قضايا

جورج سارتون وأطروحته للدكتوراه بعنوان: دافينشي العلم والفن (3)

محمود محمد علينعود وننهي حديثنا عن جورج سارتون وأطروحته للدكتوراه عن ليوناردوا دافنشي، حيث يقول سارتون: وأنهي حديثي بسؤال يجول بخاطري ويلح علي باستمرار، وهذا السؤال يدور عما إذا كان ليوناردو حقا أحد المبتكرين أو المبدعين العلميين العظام؟

وللإجابة علي هذا السؤال نقول، إن حب ليوناردو للعلم وحماسته له لا يحتاجان إلي جدل، فمن المؤكد أن أنشطته تدل علي أنه رجل علم وكذلك فنان. ولكن هل من الممكن أن ننسب إليه اكتشافاً واحداً باستثناء تلك التي تحتوي عليه رسوماته ضميناً؟

فلكي ينسب للمرء اكتشاف، لا يكفي أن يقوم به، بل يجب عليه أن يفسره، وأن يثبت بوضوح شديد أنه فهمه، ويجب أن يكون مستعداً للدفاع عنه . وقد تقول أن الإكتشاف لا يتم ولا يكمل إلا إذا تم تنفيذه وأصبح واقعة حقيقية، أما أن فكرة تراود عقل الإنسان، فهي مثل بذرة النبات، هذه البذرة لا تكون كافية إلا إذا نضجت أخرجت لنا ثماراً .

ولقد كانت أفكار ليوناردو مثل البذور التي عجزت عن النضج، وظلت مدفونة في ملحوظاته ورسوماته . صحيح أنه كثيراً ما فكر في أن يكتب كتب عن التشريح والتصوير، وربما موضوعات أخري، ولكنه لم يفعل ذلك أبداً . وفي التاسع من شعر فبراير عام 1489 كتب فرا لوكا باسيولي إلي الدوق " لودفيكو سفورزا " قائلاً : إن ليوناردو قد انتهي من بحث في التصوير وحركات جسم الإنسان، وأعلن " جيورجيو فازاري " عام 1550 أن رساماً ميلانياً قد أراه مخطوطة ليوناردو وكان ينوي نشرها في روما، ومن غير المحتمل أن تكون هذه المخطوطات قد وجدت في وقت ما، علي الأقل في صورة جاهزة للنشر، ولكن من الممكن أن يكون تلميذ ليوناردو وهو فرانشيسكو ميلزي الذي ورث مخطوطاته، وقد ألف مقتطفات مختارة (أو كلف شخص آخر بتأليفها) . وفي مخطوطات الفاتيكان توجد مجموعة تضم 944 مقتطفاً من ملحوظات ليوناردو تحت عنوان (مجموعة المخطوطات الحضرية 1270- القرن 15) التي هي مصدر غير مباشر لكتاب المهدي للملكة كريستينا ملكة السويد، والذي نشر في باريس عام 1651 بعد ولادة ليوناردو بقرنين من الزمان، وبخصوص بحث التشريح فإنه لم يحقق حتي هذا النشر غير المباشر والمتأخر والذي تم بعد وفاته .

وباختصار فإن ليوناردو لم ينشر أفكاره أبداً، بل أنه حتي لم يتجشم عناء ترتيبها وتنظيمها وإعدادها للنشر، وربما كان هذا الفشل راجعاً جزئياً إلي نقص تعليمه الأدبي، والذي لم تكن عبقريته قادرة علي تعويضه أبداً، وعيوبه كانت مختلفة جداً عن عيوب أغلبية معاصريه، فكتبهك كانت مليئة بشواهد لدرجة أنه لم يكن من الممكن فهمها . وتكاد ملحوظاته لا تحتوي علي أي شواهد . علاوة علي ذلك فإن إشاراته إلي المراجع كانت غامضة ونادرة، فهو مثلا يستشهد تسع مرات بأرسطو، وست مرات بفتروفيوس خمس مرات بأرشميدس ومرات عديدة ببطليموس وبليني، ومرتين بتشريح ابن سينا .

وأكثر جزء مفصل من عمل ليوناردو العلمي هو الجزء الخاص بالتشريح ومع ذلك فإن هذا الجزء كان له تأثير ضئيل إن لم يكن له أي تأثير . والمشرح الوحيد الذي عمل معه واستشاره هو مارك انطونيو ديلاتور (1481 - 1511) الذي كان أصغر منه بنحو ثلاثين سنة، ومات في سن صغير جدا ولم يترك أية آثار .

وطالما كان ليوناردو حياً، كانت لدي عدد قليل من الناس فرصة رؤية رسوماته التشريحية . ويمكنني أن أذكر فقط أنطونيو دي بيتيس سكرتير لويس، وكاردينال أراجون الذي أعجب بها في " كلو " . ورأها " فازاري " و " جيان باولو لومازو " فيما بعد في أيدي ميلزي، ولكن لم تكن لديهما المهارة والقدرة لتقدير قيمتها العلمية . ويمكننا القول أن تطور التشريح كان لن يتغير لو لم يوجد ليوناردو .

لقد كان ليوناردو واحداً من أعظم رجال العلم في التاريخ، ولكن العالم الذي أعجب به كفنان، ولم يكتشف عنه كرجل العلم إلا بعد وفاته بقرون عديدة ؛ وظل مجهولاً بخطئه لأنه لم يفعل أي شئ لنشر اكتشافاته ؛ وفي معظم الأحوال نقول حقا أنه لم يتجشم عناء إكمالها .

إن نقص المثابرة قد أضر بليوناردو وبنفس القدر الذي أضر ببعض رجال العالم تقريباً، فقد ترك لنا فقط عددا قليلا من الرسومات (أقل من عشرة)، وبعضها ناقص إلي حد ما . فلوحة العشاء الأخيرة التي رسمها في حجرة الطعام " بدير سانت ماريا ديل جرازي " في ميلان قد بهتت حتي أصبحت مجرد صورة شاحبة لما كانت عليه . وأتلف لوحات أخري بالتجارب الفنية أو أهملها بنزواته . وعلي الرغم من ذلك أثر في كثير من الرسامين الشبان، بينما فشل في التأثير علي العلماء المعاصرين له .

علي أنه لا يوجد أي شئ أكثر غرابة وحيرة من نزوات المخترع الميكانيكي، فقد اخترع ليوناردو أو أعاد اختراع سلسلة كاملة من الآلات، ومع ذلك تجاهل اثنين من أعظم الاختراعات ليس فقط في عصره، ولكن أيضا في كل العصور وهما التصوير والنحت . ولم يكن ممكنا أنه لم يدرك وجودهما، لأن الكتب المطبوعة والكليشيهات الخشبية والنقش علي النحاس كانت قد أصبح شائعة إلي حد ما قبل نهاية حياته، وكان من الممكن شرائها من محلات كثيرة في فلورنسا وميلان وفي أماكن أخري . لا بد وأن ليوناردو قد عالج الكتب المطبوعة، ولكنه لم يشر إليها، ورسم لوحات للنسب الرائعة للوكا باسيولي، وربما أنه نقشها بنفسه . ولا بد أنه رأي كليشيهات خشبية ونقوشا .

والسؤال الأول الآن " هل كان ليوناردو يمقت هذه الاختراعات مثل بعض المبتكرين الفلورنسيين؟

أعتقد أن رجلاً في مثل ذكائه كان ينبغي أن بفهم في الحال أن هذين الاختراعين لهما قيمة لا تعد ولا تحصي، ليس فقط لأنهما كانا يسمحان بنسخ عديدة غير محددة من نسخ متماثلة ومعيارية . وكان هذا هاما في كل مجال وخاصة في مجال العلم، فقد جعلا من الممكن مثلاً نشر كتب الرياضيات والجداول الفلكية التي يمكن استخدامها بثقة (كان يمكن تصحيح الاخطاء في طبعة لاحقه) . فالنقش أو الحفر سمح بإضافة توضيحات دقيقة إلي النص زادت من قيمته العملية بدرجة هائلة . فكيف يحدث أن يتجاهل ليوناردو وينبذ كل هذا ؟ من الواضح أنه كانت لديه بعض النقاط العمياء علي الرغم من عبقريته .

ونحن نذكر هنا بعض نقاط ضعفه، منها علي سبيل المثال نقص تعليمه الرسمي أو النظام في شبابه، ونقص طموحه المادي، وكان أمياً وظل كذلك طيلة حياته . إن بعض أعظم رجالنا كانوا أميين، فالعبقرية يمكنا أن توجد بدون تعليم وأفضل تعليم في العالم لن يعطي العبقرية للإنسان الذي يفتقر إليها . ومن المحتمل أن ليوناردو أعطي اهتماماً ضئيلاً فقط للكتب، وإن كان الأمر كذلك، فلماذا كان ينبغي عليه أن يتجشم العناء بشأن الرسم؟

إن كثرة ووفرة ملحوظاته لا ينبغي أن تضللنا؛ فهي لم تكن ملحوظات أديب، بل بالأحري ملحوظات رجل علم وفيلسوف، وكان أحيانا يكتب جملا ذكية وبراقة، ولكن هذا كان يرجع إلي قوة تفكيره أكثر من قوة تعبيره، وبالإضافة إلي ذلك فإنه لم يتجاوز أبدا تأليف جمل أو فقرات، وربما في كتابه كتب، ولكنه لم يبذل أبدا المجهود الملازم .

وكان بمقدوره ليوناردو أن يكتب كتابا لو أراد ذلك، ولكنه لم يرد أبداً أن يكتب بصورة سيئة بدرجة كافية، ونفس الشئ مع رسوماته، فقد كان بمقدوره أن يرسم المزيد بسهولة، ولكنه لم يكن لديه طاقة كافية أبدا، ومع ذلك فإن الرسومات القليلة جداً التي تمكن من إنجازها تكفي لتخليده .

إن أفضل مثال لنوع نادر وثمين : الرجل الذي لم يعطي كامل عبقريته، ومعظم الناس الموهوبين يفعلون العكس، فهم يحاولون إعطاءنا أكثر من طاقتهم، لأي أنهم يخدعوننا، وهم يبدءون كتابة كتاب قبل أن يعرفوا موضوعهم ويعرفون أثناء الكتابة . ومن ناحية أخري، هناك رجال علم وتعلم لا يتوقفون أبداً عن جمع الملحوظات ولا يجدون أبدا وقتا لتنظيمها ووضعها في صورة جيدة .

وكان ليوناردو ينتمي إلي المجموعة الثانية، ولكن ليس بسبب عيون في طبيعته وقد لاحظ أرتينيو في لمحة رقيقة إذ قال : " أقول لك أن ليوناردو كان يعادل أعظم الناس، ولكن عبقريته كانت ذات جودة عالية جداً لدرجة انه كان لا يستطيع أن يرضي أبداً عما فعله .

ولا ينبغي أن ننسي أن كان يعيش في عصر ثوري مثل عصرنا، ولكنه أكثر قسوة بكثير، وكان هذا العصر هو عصر الحكام المستبدين مثل لودفيكو سفورزا وسيزار بوجيا (أمير ميكافيللي) وعصر المتحمسين المتسمين بالعنف مثل سافونارولا، واحتفظ ليوناردو بعدله وحكمته، وكان فناناً وشاعراً ومتأملاً وحالماً، ولكن برغم سقطاته أصبح أعظم واقرب إلي الكمال، مما لو كان أكثر قدرة وكفاءة .

إن أفضل طريقة لتفسير أعمق جانب من جوانب شخصيته، هي مقارنته بفنان آخر من عصره وهو (البرخت دورر) من نيريمبيرج . فكلاهما كان فائقين، ولكن كان لكل منهم طريقته الخاصة، فليوناردو كان الرجل الأعظم بالرغم من أنه لم يتم أي عمل بدأه، في حين كان دورر رجلاً عملياً وقادراً وكفئاً، فإذا عقد إنسان عقدا مع دورر علي لوحة، كان متأكدا من أنه سيحصل عليها في الوقت المتفق عليه معا بالعقد، وإذا حرر هذا المقعد مع ليوناردو، ربما كان سيحصل عليه، وربما لا . وذلك بسبب التأني والتردد والامتناع الذي يصيب ليوناردو أحياناً . فإن رجال الأعمال يفضلون بصفة عامة النوع الأكثر مرونة والذي يعتمد عليه، وهم علي الصواب من وجهة نظرهم . وليس عجباً أن يحقق " دورر " نجاحا ماديا وألا يحقق ليوناردو مثل هذا النجاح .

إنني قصدت مما سبق أن أقارن بين هذين الرجلين، كانا مهتمين تقريبا بنفس الأشياء . وكان الفرق يتمثل في أن ليوناردو جمع ملحوظات وأشياء تدعو للحيرة، في حين أن أفكار دورر رغم أنها أقل عمقا، إلا أنها أكثر خصوبة . وإذا كان دورر لم يزعج نفسه كثيرا بشأن موضوع ما من الموضوعات التي كان ليوناردو يبحث فيها موضوع إلا إذا كان لديه غرض علمي مثل كتابة كتاب، ولم يكن فقط يعد كتبه مثلما يفعل أي ناشر آخر، ولكنه كان يطبعها . ولدينا ثلاثة بحوث مكتوبة وموضحة بواسطته . والاول منها يحتوي علي تعليمات للقياس باستخدام الفرجار والمسطرة طبع سنة 1525، والثاني مخصص للتحصينات طبع في 1527، والثالث مخصص لخصائص جسم الإنسان (نشر بعد وفاته في العام الذي توفي فيه أي في عام 1528) .

إن حقيقة أن دورر كان مهتما بالتشريح الفي وليس بالتشريح العلمي الأعمق حقيقة هامة، فقد كان دورر دائماً عملياً وواقعياً، وكان ليوناردو عكس ذلك . وفي حين أن ليوناردو كان يزدري الطباعة والنقش، كان دورر يفهم في الحال الإمكانيات التجارية لكلا الفنيين . وبدلاً من إنتاج رسم واحد مكنه الاكليشية الخشبي أو النحاسي من نشر مائة نسخة أو أكثر في الحال، وعلاوة علي ذلك كان سريعاً في إدراك أن نشر ألبومات كاملة من النقوش مثل " السيد المسيح " أو " حياة السيد العذراء " لي يعد صعباً لأن يحصل علي أرباحاً كثيرة . وعلاوة علي ذلك كان دورر صاحب مطبعة ونقاش وبائع كتب . وكل كتاب من كتبه الثلاثة يحمل هذه الملحوظات (باللغة الألمانية): طبع في نيريمبيرج . وفي أسواق فرانكفورت ونيريمبيرج التجارية كان دورر يمتلك محلاً ومعرضاً خاصاً به . ومن السمات المميزة الأخري أنه كان يوقع علي كل أعماله وغالباً ما كان يضيف التاريخ .

غير ان ليوناردو لم يزعج نفسه بهذه الأمور، فلم يكن يهتم بتعيين التواريخ الدقيقة للأحداث. في حين كان دورر رجل أعمال، ورجلاً ميسوراً يعيش في منزله المريح، وكان قادراً علي الاهتمام بعض الشئ بالمسائل العلمية، ولكنه لم يكن رجل علم . وعلي النقيض من ذلك، كان ليوناردو فناناً خالصاً، ومبتكراً، ورجل علم ومفكراً متأملاً . ولم يكن قطعاً رجل أعمال أو مديراً . وكان شغوفاً ليس بالحصول علي المال أو السلطة أو الراحة، بل الحقيقة والجمال . وكان يريد أن يفهم الله والطبيعة والفن ونفسه والناس والآخرين . إنني أعجب بهم ولكنني أحب ليوناردو .

إن عدداً قليلاً من الناس قادرون علي فهم ذلك لأن قيمهم مضطربة ومقلوبة رأساً علي عقب، وهم يريدون التحدث عن القيم الروحية ولكنهم يعطون أولوية كبيرة دائماً للقيم المادية، وهم يتحدثون عن الجمال والفن، ولكن الراحة تأتي أولاً، وهم يتحدثون عن السلام ولكنهم لا يجعلون هناك أي مفر من الحرب . وهم يصلون يوم الأحد ولكن شعارهم هو التجارة أولاً، والقوة، والخضوع للتقاليد الإجتماعية ... إلخ . إن معظم الناس منافقون اجتماعيون، ولم يكن ليوناردو كذلك.

وكان ليوناردو متمرداً - حيث كان واحداً من أسوأ أو أفضل نوع من الناس - واحد لا يزعج نفسه حتي بتقرير عدم موافقته، ومع ذلك فهو يواصل مهمته بلا انقطاع .

إن تصوير ليوناردو لنفسه بالقرب من نهاية حياته يبين وجها متعبا، وكان ليوناردو في ذلك الوقت يبلغ من العمر أقل من 67 سنة، ولكنه كان قد عاني كثيراً بسبب قسوة العالم وقلاقلة هو شخصياً . وقد أوضحت فصيلته البارزة إن السعي إلي الجمال والسعي إلي الحقيقة متعارضون . إن يعتبر لكل هؤلاء الرجال القلائل الذين يحبون الفن والعلم والحماسة متساوية ومتكافئة .

وكان ليوناردو مدافعاً عن العقل وعدوا للخرافة ولكنه كان مثالياً وكان بداخله اعتقاد أصلي وعميق بأن الأشياء الوحيدة التي تهمه هي الروح والنظام السامي الذي يرغبه هو نظام الحب، ولذلك كان بقول: " إن حب أي شئ هو ثمرة معرفتنا به، وينمو عندما تصبح معرفتنا مؤكدة أكثر . وقد نضيف ونقول إته بدون الحب لا يمكن أن تكون هناك أية معرفة حقيقية، وهو بلا شك أضاف ذلك .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

 

 

في المثقف اليوم