قضايا

نصر حامد أبو زيد.. التفكير في زمن التكفير

يسري عبد الغنيأتفقنا أو أختلفنا فقد فقد الخطاب الإسلامي التجديدي برحيل المفكر الكبير نصر حامد أبو زيد –الذي نتذكره-أحد أهم أعلامه المستنيرة والشجاعة التي سعت إلى تحرير النص القرآني من قيود القراءات التقليدية والأيديولوجية وإعادة تفسيره وتأويله من منظور واقع الحداثة ونقله إلى فضاء معرفي جديد. كم نخن في حاجة الى أن نستذكر ملامح الإرث الفكري للراحل أبو زيد.

من مفارقات السجالات الفكرية المعاصرة حول ضرورة تجديد الفكر الإسلامي وتطوير آليات علمية جديدة لدراسة فقهه وتوظيفه من أجل مواكبة مسار الحضارة والتجاوب مع متطلبات العولمة وتعقيدات الحداثة، أن معظم المفكرين الإصلاحيين والتجديديين المسلمين يحظون باهتمام عامة الجمهور في دول العالم الإسلامي وباهتمام الرأي العام الغربي ليس بسبب اجتهاداتهم الفكرية وإنجازاتهم العلمية المميزة، بل بالدرجة الأولى لأنهم يعايشون محنة العالم الإسلامي وعواقب "التفكير في زمن التكفير"، باعتباره أعم أعراض الجمود الفكري وتغييب العقلانية وهيمنة الغيبيات والنظرة الدوغمائية على الخطاب الديني، علاوة على توظيف الفقه الديني لخدمة أغراض سياسية.

وعلى ما يبدو يجب أن يتحول مصير هؤلاء المفكرين النقديين إلى تراجيديا خاصة، أو بتعبير آخر، يجب أن تتحول محنة الخطاب الديني إلى محنتهم الشخصية كي يتم إدراك أهمية هؤلاء المجددين. هذه المفارقة المحزنة مثلتها مسيرة أبو زيد الفكرية ومحنته الشخصية بامتياز، كما جسدتها من قبل معاناة الفيلسوف ابن رشد، الذي كان علماء الدين ووعاظ السلاطين في زمانه "يكفرونه" صباحا ومساء والناس يرمونه بالحجارة عقابا لأفكاره

عواقب التفكير

عندما طرح  أبوزيد مسألة «نقد الخطاب الديني» وقدّم بحثه بهدف الترقّي في الجامعة عام 1993، قامت الدنيا ولم تقعد. رأى بعض الأساتذة في جامعة القاهرة، على رأسهم عبد الصبور شاهين، أنّ طرد نصر حامد أبو زيد سيكون بمثابة «انحسار للعلمانية في الجامعة». وسارع شاهين إلى كتابة تقرير ساخن يرفض الترقية، ويتهم الباحث الذي يطلبها بالكفر. واكتملت الدائرة المرعبة بدعوى التفريق بينه وبين زوجته ابتهال يونس أستاذة الأدب الفرنسي في جامعة القاهرة. هكذا، وجد أبو زيد نفسه «مطلوباً» وأمام خيارين: إمّا أن يذهب إلى المحكمة ويتراجع عن بحثه وينعم بالتالي بحماية المؤسسة الدينية، أو أن يرمي نفسه في أحضان المؤسسة السياسية التي تريد استخدامه في معركتها ضدّ تيارات التأسلم. كلا الحلّين كان سيضمن له الحماية التي افتقدها بعد تكفيره، وكلاهما كان اعترافاً منه بالهزيمة أمام محتكري الحقيقة المطلقة. لكنّ نصر اختار حلّاً خاصاً به، فحمل حقائبه واتجه إلى هولندا استجابة لدعوة من جامعة ليدن، وبقي هناك أكثر من 15 عاماً لم يزر فيها مصر إلا نادراً.

كان بإمكانه الذهاب إلى المحكمة والنطق بالشهادتين، ليحلّ كلّ تلك الأزمة، لكنّه لم يفعل. «لم أكن أريد التأسيس لسلطة تبحث في قلوب الناس». المفارقة أنّه استهلّ أول محاضرة له في هولندا بالبسملة ونطق الشهادتين. قائلا...كنتُ خائفاً من أن أستقبل في أوروبا باعتباري متمرداً على الإسلام، وأنا لست كذلك. نطقت بالشهادتين حتى أقول لهم إذا كنتم تحتفون بي لاعتقادكم بأنني ضد الإسلام فذلك خطأ، لأنني باحث من داخل دائرة الحضارة العربية الإسلامية.

الدين للحياة

فصل الدين عن الدولة غير فصل الدين عن المجتمع، لا يستطيع أحد أن يفصل الدين عن المجتمع، الدين تاريخيا مكوّن اجتماعي، وليس مجرّد مكوّن شخصيّ أو فرديّ. قد يبدأ الدين كذلك، أي يبدأ تجربة شخصية فردية، وقد يظلّ كذلك في بعض التجارب

في ختام احدى المناظرات الجدلية، رد فيلسوف التنوير فولتير على أحد نقاده قائلا: " أنا أرفض أفكارك وأطروحاتك جملة وتفصيلا، لكنني أول من سيدافع عن حقك في التعبير عنها في كل زمان ومكان". وفي الواقع إذا عدنا إلى بدايات مسارات أبو زيد الفكرية، فإننا سنجد أن نقيض هذا الفكر العقلاني المستنير، أي الفكر الظلامي المتأدلج، هو الذي أدى إلى ملاحقة هذا العقل الاجتهادي، واتهامه "بالكفر" من قبل لجنة "علمية" لم يقرأ أعضاؤها كتبه أو لم يفهموا نتائج أبحاثه.

أعداء الفكر الاصلاحي النقدي لنصرأبو زيد لم يستطيعوا مواجهته فكريا وخطابيا، لذلك اضطروا إلى اقصائه "شخصيا". ملاحقوه، وعلى رأسهم أستاذ علم التفسير في جامعة القاهرة آنذاك، عبد الصبور شاهين، وظفوا فقه الإمام أبو حنيفة الساري المفعول في قضايا الأحوال الشخصية من أجل "تصفيته دينيا"، لأن هذه الفقه يشتمل على مبدأ الحسبة، الذي وُظف للتفريق بين أبو زيد وزوجته ابتهال يونس.

عوقب أبو زيد، لأنه رفض اختزال الدين الإسلامي وتحويله إلى مجرد أداة سياسية تخدم السلطات الدنيوية، وهو ما أكده بقوله: "خطابي يهدد خطاب الإسلامويين، لأني أحلله، وأكشف النقاب عن الخطأ والتلاعب في خطابهم السياسي. إنهم يعلمون أني لست مرتداً ويعرفون أنه لا يوجد في كتبي وأبحاثي أي دليل يدل على ذلك".

التجديد ضرورة معرفية وحياتية

لم يشكك الباحث أبو زيد في لحظة ما في ألوهية النص القرآني وقداسته، كما ادعى الذين كفروه مرارا وتكرارا. الباحث المسلم أبو زيد، المؤمن بسمو قيم هذا الدين الحنيف، سعى إلى محاربة تشويه جوهر الدين الإسلامي، وأراد تحرير النص القرآني من قيود القراءات التقليدية والأيديولوجية وإعادة تفسيره وتأويله من منظور واقع الحداثة ونقله إلى فضاء معرفي جديد. كما أنه لم يقرأ النص القرآني قراءة معاصرة تهدف إلى تجديد العقل الفقهي فقط، بل تجاوز ذلك وأضاف إليه قراءات جديدة متعددة معرفيا وبعيدة جدا عن جملة القراءات الاستهلاكية.

تميز أبو زيد بتواضع العالم ونزاهته وبشجاعة الناقد المُجدد، فهو لم يرضخ لجبروت الإرث التكفيري والظلامي الذي لاحقه، كما أنه لم يفقد تفاؤله وإيمانه بمستقبل التجديد والإصلاح احتراما لقيم الدين الإسلامي السامية ورسالته الإنسانية، وشدد في آخر حوار له على أنه "شاهد على التغيير الحتمي في الخطاب الإسلامي، رغم كل الصعوبات والتضحيات التي يعايشها دعاة النقد والإصلاح".

رحل نصر حامد أبو زيد، أيقونة التفكير في زمن التكفير،عن عالمنا في زمن الاختزالات الدينية والنكوصات المعرفية. لكنّ عزاءنا الوحيد يبقي متمثلا في تلاميذه وطلابه وطالباته وحملة أفكاره وقيمه التي عاش ومات من أجلها.

 

بقلم / د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم