قضايا

محمد الورداشي: وإذا الثقافةُ سُئلت، بأي ذنب هُمِّشَتْ

إن عنوان هذا المقال ليس مبالغة في القول، ولا تضخيما لشيء لا يستحق التضخيم، وإنما هو وضع ملموس اتسم بضبابية منذ سنوات خلت، وما يزال.. إنه الوضع الثقافي في المغرب، الذي طُرحت حول مظاهره ومآله أسئلةٌ كثيرةٌ، عبَّر من خلالها مجموعةٌ من المثقفين المغاربة عن الأسباب الكامنة وراء تقهقره وانحساره.

بيد أن موت الكاتب المسرحي المغربي أحمد جواد، في ظروف مؤلمة ومحزنة، جعل من سؤال الثقافة سؤالا ملحا وآنيا، يستدعي تشخيصا دقيقا لمختلف الأسباب والعلل التي نتج عنها وضعٌ ثقافيٌّ مُهمّشٌ، وضعٌ أقلُّ ما يقال عنه إنه لا يرقى إلى المستوى الثقافي الذي عُرف عن المغرب العربي. ومن ثم، فإن السؤالَ الجوهريَّ الأحقَّ والأَوْلى بأن يُطرحَ هو: منِ المسؤولُ عن قتل الفعالية الثقافية في المغرب؟ هل المسؤولون الذين تعاقبوا على وزارة الثقافة هدما وتخريبا مدروسين، أم أن السببَ يُعزى إلى انسحاب المثقف من المشهد الثقافي، والنتيجةُ تركُهُ مكانَهُ شاغرا لأشخاص لا تربطهم آصرةٌ بالثقافة؟

على أن الجوابَ عن هذا السؤالِ ليس مهما؛ لأن في ذلك تعددا واختلافا في الزوايا التي يُنظر منها إلى أزمة الثقافة، فضلا عن كون الوضع الثقافي الراهن ناتجا عن مجموعة من العلل المركبة والمعقدة، التي يتداخل فيها المؤسسيُّ والفرديُّ.

إذ نجد أن المبالغَ الماديةَ التي تُرصدُ للثقافة في المغرب هزيلةٌ، وذلك إذا ما تمتْ مقارنتُها بمجموعة من الدول التي تَعرفُ للثقافة دورَها وجدواها في بناء الفرد والمجتمع، وتَحفظُ لها مكانتَها بحسبانها مكونا وحاضنا لهوية البلد. ومن ثم، فإن الوضعَ الماديَّ يُعدُّ دليلا واضحا على التهميش الذي تعرفهُ الثقافةُ والفاعلون في إطارها، الأمرُ الذي يؤدي إلى غياب التشجيع المادي والمعنوي للفاعلين الثقافيين.

فلئن نحن استحضرنا مجال الإعلام بقنواته الرسمية، فإننا نلحظ غيابا مقصودا للمثقفين الذين يحملون همَّ بناءِ وترسيخِ وتطويرِ الفعل الثقافي، ومواكبةِ تحدياته الراهنة والمستقبلية. إذ إن قنواتِنا الإعلاميةَ الرسميةَ استعاضتْ عن الثقافةِ بالتفاهة، وعن المثقفِ الفعليِّ بزُمْرةٍ منَ التافهين والمُهرِّجين الذين يُسْهمون في تعميقِ الجرح الثقافي، ويَعملون على إفراغِ الشعب المغربي من مقوماته الحضارية، ومن معالمِ هويته الوطنية والعربية.

إن التافهين اكتسحوا المشهدَ الإعلاميَّ، واستطاعوا أن يُقنعوا فئاتٍ عريضةً منَ المغاربةِ الذين ليس لهم منسوبُ وعيٍ مرتفعٌ، بأن الثقافةَ الحقيقيةَ لا تتحددُ في التمسُّكِ بالأصول والثوابت الثقافية الوطنية، وإنما في الانحلال من كلِّ ما له ارتباطٌ بالهوية، ودورٌ فعَّالٌ في تنميةِ الفكر وشحْذِ الوعي، وترسيخِ الذوقِ الجماليِّ الذي يُنَمي قيما ساميةً لدى الفرد.

هكذا، نرى أن المتعاقبين على الشأن الثقافي في المغرب، لم يتورّعوا في إفراغ المغاربة مما تبقى لهم من رأسمالهم الثقافي الذي تَتَهَدَّدُهُ تحدياتٌ داخليةٌ وخارجيةٌ عديدةٌ، والمآلُ أنهم دقُّوا مسمارَهُمُ الأخيرَ في نعشِ الثقافة.

فغيابُ الإرادةِ السياسيةِ القويةِ، وانحسارُ الدعمِ الماديِّ والمعنويِّ للوضع الثقافي والفاعلين فيه، تَرتب عنه انكماشُ المثقفِ على ذاته، وانسحابُهُ من عالَمٍ تَكتسحُهُ التفاهةُ والتافهون. ومن ثم، فلا غرابة أن يَدُقَّ أحمد جواد ناقوسَ الخطرِ، ويَستنجدَ المسؤولين والفاعلين في الشأن الثقافي، وبما أن نداءه واستغاثتَه لم يجدا تلبيةً ولا تجاوبا، فإنه اختار الطريقَ الأصعبَ.. إنه طريقُ الألمِ والموتِ، والتعبيرِ عن الرفض التام والمبدئي لهذا الوضع المتردي. ليبقى فعلُ الاحتراقِ ملاذا أخيرا، وشاهدا على فشل القائمين على الشأن الثقافي في تدبيره.

إن لجوءَ الكاتبِ المسرحي المغربي أحمد جواد إلى الاحتراق، لَهُوَ رفضٌ أليمٌ لكلِّ أشكال التهميش والإبعاد التي يتعرضُ لها المثقفُ المغربيُّ، فضلا عن كون احتراقه إعلانا على موت الثقافة في ظل زمنٍ يَنضحُ بالتفاهة والتافهين من مختلف الأشكال والأذواق.

إنه موتٌ واحتراقٌ، رغم مرارتهما وألمهما، فإنهما شكَّلاَ سبيلا إلى مساءلة التدبير السياسي العام للشأن الثقافي، والأدوارِ المنوطة به في خدمة الثقافة الوطنية والمثقفين، والحرصِ على ردِّ الاعتبارِ لدورها الفعَّال في الارتقاء بالفرد والمجتمع إلى مستوى القيم الأصيلة التي يَنصهرُ فيها الخصوصيُّ بالكوني، والمحليُّ بالإنساني. علاوة على أنهما يدفعانِنَا إلى مساءلة أدوار المثقفين في تحصين الفعل الثقافي، والحرصِ على استمراره في لعبِ الأدوار المُسندة إليه.

على هذا الأساس، نقول إن موتك أيها الكاتب المسرحي الأبي، إيذانٌ بموتِ الفعل الثقافي، وتهميشِ الثقافة التي باتَ حضورُها حضورا ضئيلا في مختلف المجالات الثقافية. ففي التعليم، نلفي أن المناهجَ والبرامجَ التربويةَ لم تعدْ تُواكب التحدياتِ التي تُواجِهُ وضعَنا الثقافيَّ، ولم تعد تُنتجُ مُتَعلما مُتسلحا بزادٍ ثقافيٍّ كبيرٍ يُؤهلهُ للاندماج داخل مجتمعه، والتعايش والتسامح مع بني جلدته.

أما المنابرُ الإعلاميةُ، فإن نسبةً كبيرةً منها تُرَوج لثقافةٍ استهلاكيةٍ فارغةٍ من أي محتوى جدي، وتُشَجع على ثقافة التفاهة والتفكه والإلهاء عن التحديات التي تُهددُ المواطنَ المغربيَّ في معيشته وصحته وفكره، وتُخَصِّص مساحاتٍ كبيرةً للتافهين على حساب المثقفين.

كما أن غيابَ دُورِ السينما، وسحبَ البساط من تحت المسارح والمكتبات والمُركبات الثقافية، والنوادي الثقافية والمقاهي الأدبية، وقمعَ التظاهرات الثقافية والعلمية التي يترعرع فيها الفكرُ والوجدانُ السليمانِ.. كل ذلك، وغيره كثير، أسهم في تقهقر الوضع الثقافي، وتهميش الفاعلين ماديا ومعنويا.

***

محمد الورداشي

 

 

في المثقف اليوم