قضايا

جون هرمان راندال ومكانة ليوناردو دافنشي في ظهور العلم الحديث (1)

محمود محمد عليولد جون هرمان  راندال John Herman Randall في بلدة جراند  رابيدز بولاية ميشيغان بالولايات المتحدة الأمريكية في الحادي عشر من شهر فبراير . وتلقي الدراسة بجامعة كولمبيا ومعهد التربية بنيويورك وحصل علي درجة دكتور في الفلسفة في 1922. وتقلب في مناصب التدريس حتي عين أستاذاً بجامعة كولمبيا في 1935، وهو رئيس تحرير مجلة " الأفكار التاريخية" ومحرر في " مجلة الفلسفة" وعضو في الجمعية الفلسفية . وقد أصدر كتباً عديدة من أشهرها " تاريخ الأفكار في عصر النهضة والعصر الحديث"، و" تاريخ العلم"، و" حضارتنا المتطورة"، و" الدين والعالم الحديث" .

في هذا المقال نقدم للقارئ العربي دارسة تحليلية واضحة ومفصلة لبحث له نشره بعنون "مكانة ليوناردو دافنشي في ظهور العلم الحديث"، حيث يقول في بداياته: "لعل مرور خمسمائة عام علي ميلاد ليوناردو دافنشي وقت مناسب لطرح التساؤل التالي، في ضوء ما وصلنا إليه اليوم من معرفة: ما دور ليوناردو دافنشي في ظهور العلم الحديث؟

ثم يؤكد راندال فيقول: "وقبل أن أجيب عن عذا السؤال، أود أن اعترف بأنني لا أدعي خبرة  بليوناردو، فلم أقرأ طبعه رافيزون مولين  لمذكراته، أو الكوديك أتلانتكو قراءة فاحصة ولا أستطيع أن أقنع نفسي كذلك .بأنني أعلم الكثير عن ظهور العلم الحديث . لقد تتبعت بشغف واهتمام الاكتشافات المثيرة في مجالات فكرية معينة تجمعت في القرن السادس عشر، وأدت إلي نتائج مذهلة، هذه النتائج هي ما يمكن أن نطلق عليه ميلاد المشروع العلمي الحديث، لكنني لم أتتبع إلا مجالين فقط، حيث اعتقدت أنهما مهمين، وحاولت ألا أشوش تفكيري، وذلك لأن أحدا غيري لم يكن حريصا علي تأدية هذه المهمة "؛ وحتي الوقت الحاضر لا أري أحدا يملك من المعرفة ما يمكنه من تقدير أهمية التراث الفكري في مجالات مختلفة أدي تجمعها في القرن الذي يبدأ ب كوبرنيكوس وينتهي بجاليليو إلي هذه النتائج المؤثرة .

وفي الدراسات الراهنة يقول راندال: "نجد باحثا يتناول مجالا معينا من هذا التراث، وليس غريبا أن ينتهي إلي التحيز إلي المجال المعين الذي درسه وما يتسم به من أهمية خاصة، كما أنه لا غبار علي استقضاء هذه التيارات علي يد باحثين مهتمين بها،وذلك لأنه أصبح من الواضح اليوم أن ظهور العلم الحديث كان مسألة معقدة تحكمها عوامل عديدة متباينة .غير أن المشكلة الأساسية هي مشكلة التقييم السليم للأهمية النسبية لعدد من الشروط اللازمة لظهور العلم الحديث، وهذا التقييم وتلك الموازنة والمقارنة مازال أمامنا الكثير لنستطيع أن نقوم به . وإذا كان من حق كل منا أن تكون له أفكاره وشكوكه، وإلا أننا لم نتواصل بعد إلي اتفاق في المسألة ".

لكنه كإجابة عن السؤال الذي طرحناه كما يقول راندال بخصوص ليوناردو دافنشي في هذه العملية المعقدة، فإن معرفة كل ما قاله ليوناردو وكل ما كتب وكل ما فعل ليست جوهرية، لقد كنت اعتقد كما يعتقد غيري أن ليوناردو كان شخصا متميزا في معالجته القضايا العلمية في أنشطته العيدية الأخرى علي حدا سواء . لقد كان يستطيع أن يري بوضوح شديد وبصيرة كبيرة مظاهرة معينة، مما يمكن أن نطلق عليه خصوصا كما يقول راندال في حالته " تشريح الطبيعة "، حيث كان ليوناردو يؤمن بفكره عصر النهضة عن الطبيعة بوصفها تكبيرا للإنسان، وللإنسان بوصفه عالما مصغرا، ولذلك فتشريح الإنسان وتشريح الطبيعة متشابهان في الأساس، ولأنه كان يجيد الرسم، فقط استطاع أن يصل إلي قدرة حقيقية وحس صادق في وضع تلك المظاهر علي الورق .

وكما يعرف كل من رأي نسخا من رسومات ليوناردو كما يقول راندال، فإن موهبته في التصوير العلمي بالغة الدقة والأهمية إلي الحد الذي استحوذت فيه علي إعجاب "دورر" و"فيساليوس" وغيرهما ؛ يقول راندال: " واعتقد أن " إروين بانوفسكي "، لم يكن مبالغا حين اقترح أن اختراع طريقة لتسجيل الملاحظات في رسومات، والذي توصل إليه الرسامون العالميون في نهاية القرن الخامس عشر، يستحق نفس المكانة التي يستحقها اختراع التلسكوب والميكورسكوب في القرن السابع عشر، والكاميرا في القرن التاسع عشر، وعلي الأقل بالنسبة للعلوم الوصفية" .

لكنني اعتقد كما يقول راندال أن الاستقصاء التاريخي لعملية ظهور العلم الحديث، قد تطورت إلي الحد الذي يمكننا عنده أن نقول - أن ليوناردو، رغم كل مواهيه العظيمة في الملاحظة الدقيقة، ليس له مكان في هذه العملية، هذا إذا شئنا الدقة، وما في ذهني في هذا المقام هو علم جاليلو، أو جملة الأفكار الجديدة التي طرأت في علم الفلك والنظريات الفيزيائية التي ظهرت في القرن السابع عشر،وتلك هي التي عملت علي إحداث ثورة فكرية جارفة في الفكر الإنساني .

ففي تاريخ العلوم الوصفية، وعلي رأسها علم التشريح كما يقول راندال يحسن أن ننصف ليوناردو ونضعه في مرتبة ملائمة تليق بإسهاماته . نعم لقد يسأل سائل فيقول إن تطور علم التشريح مثلا لم يكن ليتوقف أو تتأخر مسيرته لو أن ليوناردو نفسه لم يكن حيا، أو ربما لم تكن له إسهامات في هذا الميدان . والحق أننا نعترف بصعوبة هذا السؤال نظرا لتعقد الظروف حول مثل هذه الاعتراضات .

وعلي أية حال، فإننا نحاول كما يقول راندال أن نسعي من جانبنا علي الأقل إلي تحليل الجوانب حول إسهامات ليوناردو وابتكاراته، وفي هذا نعتقد أننا نستطيع أن نضع مطمئنين واثقين ثلاث قضايا عاملة وهي كما يقول راندال:-

أولا: أن ليوناردو لم يكن عالما في ضوء فهم ليوناردو نفسه ومعاصريه لمعني العلم آنذاك . لقد كان الرجل فنانا في المقام الأول، وكان فنه ظاهرا في الرسم والهندسة الصناعية، وشق القنوات، وكما كان مهندسا معماريا ومبتكرا وغير ذلك كثير . وبعبارة أخري نقول أن ليوناردو كان مهتما علي الدوام بكافة القضايا العلمية، وكان اهتمامه وشغفه بها يزداد علي مر الزمن، ولقد أدي به ولعله بقضية العلم علي هذا النحو إلي الانشغال عن بعض أعماله الهامة، فكان أن خلف وراءه تحفا لم تكتمل بعد . لقد كان عقله خصبا، وانشغل بما يزيد عما يلزمه وما يلزم عالمه، وقاده عقله الذي يشبه عقل " ليبنتز" إلي أن يتحرك في اتجاه جديد قبل أن ينتهي من  مشروع أو فكرة، بل قبل أن يتم بداية المشروع أو الفكرة، ولقد كان لهذا أثره الفعال في أن يصبح أستاذ الأفكار الناقصة والمشروعات غير مكتملة .

ثانيا: ليس في رائعة ليوناردو، التي يطلق عليها " مجموعة القوانين " علما جديدا، بل كان الكتاب يعكس في الحقيقة أفكارا علمية كانت شائعة في المدارس العلمية المنظمة في لإيطاليا في عصره، فحال الرجل هنا ليس حال عالم يبتكر جديدا، بل مرآة – إن صح هذا التعبير – تعكس ما كان قائما بالفعل وما تواتر علي ألسنة العلماء في عصره أو دار في أذهانهم . وما مرد الدهشة العظيمة التي حيرت الباحثين حين طبع كتاب ليوناردو الأول لأول مرة سنه 1881 إلا جهلهم بما كان عليه العصر الذي عاش فيه العالم الفنان .

ثالثا: حتي لو كان ليوناردو يملك بالفعل أفكارا علمية مبتكرة ونظريات أصلية، قإنه يظل في ذلك بعيدا عن احتلال مرتبة هامة جدا في تاريخ العلم الحديث وتطوره، فقد ظلت أفكاره غير معروفة حتي نشرت " قوانين باريس " سنه 1881- 1891، والكوديك اتلانتو سنة 1894، ولم يظهر كتابه حتي عام 1651 مع أن هنالك مخطوطة له  في  أوربينو تشير إلي أنه كان معروفا علي الأقل في دائرة أوربينو، وأول من علق علي القوانين هو "فينتوري" سنه 1797 ثم تبعه " لبري " سنه 1840 . أما حقيقة أن عدد من الكتاب العلميين في النصف الثاني من القرن السادس عشر حتي جاليليو، يقررون عددا من الأفكار الهامة التي تشبه أفكار ليوناردو، فإنها تعني أن هؤلاء الكتاب كانوا يعرفون تلك الكتب  التي كان هو يقرأها بنهم شديد .

وفيما يلي سوف استطرد وأعلق علي تلك القضايا الثلاث، ثم أحاول أن أوضح عبقرية ليوناردو الحقيقية في العلوم، كما أراها في ضوء حالة العلم في زمانه وفي سياق التطورات الفكرية التي حدثت آنذاك .

إن ليوناردو لم يكن عالما كما يقول راندال بكل ما تحمله الكلمة من معني، فالعالم ليس مجموعة من الأقوال المأثورة أو الحكم أو القوانين التي استخلصها وجعلها "رختر" وسولمي وجماعة آخرون من كتاب مجموعة القوانين لليوناردو، وليس العلم فوق ذلك عبارات منمقة تقرأ في كتاب، ويكون لها مثل فعل السحر في قلوب الناس ومشاعرهم، بل العلم قرين فكر منظم ومنهج مرتب ودقيق .

ولقد فهم ليوناردو العلم نفسه كما يقول راندال علي أنه حوار ذهني يرتكز علي مبادئ أولية يمكن تعليل ماعداها، ولكنها – أي تلك المبادئ نفسها لا يمكن تعليلها بما عداها . فهي أول الطريق وبداية التحليل في الفكر المنظم تماما مثلما النقطة باعتبارها أول خطوة في الهندسة .

فالعلم إذن – ليس مجرد الميل إلي إجراء التجارب، كما ذهب ليوناردو في رده علي بعض منتقديه الذين لاموه علي إفراطه في تجريبية . لقد كان ليوناردو ينعي عليهم أنهم يشيدون في كتاباتهم، لأنها أولي الذكر من أي شئ آخر. فذكر تجربة مثلا أولي من ذكر كاتب شهير، والاستشهاد بنتائج التجربة أهم من الاستشهاد بالكتب وما ورد فيها كما يقول راندال.

إن العلم لا يتحقق من مجرد رفض أقوال السابقين وطرح أفكارهم جانبا علي نحو ما يؤكد ليوناردو، الذي لم ير في ذلك أي ابتكار أو عبقرية بقدر ما رأي في ذلك تقليدا كما يقول راندال. ولقد كان ليوناردو متأثرا في كل ذلك بكتابات بعض المفكرين الذين ظهروا في أواخر العصر الوسيط في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وهم جماعه من المفكرين الذين أولوا العمل الذهني أهمية خاصه ورفعوا مكانته فوق مكانة التقليد والحفظ عن الأولين كما يقول راندال.

ولكن مجرد التأثر بكتابات تلك الجماعة طارحين جانبا كما يقول راندال أن هذه في ذاتها حجة يمكن أن تساق ضد ليوناردو نفسه – فلا تجعل منه عالما ولا تشكل كتاباته – في إطار هذا المنهج – علما بالضرورة . ومن هنا فإن احتجاجات ليوناردو ورفضه لفكر السلف ونظرياتهم كانت عظيمة، ولكنها في حد ذاتها لا تشكل علما، ولا يمكن تأسيس " علم " من خلال ملاحظات متناقضة مهما بلغت وصفها وذكر تفاصيلها .

فالعلم فوق كل الاعتبارات السالفة – ليس كما يقول راندال ضربا من الحدس ينتاب فردا عبقريا بين حين وآخر إبان خلوه إلي نفسه، علي الرغم من أن الحدس يشكل أحيانا عاملا مهما وخطوة واحدة نحو تأسيس نظرية علمية صحيحة . العلم فوق كل شئ كما يقول راندال جهد مشترك وحصيلة أبحاث عديدة لجماعة تسعي إلي تحقيق هدف محدد علي نحو الجهود المشتركة التي طبعت نشاطات المدارس الإيطالية في العصر الذي عاش فيه بيترو دابانو حوالي مطلع القرن الرابع عشر، بل لعل العلم يأتي علي غرار الجهود المشتركة التي استمرت حتي العصر الذي ظهر فيه جاليليو، وهذه الجهود كان لها دور عظيم في ظهور العلم الحديث .

وربما كانت أعمال ليوناردو وأفكاره تشكل في حقيقة الأمر عائقا في طريق العلم أكثر منها حافز له، فلقد قرر لودفيج " اؤلستاين " كما يقول راندال أن ازدهار العلم القديم قد تم بفضل الجهود المشتركة التي تميز بها أو انقطاع ذلك في عصر لاحق . فظاهرة تذبذب العلم وعدم وضوح خاصية " التراكم " التي تميزه ترجع بالأساس إلي أن صفة الجهد المشترك صارت معدومة وحلت محلها خاصية الجهود الفرضية والأعمال والأبحاث المتناثرة . كان ذلك بالضبط ما يميز أبحاث ليوناردو، فلقد كان الرجل يهتم بقضية أو مسألة ما من غير أن يظهر ميلا إلي التأسيس بناء منظم لمعرفة دقيقة . ولعل موهبته الفنية التي ترتكز علي التفاصيل والمفردات وكل ما هو عيني حقيقي، وهي موهبة تتجلي من خلال دقة ملاحظاته، وهي التي دفعت به إلي تحليلات ودراسات تفصيلية لجوانب فرعبة، وغني عن النر أن الإسهاب في تحليل جانب أو تفصيل الحديث في ناحية فالمشكلة أو الظاهرة العلمية كل معقد ولا يتم تفسير الكل من خلال جزء أو بضعة أجزاء . صحيح أنه كثيرا ما نتناول الأجزاء المفردة بالدراسة والتحليل، يؤدي بنا في نهاية المطاف إلي تحقيق ما كنا سعينا إليه منذ البداية، ولكن لم يكن ذلك حال ليوناردو علي وجه الخصوص .

نعم إننا نلحظ كما يقول راندال تدرج الفكر عنده من الجزيئات والخصوصيات إلي الكليات والعموميات، ولكنه لم يبلغ مراده قط أو علي الأقل لم يكن سيره في ذلك الطريق ليوصله إلي نتائج يمكننا جعلها علما بالمعني الدقيق لكلمة علم ... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو  مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

 

في المثقف اليوم