قضايا

فهمي جدعان ومحنة خلق القرآن (1)

محمود محمد عليلا شك في أن الحديث عن المفكر والمبدع فهمي جدعان متشعب جداً، فهو واحداً من المفكرين العرب الليبراليين الذين تعاملوا مع الفلسفة بروح تجديدية منفتحة، وهو من الباحثين الجادين الذين لا يثيرون الجدل بكتاباتهم بقدر ما يثيرون الإعجاب ويدفعون إلي التأمل، حيث يمتلك القدرة علي النفاذ إلي بواطن الأمور، وهو رائد من رواد التنوير وعملاق من عمالقة الثقافة العربية.

قال عنه الأستاذ جمال الدين فالح الكيلاني:" يربط المفكر العربي الدكتور فهمي جدعان الأفكار والتمثّلات الفلسفيّة في مشاغله كافة بمعين الوجدان، ونهر الحياة، وقوة الأمل، فهذه في نظره من المحدّدات التي يعوّل عليها من أجل تعبيد السبيل أمام الأجيال القادمة، والحيلولة دون إنتاج المزيد من الآفاق المسدودة. ويعتقد جدعان أنّ المثقف يحتاج، كي يفهم الواقع ويحلّله ويوجهه، إلى المفكر وأدواته العلميّة والفلسفيّة المنضبطة والضابطة؛ لأنّ التعويل يكون على «قول» المفكر، لا على «رغبة» المثقف. ويدافع جدعان، عن حتميّة البرمجة الوجدانيّة «الصحيّة»، النبيلة، النّزيهة لأبنائنا، اليوم وغدًا، ففي نظره أنّ غياب هذه القيم والمبادئ، التي ينبغي أن تقترن بها التربية الوجدانيّة المبكّرة، هو الذي يفسّر التدلّي والتخلف والعقم الذي يغلّف ويتلبّس هذه الأجيال المتأخرة من شعوبنا العربيّة".

وفهمي جدعان ( مع حفظ الألقاب) هو  مفكر أردني من أصول فلسطينية، من مواليد سنة 1940م، في بلدة عين غزال الفلسطينية، درس الفلسفة في جامعة السوربون وحصل منها على شهادة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام سنة 1968م، عمل أستاذا للفلسفة والفكر الإسلامي في جامعة الكويت والجامعات الأردنية، وشغل منصب عميد البحث العلمي بالجامعة الأردنية، ونال عضوية مجلس إدارة معهد العالم العربي في باريس بالفترة من 1980 حتى 1984، له آراء جدلية حول الإسلام السياسي  حاصل على جوائز عديدة، كما تم اختياره لعنوان الشخصية الفكرية لعام 2013 من قبل بعض المؤسسات الثقافية في بلده.

من أهم إنجازاته وأعماله : أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، والمحنة – بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام، والطريق إلى المستقبل: أفكار – قوى للأزمنة العربية المنظورة، والماضي في الحاضر: دراسات في تشكلات ومسالك التجربة الفكرية العربية، ورياح العصر: قضايا مركزية وحوارات كاشفة، وفي الخلاص النهائي: مقال في وعود الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين، والمقدّس والحرية، وخارج السِّرب – بحث في النِسْوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية.

علاوة علي بحوثه الكثيرة نذكر منها : الكتاب والحكمة، والطريق الملك، ومعنى السلفية، والعالم بين حدين، ونظريات الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، والمعطيات المباشرة للإشكالية الإسلامية المعاصرة، ونظرة طائر": بانوراما الفلسفة العربية، والفارابي: مدخل إلى تجربة العلم والفعل عنده، وهوميروس عند العرب، والمرْكَب والمجاز، ونظر في التراث، وفكرة التقدم عند المفكرين العرب في القرن التاسع عشر، وابن خلدون في الفكر العربي الحديث، والإسلام وأوروبا: الثقة المفقودة، والإسلام وتحولات الحداثة، والمستقبل العربي في ضوء قيمة التواصل، وهواجس الأزمة وأحكام الفعل، والثقافة الكونية والنظم الثقافية العربية، والحضارة المعاصرة ومُشْكِل البدائل، والديمقراطية من منظور تنويري، وفي العدالة والشورى والديمقراطية، والسلفية: حدودها وتحولاتها، والطاعة والاختلاف بين الواجب وبين الحق في الإسلام، وأسئلة المستقبل، والحركات الإسلامية المعاصرة.. الخ..

وفي هذا المقال نود أن نناقش موقف فهمي جدعان من المسائل الخطيرة التى وقعت فى التاريخ الإسلامي ما سمى بقضية "خلق القرآن"، والتي كان ضحيتها عدد من رجال المجتمع فى العصر العباسي؛ خاصة فى عصر الخليفة المأمون، على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل، وهذا ما يناقشه كتابه "المحنة: بحث فى جدلية الدينى والسياسي فى الإسلام" والصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر في مايو 1989م.

ويبدو أن محاولة عرض كتاب ما " لا يمكن أن تقوم مقام قراءته " ولهذا غالباً ما يكون عرض كتاب يشكل صعوبة لا يسهل تذليلها، وإذ قمت بقراءة كتاب المحنة للمرة الثانية للقيام بمهمة عرضه، والإشارة إلى مواضيعه، فإنني أعترف صراحة: أنَّ عرض كتاب المحنة يكاد يكون مستحيلاً، لتماسك مادته، وشدة كثافتها، وما تثيره مادة الكتاب من طلب للبحث والاستقصاء خارج الكتاب، فهذه القراءة هي مجرد محاولة للدخول إلى الكتاب.

فبعد أربع سنوات من البحث، قدم فهمي جدعان دراسته التي حملت عنوان المحنة".. بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام، حيث صدرت عن دار الشروق بعمان – الأردن، ويقع كتاب المحنة  في أربعمائة وثماني وأربعين صفحة ، أتت من القطع المتوسط، قسمه المؤلف علي مقدمة ومدخل وخمسة فصول، عرض فيها وقائع محنة خلق القرآن في إطارها الزمني وتصاعدها حتي انتهائها علي يد الخلفة المتوكل ليثير البحث نقاشاً واسعاًً بين المهتمين بالتاريخ الإسلامي ومحنة خلق القرآن والتي اُعتبرت إحدى أهم الجدليات في تراث المسلمين ؛ حيث يقول فهمي جدعان في حقها :" وأنا إذ أُعاود النظر في هذه القضية المعقدة، أُدرك منذ البداية أنني أخوض معركة البداهات هي خصمي الألد فيها، وأنني أسير تماما في الاتجاه المعاكس لمجري التيار، وذلك عند  أمرين أثنين علي الأقل : الأول : أنني أري أن أنأي بالمعتزلة نأياً يشبه أن يكون تاماً عن عملية " الامتحان" التي نسبت إليهم، وأن أرد الأمور إلي نصابها في هذا الشأن لحساب التاريخ "... الثاني : وهو الأخطر والأجل، أنني أريد أن أنظر في مسألة المحنة لا بما هي قضية كلامية أو اعتقادية خالصة، وإنما بما هي حالة أبين إبانة بينة عما يمكن أن تكون عليه صيغة العلاقة بين السلطان أو الأمر من وجه، وبين الطاعة أو الإجابة من وجه آخر.

ولذلك يرى فهمي جدعان أن قضية "محنة خلق القرآن" هي واحدة قضايا الفكر الإسلامي التاريخي القابعة في كهف الغرابة والليل الطويل، وأن النظر السديد يقضي بإزاحة الستار عن وجهها وبتجريد دلالتها البعيدة لا في إطارها العقيدي والتاريخي المعاصر لها فحسب، وإنما أيضاً في حدود بنية الفكر الديني والسياسي الذي يمد جذوره في عصور الإسلام الأولى وينشر فروعه في أعصرنا العربية والإسلامية الحديثة والمعاصرة. فكان ذلك مشروع هذا البحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام.

لقد بدت للباحث أن الأمور مختلفة كل الاختلاف عن كل ما قيل في مسألة خلق القرآن، وهو يزعم أن مجموعة من الأخطاء قد وقعت، وأن النظر ينبغي أن يرجع من جديد في دلالة الواقعة برمتها. وهو في هذا الكتاب يعاود النظر في هذه القضية المعقدة، مدركاً منذ البداية أنه يخوض معركة "البداهات" هي خصمه الألد فيها، وأنه يسير تماماً في الاتجاه المعاكس لمجرى التيار، وذلك عند أمرين اثنين على الأقل: الأول، أنه رأى أنه ينأى بالمعتزلة نأياً يشبه أن يكون تاماً عن عملية "الامتحان" الذي نسبق إليهم، وأن يرد الأمور إلى نصابها في هذا الشأن "لحساب التاريخ". الثاني: وهو الأخطر والأصل، أنه أراد أن ينظر في مسألة المحنة لا بما هي قضية كلامية أو اعتقادية خالصة، وإنما بما هي "حالة" تبين إبانة بينة عما يمكن أن تكون عليه صيغة العلاقة بين السلطة أو الأمر من وجه، وبين الطاعة أو "الإجابة" من وجه آخر، في دولة هي "دولة الخلافة"، لا شيء يحول دون اعتبارها أكمل ممثل تاريخي لما وصل إليه "الملك" في الإسلام، بتعبير آخر أراد أن يرفع الغطاء عن المعقولة السياسية لما يسمى بـ"بمحنة القرآن".

لم يأت الكتاب ليؤرخ للمحنة أو ليعالج الوجه الكلامي الخالص أي ليجيب على مسألة خلق القرآن بالنفي أو الإثبات وإنما جاء الكتاب ليزيح الستارة عن وجه المحنة ويوجه الأنظار لدلالاتها السياسية ومن هنا أستمد موضوع الكتاب قيمته إذ يتجاوز البدا هات الخاطئة التي استقرت في الأذهان من مجرد نطق اسم أحمد بن حنبل أو المعتزلة أو خلق القرآن، إذ ما أن ينطق بها أيُ من الناس حتى تستدعي صورة حدث تاريخي درامي صورة احمد بن حنبل المحدث فقط وقد قطع حجة خصومة المشهورين بقوة الجدل والحجاج ولم يجْد هؤلاء الخصوم إلا أن يتحولوا إلى جلاوزة يمسكون السوط يلهبون جلد احمد بن حنبل وتشبع السياط من جلده دون أن يتزحزح عن موقفه قيد أنمله إذ هو ثابت كالطود الأشم ! . ويعلن الدكتور فهمي منذ البداية في المدخل (ص 12) أنه يسير تماماً في الاتجاه المعاكس لمجرى التيار وذلك عند أمرين اثنين على الأقل.

الأول : أنه نأى بالمعتزلة نأياً يشبه أن يكون تاماً عن عملية الامتحان التي نسبت إليهم وأنه يَرُدُّ الأمور إلى نصابها في هذا الشأن لحساب التاريخ، والثاني أنه يريد أن ينظر في مسألة المحنة كحالة تبين إبانة بينة عما يمكن أن تكون عليه صيغة العلاقة بين السلطة أو الأمر من وجه وبين الطاعة من وجه آخر في دولة هي دولة الخلافة لا شيء يحول اعتبارها أكمل ممثل تاريخي لما وصل إليه الملك في الإسلام. ويقتضي التاريخ التحفظ على المحور الثاني وخاصة اعتبار الخلافة المركزية الممثل التاريخي لما وصل إليه الملك في الإسلام إذ تتضمن هذه العبارة إسقاط المحور التاريخي المتمثل في العديد في المحاولات لإزاحة هذا الملك العضوض ومع أن الكتاب في فصله الثالث " الدواعي والرجال " يشير إلى بعض من هذه المحاولات ولكنه لا يربط هذه المحاولات في الأسس الفكرية التي يستند عليها. ومع أن الدكتور جدعان أعلن بداية انه غير معني ببحث الوجه العقدي في قضية خلق القرآن إلا أنه اضطر في المدخل الذي استغرق الصفحات من (11- 44) أن يتعرض للأقوال المتعددة في مسألة خلق القرآن متعرضاً للرأيين اللذين يستحيل التوفيق بينهما على وجه ما وعرض أربعة آراء أخرى تشكل مواقف متوسطة أساسية متوقفاً عند حدود العرض مما يجعل القارئ محتاراً لا يدري بعد أن ادخله الكتاب إلى صميم هذه المسألة ما رأي الدكتور في تلك المسألة، ولقصور حيثيات المسائل المعروضة يبقى القارئ في حالة من الفراغ حول هذه المسألة، إلاَّ القارئ الذي له موقف مسبق في هذه المسألة .

وهنا يذكر الدكتور نارت قاخون (الباحث في التاريخ الإسلامي) : كتاب المحنة للدكتور فهمي جدعان هو نتاج سنوات من البحث في تجلية مسألة مهمة جدا مرتبطة بتاريخنا الإسلامي، وعنوانها " المحنة "، وقد صدر في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي ، وتُلقي بقبول حسن عند جمهرة من الباحثين ولا سيما المختصين في الشأن الفكري .

وقد هاجم الكتاب الدكتور عطا الله المعايطة ( أستاذ العقيدة والمذاهب والأديان بالجامعة الأردنية) حيث  قال : من القضايا التي نتعجب منها أن هؤلاء الذين يكتبون بهذه الطريقة من أمثال جدعان في هذا الكتاب أنهم يناصرون المتناقضات، وإذا جاءوا عند علماء السلف وقفوا لهم بالعداء، وهذه الطريقة لاشك أنها طريقة انتقائية ظالمة ليس لها ميزان عادل وهذا مع الأسف الشديد ما رأيته في كتاب فهمي جدعان"...

ويقول الدكتور إبراهيم عوض (أستاذ النقد بجامعة عين شمس): كتاب الدكتور فهمي جدعان بالمناسبة هو محاولة لتبرئة أهل الاعتزال من تحمل هذه التبعة، ومن الممكن أن يكون كلامه صحيحا، لكننا نعرف أن عددا من أهل الاعتزال كتبوا في خلق القرآن كتباً يدافعون بها عن هذه الفكرة وعلي رأسها طبعا الجاحظ"...

طرحت الدراسة أفكارا جديدة  تنسق السائد والمتداولة حول محنة خلق القرآن وتقلب الطاولة علي ما شاع في الحقل العلمي حول تلك المحنة من روايات رآها فهمي جدعان ضعيفة، اعتمدها الباحثون كنوع من الكسل العقلي والركون إلي السهل والمتداول ... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

......................

المراجع

1- فهمي جدعان : المحنة؛ بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام (كتاب)

2-قناة الجزيرة: خارج النص- "المحنة".. بحث في جدلية الديني والسياسي (يوتيوب).

3- أحمد إبراهيم الشريف: قرأت لك.. المحنة.. لماذا اشتعلت فتنة خلق القرآن؟  (مقال) باليوم السابع المصري.

 

 

في المثقف اليوم