهشيم؛ ما إن تتوهج شعلة النار في عود واحد من أعواد كومة متراكمة من هشيم حتى تتقد وتشتعل ثم تلتهب وحافزها ما وراءها كامن فيها يدفعها إلى مزيد من التلهب والاشتعال، وكذلك العلوم والآداب والمعارف والفنون مركوزة في طبع الطابع المطبوع على البحث والنظر أو على السليقة العلمية والأدبية متى وجدت الباعث على إخراجها من باطن إلى ظاهر، ومن داخل إلى خارج، ومن مستور خفي إلى مجلو واضح لا ظلمة فيه ولا كثافة.

إذا نحن وجدنا الباعث على إخراج "الجوانيّ" الكامن في أعماق الذات حين تعي جُوَّانيها، صار ما بالداخل قوة حرية بالاهتمام والاكتراث أكثر ممّا نأخذه من ظواهر الأمور وسفاسفها. يكمن الباعث مما لاشك فيه في ذلك الفتيل الأول لإشعال هذه القوة الباطنة المستترة، وهى قوة "الاستعداد". والاستعداد جذوة روحية عميقة ما تلبث أن تهيج في جوف صاحبها حتى تأخذه من فوره إلى البحث والتفتيش أخذاً يَفْرِقُه عن غيره من بني جلدته. قوة الاستعداد من قوة الوجود الروحي، تلك القوة الفطرية في بني الإنسان، يتفاوت الباذلون المجتهدون فيها كتفاوت الأنصبة في موازين الحياة بين الربح والخسران، وتنقسم بينهم - وما هى بالقسمة الضيزى - حسب الجهد المتوافر لخدمة الاستعداد الباعث للعلو والارتقاء : واحدٌ منهم يعليها ويرفعها ويجند نفسه لخدمتها، والآخر يهبط بها إلى الدرجة التي تتلاشى معها فيسقط دونها، فلا ارتفاع إلى حيث ترتفع في موازينه وتقديراته غيرها، ولا رقى لها ولا تجنيد لخدمتها حيث لم تعد هى مصدر اهتمامه ولا مبعث أفكاره وأعماله. واحدٌ راح يراها أقوى من كل قوة سواها، وواحد لا يعبأ بها ولا ينظر إنْ نظر إلى شيء من دلالتها لا لشيء إلا لأنها لا تدرك بالنظر ولا تنال بمدارك المحسوس، على الرغم من أنها توجد للجميع : الغافل منهم والنبيه، واليقظ فيهم لمقوماتها والسَّهيان، الطامع في أن ينال منها حظاً رفيع المستوى والقنوع. تلك إذن ليست بالقسمة الضيزى ولا هى بالجائرة على حقوق العباد والمخاليق.

الكلُّ - يا ولدي - مُدْرِكٌ منها على حسب استعداده، وفورتها فيه من فورة استعداده؛ فإذا أنقسم الناس فيها إلى رجل يرفعها ورجل يخفضها، فالاستعداد في طليعة هذا الانقسام الذي يغلب عليه الإيمان على الجحود والنكران : الإيمان بها كقوة ناهضة للفرد إذا هو فهم هذه القوة، وعمل بما يجعله أهلاً لتلقى مواردها وعطاياها. ثم إذا هو عرف أن هذه القوة من فيض الروح ومن وازع الضمير، يتحرك ما إنْ تحركت ويرتفع متى ارتفعت فيه قواه الصالحة للبقاء وللعلو وللمطالب الإنسانية السامية على وجه العموم. وعجباً كل العجب لهذا الشيخ المحنك الخبير !

على أثر ذلك؛ وقع في يدي على سبيل المصادفة كتاب للأستاذ الأديب "عبد الوهاب مطاوع"، رحمة الله عليه، بعنوان "عاشوا في خيالي"، فرحتُ أقراؤه بتؤدة وتمهل وشغف، فوجدت في فصل منه وعنوانه :" كلهم أبدعوا .. كلهم تعذّبوا" مثالاً نادراً لهذه القوة الروحيّة الصادقة وأثراً ملموساً من آثارها الطيبة؛ فقد أصاب كاتبنا كبد الحقيقة حين أراد بقلمه الأديب أن يصوّر تلك النوازع الإنسانية بقيمها الباقية وأمثلتها العالية في عالم الإبداع، وأتى بأمثلة فذّة من تاريخ الثقافتين العربية والأوروبية نماذج وصوراً للمبدعين الصادقين فيما أبدعوه وصوروه للإنسانية أو فيما تركوه علامة بارزة على مبدعات الخلق والتصوير؛ فمن هذه النماذج الروائي العظيم فيدور دستوفسكي (1822- 1881)، والشاعر الألماني جوته (1749- 1832)، والناقد الإنجليزي صمويل جونسون (1709 - 1784)، والفيلسوف الألماني هيجل (1770- 1831)، والروائي الياباني يوكيو ميشيما، والأديب الأيرلندي برناردو شو والفنان الشاعر جبران خليل جبران، والرسام الفرنسي بول سيزان (1839 - 1906)، وعميد الرواية العربية نجيب محفوظ، والفنان شارلي شابلن، والمفكر الفرنسي فولتير؛ فهذه هى مجمل الأسماء التي ألقى عليها الكاتب ظلالاً من العذاب : عذاب الفكر والإبداع، فأتخذها مستنداً لكل إبداع جميل، يعذب أصحابه بالفكرة تارة، وبالنتيجة والعاقبة تارة أخرى، وبعدم الرضى عما يبدعه الفكر فيهم، وهم بالطبع يبدعون ويحسنون.

والإبداع ألمٌ وأوجاع. ما في ذلك شك ولا على هذا خلاف! لكن الذي أريده أنا من وراء سطوري هذه (أيام أن صدر الكتاب في حياته رحمه الله) أن أذكّر الكاتب - ولا أحسبه ينسى أن فضيلة الإبداع الجميل إنما هى فضيلة روحانية، وأن الشعور بالعذاب عند المبدعين إنما هو شعور بالعذوبة : عذوبة الفكرة وتحقيق الذات، ما إن تنسلخ الفكرة من قرائحهم حتى تضفي على الذات ضرباً جديداً من الوجود الروحي؛ لأنها من فورة الروح تنسلخ لا من شيء آخر غيرها، ويعيش الفنان فيها من أجل الروح، ولا يشعر بالعذاب أو العذوبة إلا لأن توقان الروح عنده كان ومازال مبعث هذا العذاب. وفي لحظات الغسق البهيم يصيبه التَّقحم والإفتيات لكأنه ينادي ربه فيقول : أين وجودك تصلح لنا به الأحوال ؟!

ويقشعر بدنه بقشعريرة أليمة لظمأ الروح بداخله؛ فلا هى أوردته موارد المعرفة، ولا هى أسلمته إلى حاله فتتركه وتصعد إلى بارئها، ويضيق من حوله الوجود كما لو كان غسق الدُّجى لا يسفر عن فلق بهيج، ولا يشع ضياؤه بومضة نور ولو باهته. حاله - كما ترى- فلقه معتم الظلمة وشعاعه باهت الأنوار، وكله يذوب في كله حنياً إلى مطلع النور بعد شدة الغسق ومحاجيب الضياء! وتتردد أحواله بين مطالب الجسد وأهواء النفس، وبين رياض الإيمان وقفزات الروح، ولا يثبت حال من الحالين فيستريح، ولا تقر حالته على أمر عال وهو بين الشدِّ إلى هنا والجذب إلى هناك. رياض متعته أضحى منهوكاً لفرط ما يصيبه من جرّاء الصبوات. وتوقان الروح عنده صار معتلاً ليس له علاج إلا أن يكون علاجه الذي لا علاج غيره في هذا "الموات" لكل نزوات البدن ولجميع مطالب الأجساد !

وفي هذه اللحظات يتستّر المبدع برداء الفضيلة، ويستنكف أن يدعو ربه ويناجيه أن يخلع عليه كل رداء سواه : ففي خشوعه عناؤه، وفي ابتهاله بلاؤه، وفي مناجاته عذابه، وفي دعواه شقاؤه. هو القتيل على مذبح العشق المورود، وهو الغريق في بحر الوداد المفقود، وهو المحب حباً لا مَشْبَه له في هذا العالم المنكود، فلا الدنيا يريد ولا الآخرة يبغي، وإنما توقان الروح علواً في صعود مطلبه ومراده !

عنده أن الدنيا عمل بلا جزاء، وأن الآخرة جزاء لما هو خليق بالجزاء؛ فلا هو ابن للدنيا ولا الآخرة جُعِلت لأمثاله من الأشقياء. فإلى موارد الهلاك ظن موردته، وإلى النقاء الصادح بصرخة الروح رمى شباكه فما اصطادت غير عكارة من طين! يعلل مسعاه بمستقبل فريد، فما انفردت نفسه إلا بخيبة ظاهرة وخسران أكيد ويؤمل النفس بخيرورة المقاصد ونبل الأهداف واتساع الميادين ومجد الدارين، ثم تفجأه الحياة في كل أمل بكبوة ككبوة الأبجر في ربع الخراب، وتتطاير روحه مرفرفة في عليائها عشقاً إلى نغم الخلود فلا يظفر صاحبنا إلا بردة عنيفة كرّدة الجبان المخذول أو بغتة شديدة كبغتة الأجرب المنفور ..! فماذا يبقى لمثله إلا صنوف العذاب؟!

لا جَرَمَ أن الإبداع طريق البصيرة الهادية إلى أصدق طوايا النفس الشاعرة بقيمتها؛ لأنه الطريق الأوحد إلى تحقيق "القيمة" في عالم الفكر كما ينبغي أن يكون التحقيق في الواقع الفعلي، بل هو طريق إلى كل "وعى" متحقق بذاته إلى وجوده الروحي الذي يجعله أهلاً لكل قيمة مبدعة ولولا هاته "القيمة" الواعية بذاتها ما أبدع المبدعون، وما كان إبداعهم قط كافياً لأن يتصفوا بهذه الصفة الروحيّة، وما كانوا تعذبوا دوماً بعذاب الإبداع.

إنما هى نفثة جُوَّانيَّة من روحانية الوجود الشاعر بوجوده، تتلقاها الذات المبدعة بأفضل ما تتلقى به أسرار الحياة، وهى إذا توهجت واشتعلت في ضمير الإنسان ووعيه رأيت لا شك منها ألواناً من التفرد والإبداع، وضروباً من العنت واللامبالاة بأوهام الناس وطبائعهم وأشكالهم واهتماماتهم التي تشغل عن اهتمامات المبدعين وتهبط دون تفهم أقدارهم العالية أو تدرك مطالبهم الخفية. لا جَرَمَ أنه لعنت يجافي الطبع المستقيم، ويخلق للنفس طبعاً جديداً على الاستقامة الصالحة (استقامة صالحة وصادقة حسبما يرى هو من صلاحها ومن قوتها ومن صدقها) والتي تتفق مع طبيعة المبدع فيما أبدع من فنون الشكل أو فنون المضمون.

رأيتَ الكاتب في مقاله هذا؛ يحكي لك ألواناً من عذاب المفكرين والفنانين، هؤلاء الذين تعذبوا بالفكرة وشعروا بالعذاب مع كل تفكير، مرة يتحرَّقون ألماً لمجرد شعور يراودهم، ومرة أخرى تأكل عقولهم من أجسامهم، ومرة ثالثة لا يجدون ما يقولونه للناس أو هكذا يظنون. إنّ منطقهم الإبداعي أعمق من تصور الآخرين وأصدق؛ لأنه منطق قائم على الوجدان، ومنطق الوجدان إذا صدق فهو منطق الوعي الذي لا يكفُّ عن قلق المعرفة في ضمير صاحبه، فلا هو مع الراحة في ارتياح ولا هو مع التعب في تقدير ومثوبة وحُسن جزاء، ولكنه مع ذلك يشعر بمتعة الإبداع ذاتية خاصة وخالصة، ويتذوقها بغير طلاء ولا زركشة، وبغير مقابل من سمعة أو جاه منتظر؛ لأنها في ذاتها "قيمة"، وقيمتها كامنة فيها بغير مراء. ويوم أن يخلو الإبداع فيموت عن هذه القيمة، فلن تكفيه أنفاس المبدعين تعزيةً حسرات وزفرات، ومع أن منطقهم أعمق وأجلُّ من كل منطق يتصوره الآخرون إلا أن النقص - شعوراً منهم - يلازمهم في كل عمل يعملونه ويقدّمونه لغيرهم من الآدميين، وهم به غير راضين ولا محبورين، لماذا؟ لأن جذوة الروح أكثر توهجاً من معنى اللفظ في أدائه، أو العبارة في تركيبها، أو الرواية في صياغتها وبنائها، أو القصيدة في نظمها، أو الفكرة في ثوبها القشيب؛ فلا يجدون ما يُشفي غُلة الثورة الروحيّة بداخلهم، ولا يطفئ وهج الشعلة الذاتية في أعمق بواطنهم، فيتعذبون بما يبدعون لا لشيء إلا لأجل ما يبدعونه في عالم الفكر والفن والأدب على وجه العموم.

وعلى كل ما أعجبتُ به في هذا الكتاب الممتع، غير أنني أخذتُ على كاتبنا الأديب في هذا الفصل المتع أيضاً. ولك أن تلاحظ أنني كررت كلمة "الممتع" عمداً وبالتعريف، لتدرك معي أن قيمة الأدب الحقيقية من قيمة الرجل، وأن الرجل الحق هو ذلك القلم الأريب الذي يسطر لك مثل هذا العذاب الجميل. وإني لأحسب أن في مثل هذا التوافق النفسي، ومثل ذلك التعاطف الفكري مع الأدباء والمفكرين المعذبين لصفحة تجلو لنا سمات الكاتب في كتابه مع قلمه المعبر ورأيه الذي يراه مع وضع الاعتبار الفارق بين كاتب وكاتب : بين كاتب يكتب، ليروج لتجارة يتَّجر بها، وكاتب يكتب؛ لأن قلمه المعبر قاده للكتابة والتعبير لأجل فكرة يجلّيها أو قيمة يعليها أو مذهب في ميدان الرأي والتفكير يتمذهب به غير مشكوك في صلاحه وفي تقييمه بين الكاتبين. وما ينطبق وصفاً على مثل هذا الكاتب ينطبق على المبدعين أجمعين؛ فالإبداع وحده لا يكفي ما لم يعل قيمته التي هى محفورة فيه، وما لم يجل فكرته التي تميزه عن غيره من هذا الواغش البشري الذي لا يتوّرع عن ادعاء الإبداع دون أن يملك أسبابه أو يعرف وسائله.

أقول؛ وعلى كل ما أعجبتُ به في هذا الكتاب الممتع الصغير، وودت لو أن كاتبنا الأديب قد أشار ولم يغفل جوهر المشكلة في هذا العذاب الذي يتعذَّب به المفكرون والأدباء والفنانون والمتفلسفون وأولو الرأي في هاته الدنيا العجيبة؛ ما هو جوهرها الأصيل؟ ألم يكن ذلك الجوهر الذي ينخر في جسد تتردد فيه روح تواقة إلى الخلود وَعَشَّاقة للمعاني، تنظر إلى الألفاظ وتراكيب المباني نظرتها إلى أرواح حيّة؟ لقد أغفل الكاتب جوهر المشكلة وهو "وجود الإنسان الروحاني" محرك كل هذا، وأبعد من هذا، وهو في المستطاع! لو لم يكن الأصل الأصيل في هذا كله هو ذلك الوجود الروحي الذي يتردد في أجساد تتحرك وفقاً له، وترتاح لهذا التحرك لما كان مثل هذا العذاب أعجوبة من أعاجيب النظر القريب .. ولك أن تتأمل مثل هذه العبارات التي كتبها المؤلف في فصله المذكور وتبحث فيما تحتها من أغوار فلن تجد عمقاً أغور ولا أبعد من ذلك العمق العميق الذي نطلق عليه بـ "ثورة الوجود الروحي"، يتعذب بعذوبته المبدعون والفنانون.

قال الكاتب :" وعذاب الفنان الحقيقي لا يقتصر فقط على إحساسه غالباً بأنه لم ينل ما يستحقه من تقدير، ولا على خوفه الدائم من ألا يجد ما يقوله أو يبدعه للآخرين، وإنما يمتد أيضاً إلى جحيم آخر .. هو جحيم الشك في قيمة ما ينتجه ويبدعه، وجحيم الشك في جداوه؛ فالأديب والفنان والمفكر ليس على يقين لحظة واحدة من قيمة ما يبدعه، وهو يحسُّ دائماً بأن أفكاره تتلاطم داخله، وتبحث عن طريق تخرج منه إلى النور؛ فإذا أفرزها تعذب دائماً بإحساسه بأن ما أراد أن يقوله أقل بكثير مما "أستطاع" أن يقوله". وعلامتا التنصيص في كلمة "استطاع" هذه هما من وضع الكاتب، ودلالتهما فيما أعتقد أن هذه الاستطاعة باقية ما بقيت "ثورة الروح"، قويّة ما قويت هذه الثورة، ضعيفة فاترة ما ضعفت في الفنان ثورته الداخلية وفترت؛ فإذا ما اشتدت وقويت وتوهجت صار الإبداع قبساً من شعاعها الوهاج. وأن مَرَدُّ ذلك التذبذب الدائم في جوف الفنان الأصيل لا يعدو أن يكون تردداً من ومضات الروح لا تلبث على قرار.

والروح في ومضاتها الإبداعية كالحال الذي يُعَانيه الصوفي في معراجه الروحي : يَرد على القلب بمحض الموهبة من غير تعمُّل واجتلاب؛ كحزن أو خوف أو بسط أو قبض أو ذوق ويزول بظهور صفات النفس؛ وكذلك تكون حال المبدع وهّاجَة بمحض الموهبة من غير أن يتعمد اجتلابها ولا يتعمَّل حضورها .. حينذاك يكتب ويبدع، ويخلق وينشئ، وفق هذه الحال. وقد عرفت أنها حال تتردد فيها الروح بين القبض والبسط وبين الخوف والحزن؛ فإذا ما غادرته هذه الحال وارتفعت عنه شَعَرَ بقبضة ليس بعدها قبضة، وبحزن ليس وراؤه فرح، وبعذاب ليس بعده سرور ولا اغتباط. وتجود قريحته مع الصبر الجميل وتعاوده هذه الحالة ويبدع إبداعه الأصيل مع شيء من الفرح فيما يبدع ومن النشوة الروحيّة الملازمة لهذه الحالة حين تعود بعد غياب بل ومن الحزن عليها حين تغيب؛ فليس أقسى على المبدعين والفنانين والمفكرين من غياب هذه الحالة بعد أن تعودوا عليها وعلى صفائها معهم وصفائهم معها؛ فذلك هو الحزن الأليم .. وذلك هو العذاب المقيم !

وماذا بعد؟ أفلا يكون كل هذا العذاب أو مثله ضرباً من ضروب التردد الروحي بين القبض والبسط أو بين الحزن والفرح أو بين الخوف والرجاء إدراكاً للحقيقة المثلى والخالدة، وجهداً حثيثاً للوصول إليها والبقاء معها؟ ذلك هو ديدن الفنان الأصيل، كما هو ديدن الوجود الروحي في الإنسان على أرفع مسالكه وأبدع عطاياه.

 

د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم