قضايا

الترجمة وتطور الأفكار النظرية في العالم الاسلامي خلال العصر الوسيط

الترجمة وسيلة فعالة تمثل صلة وصل بين الحضارات في جميع الميادين والمجالات الفكرية، كما أنها أيضا وسيلة تعبر عن قوة وعمق منظومة فكرية ( نظرية) في استيعاب مجموعة من الأفكار العلمية    والفلسفية وغيرها من المعارف. وقد شكلت الترجمة عبر التاريخ من أهم الروابط المعرفية بين مختلف الحضارات، إذ ساهمت في تقدم مجموعة من المجتمعات بفعل ترجمة معارف ومخطوطات علمية وفلسفية، من لغة إلى أخرى قصد الاشتغال عليها نظريا والاستفادة منها عمليا، ولذلك تعتبر الترجمة من بين أهم العوامل الأساسية التي ساهمت في ازدهار وتطور مجموعة من المعارف والاشكالات الفلسفية والعلمية في العالم الإسلامي، وذلك بعد ترجمة مجموعة من الكتب والمخطوطات من اليونانية والسريانية إلى اللغة العربية. والترجمة كما نعلم ليست مجرد نقل حرفي من لغة إلى أخرى، بل الترجمة تحمل في ثناياها إشكالات نظرية تؤدي إلى ظهور تقاليد علمية وفلسفية جديدة رصينة وأصيلة، لأن الترجمة تحمل معها اشكالات نظرية، فلسفية وعلمية وليست مجرد نقل حرفي أو عملية تقنية.

فقد ساهمت عملية الترجمة في تطور الأفكار العلمية والفلسفية، وهذا ما جعل من الترجمة نقطة مفصلية وحاسمة في الانتقال من نسق إلى نسق علمي اخر أو من مرحلة فلسفية إلى أخرى، وفي هذا السياق سأوضح أهمية الترجمة في تطور الأفكار العلمية والفلسفية في العالم الاسلامي خلال العصر الوسيط، مع التوضيح والتمييز بين المقاربة السوسيولوجية والمقاربة الإبيستمولوجية النسقية لتطور الأفكار والإشكالات النظرية خلال العصر الوسيط وخصوصا بعد ترجمة مجموعة من الكتب والمخطوطات من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية، والمقاربة التي سنعتمدها هنا هي المقاربة الإبيستمولوجية من أجل فهم منطق تطور الأفكار العلمية والفلسفية وذلك بالتمييز بين منطق العمل ( المنفعة) ومنطق النظر( المعرفة من أجل المعرفة) . من هنا سننطلق من الأسئلة التالية لمحاول فهم الوظيفة النظرية للترجمة: ماهي الأسباب    والعوامل التي ساهمت في بروز حركة الترجمة في العالم الاسلامي؟ وما هو الدور الذي تلعبه الترجمة في تطور الأفكار النظرية، العلمية والفلسفية؟

يحكي ابن النديم، صاحب ( الفهرست) الذي عاش في القرن الرابع/العاشر أن قرار الخليفة المأمون بتمويل اقتناء المخطوطات العلمية والفلسفية اليونانية وترجمتها إنما جاء بعد أن رأى في منامه أنه يتحدث مع أرسطو شخصيا. وفي الواقع لم يكن الأمر إلى هذا الحد من البساطة. ويبدو أن الملوك المسلمين المنتمين إلى الدولة الأموية قد أخذوا منذ نهاية القرن الأول/السابع يبحثون عن بعض الكتب التي تعتبر مفيدة لإدارة شؤون المملكة، مثل المؤلفات التي كان من شأنها أن تنبئ بالوقائع بفضل الوسائل التنجيمية، أو الكتب التي كانت تتضمن بعض المعارف الحربية. إلا أنه مما لا شك فيه أن الخطوة الحاسمة الأولى لظاهرة الترجمة تحققت في عهد العباسيين، أيام المنصور ثاني خلفاء تلك الدولة. ففي عهده وبمبادرة منه ترجم أول كتاب هندي في علم الفلك والرياضيات من اللغة السنسكريتية إلى اللغة العربية. وجسد ذلك أول عمل رسمي لرعاية العلوم من لدن الدولة"[1]. ولذلك فإن قراءة         ومتابعة تاريخ الحضارات الانسانية الكبرى يكشف لنا العلاقة الوطيدة بين النهضة الفكرية والاجتماعية من جهة، والترجمة من جهة ثانية. وهذا ما يؤكده الدور الذي لعبته الترجمة في العالم الاسلامي، وكذلك في اروبا ابتداء من القرن الثالث عشر. وفي هذا السياق فإن حركة الترجمة في العالم الاسلامي بشكل خاص كانت بمثابة لحظة اساسية في التقعيد لمجموعة من العلوم والافكار الفلسفية، فمن خلالها ثم التعرف على ما أنتجته الحضارات السابقة وخصوصا الحضارة اليونانية. وقد أكدت "و استقرت كتابات المتخصصين على أن هذه الحركة العلمية النشيطة، تحققت عبر مراحل أربعة: الأولى عملية نقل علوم الأوائل أيام الدولة الأموية وهي المرحلة التي امتدت ستين عاما. والثانية هي الفترة الممتدة من خلافة المنصور إلى وفاة هارون الرشيد، وهي التي نبغ فيها من المترجمين: يوحنا ابن البطريق، ابن المقفع، يوحنا ابن ماسوية... والثالثة هي مرحلة الازدهار، حيث توالت ترجمات حنين ابن اسحاق ومدرسته. الرابعة والأخيرة هي الفترة الممتدة من مطلع القرن الرابع الهجري إلى منتصف القرن الخامس، وفيها من المترجمين: أبو بشر متى ابن يونس، أبو سليمان السجستاني، أبو عثمان الدمشقي أبو علي عيسى ابن زرعة."[2] . ففي هذا الاطار التاريخي تأسست حركة الترجمة بالتدريج في العالم الاسلامي، وقد ساهمت مجموعة من الظروف والعوامل السياسية والاجتماعية في الاقبال على عملية الترجمة. وخصوصا في العصر العباسي، لأن الترجمة في العصر العباسي تحولت إلى عملية مؤسساتية منظمة. أما في العصر الأموي كانت نشاطات الترجمة اليونانية – العربية عبارة عن عملية غير منظمة جاءت كتلبية "لحاجات الزمن التي نشأت عن حكم العرب لشعوب غير عربية. كالوثائق الادارية والبيروقراطية  والسياسية والتجارية، وقد كانت شخصية وبدون تنسيق."[3] أما في العصر العباسي ستتخذ عملية الترجمة طابعا مؤسساتيا منظما، فمع قيام الثورة العباسية وبناء بغداد وانتقال عاصمة الخلافة إلى العراق، قام في بغداد مجتمع متعدد الثقافات، أساسه المزيج السكاني المختلف ديمغرافيا ويتألف من مسيحيين، ويهود ناطقين بالآرامية، وناطقين بالفارسية في المدن، وعرب كان بينهم مسيحيون مستقرون فضلا عن البدو في المناطق الزراعية شمال العراق."[4]

وهناك مجموعة من الأسباب والعوامل وراء ازدهار عملية الترجمة في العصر العباسي على وجه التحديد، ومن أشهر الروايات نذكر هاهنا لفهم تبريرات الدارسين لسبب ارتباط الترجمة بالعصر العباسي، والسبب هو:" إن المأمون رأى في منامه كأن رجلا أبيض اللون مشربا حمرة، واسع الجبهة، مقرون الحاجب أجلح الرأس، أشهل العينين حسن الشمائل، جالس على سريره.

قال: المأمون. وكأني بين يديه قد ملئت له هيبة. فقلت من أنت؟ قال أنا ارسطو طاليس. فسررت به، وقلت: أيها الحكيم أسألك؟ قال: سل: قلت: ما الحسن؟ قال: ما حسن في العقل. قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن في الشرع. قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن عند الجمهور..."[5]

فهذا الحلم  حسب بعض الدارسين كان من أهم الاسباب والشروط في اخراج وترجمة الكتب من اليونانية إلى العربية. بمعنى أن هذا الحلم هو الذي دفع المأمون إلى الاقبال على الترجمة وتشجيع المترجمين والنقلة، وتوجيه الانظار نحو الإقبال على العلوم والفلسفة.

و من بين العوامل  الأخرى التي ساهمت وأدت إلى ازدهار حركة الترجمة والنقل:

أولا: شعور المسلمين بضآلة موروثهم المعرفي، العلمي، أمام التراث الهائل الذي تركته الأمم السابقة.

ثانيا: حدوث جدل ديني واسع بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى، فكان منطق أصحاب الديانات الأخرى أبلغ، فاحتاج المسلمون إلى ندب فريق منهم لهذه المهمة – وهم المتكلمون- كما احتاجوا إلى التعرف على طرائق الجدل والبرهان، وعلم المنطق، ولا سبيل لمعرفة هذا العلم المدون باليونانية والسريانية إلا بالترجمة.

ثالثا: إحساس الدولة الاسلامية بالغرابة اتجاه موروث الأمم السابقة.

رابعا: التطور الطبيعي للعلوم مع استقرار الدولة."[6]

فهذه النظرة إلى الترجمة نختزلها في عوامل اجتماعية ونفسية (حلم الخليفة المأمون)، فهذه المقاربة تكاد تبتعد عن المقاربة العلمية، لأن التركيز فقط على الشروط والعوامل الاجتماعية لعملية الترجمة يبعدنا عن الدراسة العلمية الرصينة، لأن مثل هذه المقاربة لا تكاد تختلف على بعض المقربات الاستشراقية للفلسفة والعلوم، في المرحلة الوسيطية في العالم الاسلامي. لأن هناك مجموعة من الباحثين والدارسين للمرحلة الوسيطية يركزون في قراءتهم ومقاربتهم لتاريخ الأفكار ( الفلسفة-العلمية) في العالم الاسلامي على مسائل دينية أساسية، لا تخرج عن نطاق علم الكلام  وهذا ما يؤدي إلى تجاهل وتغييب القضايا  والاشكالات  العلمية والفلسفية الاساسية في هذه المرحلة. فهذا إميل برييه: " يؤكد أن النظر العقلي كله تركز حول مسألتين لاهوتيتين  خالصتين: نفي التعدد في الله، ونفي كل قدرة أخرى غير قدرة الله. وبصدد النقطة الاولى كان علماء الكلام المسلمون يتساءلون كيف يمكن وصف الله، وهو الواحد، بأنه رحيم عليم عادل. وقد غلا بعضهم حتى نفى عن الله هذه الصفات. بينما اعتبرها بعضهم الثاني، بدون أن ينفيها مجرد كيفيات وجودية، بها تتجلى ماهية الله..."[7]. فهذا النقاش المتعلق بعلم الكلام كان مطروحا بطبيعة الحال في العالم الاسلامي  ولكن المشكلة تكمن حينما يتم اختزال مرحلة تاريخية تمتد لقرون في هذا الإشكال المتعلق بعلم الكلام. إذ، غالبا ما يتم استبعاد الجانب العلمي والفلسفي واختزال كل ما ثم إنجازه في العالم الاسلامي خلال العصر الوسيط في قضايا علم الكلام . ولذلك نجد مجموعة من الدراسات حول تاريخ الفلسفة والعلم في العصر الوسيط بشكل عام وتحديدا حول المرحلة العربية الاسلامية ترتكز على بعض القضايا الكلامية وتجعل منها قضايا مركزية وتغيب بذلك الاشكالات العلمية والفلسفية، التي اهتم بها العلماء والفلاسفة المسلمين في مجالات علمية مختلفة ( الفلك، الفيزياء، البصريات...) بعد ترجمة الكتب والمخطوطات الفلسفية والعلمية اليونانية إلى العربية[8].

إضافة إلى ذلك فهذه المقاربات والدراسات حتى حينما تستحضر العلاقة بين الأفكار النظرية العلمية-الفلسفية والدين تغلب منطق الصراع والتناقض بين الفلسفة والدين، عوض الاعتماد على المقاربة العلمية، لأن اعتماد منطق الصراع بين الأفكار قد يتحول إلى عائق يحول دون فهم العلاقة بين الاشكالات والافكار الفلسفية والعلمية، وهذا ما نجده لدى إميل برييه الذي يقول:

"انتشر التأثير اليوناني  المناقض لهذا العلم الكلامي، بفضل الكتب التي نقلها من اليونانية إلى السريانية  بوجه خاص. وكان في جملة ما نقلوه، في مدرسة الرها( 431-489) أولا ثم في أديرة سورية. وأخيرا في القرن السابع في قنسرين على الفرات، الأورغانون لأرسطو وكتاب في العالم المنسوب إلى أرسطو، ومؤلفات جالينوس. وفي القرن التاسع بعد تأسيس بغداد، نقلت إلى العربية كتب كثيرة سواء من السريانية أو اليونانية، وأنشأ الخليفة نفسه في عاصمته سنة 832 شبه معهد للمترجمين. وفي أواخر القرن التاسع ترجمت مجموعة من كتب أرسطو إلى العربية (مثلا كتاب السياسة). مع شروح الاسكندر وفورفوريوس وثامسطيوس وأمونيوس ويوحنا  فيليبون ... أما في الطب فقد نقلت إلى العربية كتب جالينوس وفي الفلك كتاب المجسطي لبطليموس"[9]

إضافة إلى ذلك يؤكد "إميل برييه" أن فهم أرسطو في العالم الاسلامي هو فهم ناتج عن كتابان منسوبان إليه خطأ "فنحو عام 840 نقلت إلى العربية، باسم كتاب الربوبية لأرسطو مقتطفات مختارة من سبع مقالات  من اخر ثلاث تاسوعات لأفلوطين ، وقد سبقت الترجمة بتصدير تضمن عرضا مقتضبا للنظرية الافلاطونية المحدثة في الأقانيم. هذا التصدير يضيف إلى ثلاثية الله والعقل والنفس (وكل حد في هذه الثلاثية يشتق من سابقه)  حدا رابعا هو الطبيعة التي تشتق من النفس، ويقابل كل حد من هذه الحدود الأربعة بعلل أرسطو الأربعة: الغائية والصورية والمحركة والهيولانية. وكان من بين المقتطفات تمام المقالة الثانية من التاسوعة الخامسة، وفيها تلخيص كل مذهب أفلوطين. أما الكتاب الثاني المنسوب خطأ إلى أرسطو فهو كتاب العلل ويتضمن مقتطفات من " مبادئ الالهيات لبيروقلس."[10]

فحسب إميل برييه، فهذه هي أهم المؤثرات التي وجهت الفلسفة والعلم في العالم الاسلامي بعد عملية الترجمة، وربما السبب في هذا القول الذي يكاد يكون حكما مسبقا، هو غياب القراءة والمقاربة النسقية والعلمية لتاريخ الافكار النظرية بشكل عام وفي العالم الاسلامي الوسيطي بشكل خاص.  ولهذا نجد إميل برييه يختزل الفلسفة الاسلامية في كتابه "تاريخ الفلسفة: العصر الوسيط والنهضة" في صفحات محدودة مقتصرا فقط على ذكر الكندي والفارابي وبعض الشذرات والتعريفات الضئيلة لابن سينا والغزالي، ثم بعض الفقرات حول أبن باجة، وابن طفيل، وابن رشد. مقتصرا فقط على التعريف بهم دون الاشارة إلى الاشكالات الفلسفية والعلمية التي اشتغل عليها الفلاسفة في العالم الاسلامي. وهذا الأمر يجعلنا نتساءل حول طبيعة هذه المقاربة التي اعتمدها "إميل برييه" باعتباره أحد المؤرخين        والدارسين الكبار لتاريخ الفلسفة، لكن هذه المقاربة غلبت منطق الحكم (الحكم المسبق) على منطق الفهم الرصين والمعرفة، وكأن هذه المرحلة لم تعرف إلا سجالات كلامية دينية فقط، مع التركيز على طابع التناقض بين الفلسفة في صيغتها اليونانية مع علم الكلام، وهنا تتجلى أهمية مقاربة تاريخ الأفكار العلمية والفلسفية مقاربة نسقية وابيستمولوجية بعيدا عن الخلفيات والمقاربات الايديولوجية، الاستشراقية والتمجيدية. لأن ذلك قد يحول دون فهم منطق تطور الأفكار العلمية والفلسفية.[11] ولذلك سنعمل هنا على توضيح السياق العلمي أو العوامل التي أدت إلى الاقبال على عملية الترجمة في العالم الاسلامي، لكي نميز بين منطق العمل ومنطق النظر في عملية الترجمة، وسأركز في هذا المحور على المنطق الاول، الذي يمكن ترجمته إلى السؤال الآتي:

ماهي أهم الشروط والعوامل التي أدت إلى الاقبال على عملية الترجمة في العالم الاسلامي؟ هل تم التعامل مع عملية الترجمة كوسيلة لأغراض عملية سياسية دينية أم أن الترجمة حملت في ثناياها أيضا إشكالات فلسفية وعلمية أدت إلى بناء نسق فلسفي وعلمي جديد؟

من خلال مجموعة من الدراسات العلمية والفلسفية والتاريخية يبدو أنه وبفضل الترجمة بلغ تأثير الفلسفة اليونانية في الفكر العلمي والفلسفي في العالم الاسلامي أقصى فاعليته. بعد انتشار المؤلفات الفلسفية والعلمية وخصوصا في القرن التاسع. لأنه "كانت هناك اعتبارات عملية دعت إلى نقل المؤلفات العلمية والطبية القديمة إلى العربية، التي انحصرت بادئ ذي بدئ في علوم نفعية أو شبه نفعية كالطب والكيمياء والتنجيم"[12]. فعملية الترجمة كما أسلفنا الذكر لم تبدأ جديا إلا في العصر العباسي، حيث أدخل الخلفاء في خدمتهم أبرز الاطباء والعلماء والمنجمين، ولهذا السبب ركزت عملية الترجمة في البداية على المؤلفات والكتب العملية، التي يمكن توظيفها لبناء الدولة العباسية وتحصينها  سياسيا  واجتماعيا. "لأن الانتفاضات السياسية التي تلت سقوط السلالة الأموية وانتقال الخلافة إلى العباسيين، قد أقنعت هؤلاء بأن مصير الانسانية، وقيم الدول وانحلالها، هي اسرار محفوظة في ثنايا النجوم، وأنه من شأن الحكماء وحدهم رموزها والكشف عن خفاياها."[13]

و في هذا السياق العلمي –السياسي والاجتماعي والديني- ثم تأسيس "بيت الحكمة" الذي أنشأه المأمون[14] في بغداد سنة 830. وجعل منه مؤسسة رسمية  ومكتبة للترجمة والبحث، وأرسل وفودا إلى بلاد الروم لطلب كتب ومخطوطات في العلوم القديمة، والعمل على ترجمتها إلى العربية من طرف مجموعة من المترجمين من بينهم "يوحنا بن ماسويه، والحجاج بن مطر، ويحي بن البطريق، وحنين ابن اسحاق، واخرين ...فحاجة المجتمع الاسلامي العملية للعلوم هو من بين العوامل الأساسية وراء الاقبال على ترجمة الكتب والمؤلفات والاهتمام بالعلوم. إذ "أعطى المجتمع الاسلامي بعد نشأته، دفعة لازدهار العلوم بنوعيها النقلية ثم العقلية، رغم أنه ليس في وسع الباحث إدراك جميع الأسباب الاجتماعية لميلاد هذه الحركة العلمية العقلية لفهم أسباب اتساعها وانتشارها، ورغم عدم توفر دراسات تاريخية دقيقة جدا عن المجتمع الاسلامي ونظمه الاقتصادية ومؤسساته، فإن ما لا يمكن إنكاره هو وجود ارتباط قوي ووثيق بين العلم وحاجات المدينة الاسلامية"[15]. بمعنى أن مجموعة من العلوم تم الاهتمام بها وترجمتها لأغراض وأهداف سياسية واجتماعية ودينية، فالجبر الحسابي مثلا تم توظيفه من طرف الفقهاء وتطبيقه على المسائل الشرعية الخاصة بالمواريث والوصايا وفقا للتعاليم الدينية، كما تم الاهتمام بعلم الفلك أيضا لدواعي عملية تتمثل في محاولة تحديد القبلة ومواقيت الصلاة، وهذا ما يوضح ان استجلاء العلوم اليونانية إلى العالم الاسلامي في العصر العباسي نشأ بدافع الحاجة إليها ولم يكن مجرد ترف فكري، لذا "كان طابع العلم العربي-الاسلامي هو الطابع العملي، إذ حمل الوعي الاجتماعي والتوجه البراغماتي للحياة التجارية والطابع الحضري المديني للحياة، كما اصطبغ اساسا بالمصالح الاجتماعية، وبذلك لم يقع تحت هيمنة الفكر النظري الخالص"[16]. ولهذا السبب يبدو أن أغلب الدراسات حول التقليد العلمي والفلسفي في العصر الوسيط، تركز على الجانب السوسيولوجي للاهتمام بالعلم، لكن الاقتصار عل المقاربة السوسيولوجية قد يحول دون فهم أهم الاشكالات النظرية خلال العصر الوسيط في العالم الاسلامي، كما أن الاقتصار على المقاربة السوسيولوجية فقط (منطق العمل) هو ما يجعل بعض الباحثين يسقطون أحكام جاهزة وغير علمية على الاسهامات النظرية في العالم الاسلامي، إذ يتم اختزال هذه المرحلة إلى مجرد مرحلة للترجمة والنقل، وإلى مجرد سجالات كلامية. ولهذا السبب سأحاول توضيح أهمية الاعتماد على المقاربة السوسيولوجية أو ما يسمى بسوسيولوجيا المعرفة لكن في حدود معينة، نظرا لأهميتها في فهم السياق التاريخي والاجتماعي لظهور وتطور الافكار الفلسفية والعلمية في مرحلة تاريخية محددة. لأن "فهم الملابسات  المقامية للفاعلية العلمية يحتاج إلى الدراسة  السوسيولوجية، فكل معرفة تمتلك بعدا اجتماعيا، والعلماء أعضاء فاعلون في مجتمع ما. والتحليل السوسيولوجي مهم لأنه يدرس العلاقات الاجتماعية التي تحيط بالنشاط العلمي وتوجهه"[17].

فالمقاربة السوسيولوجية هي من بين المداخل الاساسية التي لا يمكن انكار أهميتها أيضا في قراءة وفهم تطور الفلسفة والعلوم في العصر الوسيط وتحديدا في العالم الاسلامي، فمن خلال هذه المقاربة يتضح أن مجموعة من العلوم التي تمت ترجمتها، كان ذلك لأهداف عملية ولم يحدث ذلك من قبل حب الاطلاع، وإنما حدث لاعتبارات إدارية ومعيشية كانت الدولة الناشئة تتعهد بإرسائها، ولذلك لم تكن هذه المبادرات مبادرات فردية حبا في الفكر والاطلاع عل انتاجات الحضارات الأخرى، بل كان استجابة – عملية نفعية- لبناء وتأسيس الدولة على دعائم متينة.

و لهذا الهدف احتضنت "بيت الحكمة" مجموعة من العلماء والأطباء والفلكيين وأصحاب الصناعات المختلفة وترجموا مختلف العلوم التي تبحث في شتى العلوم والفنون والمعارف.

ومن بين أهم الكتب التي تمت ترجمتها نذكر بعض منها:

كتب أرسطو:

"المقولات". "العبارة". "الكون والفساد". "في النفس" .

كتاب 'بطليموس " المجسطي".

كتاب فورفوريوس "الإيساغوجي". ثم كتب أخرى كثيرة لأفلاطون وجالينوس وأبقراط...إضافة الى كتب علمية وفلسفية أخرى لا يتسع المجال لذكرها كلها هنا.

و بعد عملية ترجمة الكتب والمؤلفات، وتوظيف بعضها لأغراض عملية، ستظهر مرحلة جديدة بعد الترجمة، هي مرحلة التأسيس لنسق علمي جديد في العالم الاسلامي، وهذا الانتقال من عملية الترجمة إلى ما بعد الترجمة هو ما سميته بالانتقال من منطق العمل إلى منطق النظر –العلمي الفلسفي-. وبعض الباحثين الذين يصدرون أحكاما تبدو غير علمية حول الفلسفة الاسلامية بكونها مجرد نقل وترجمة، فإنهم يقفون فقط على الجانب الأول الذي سميناه منطق العمل، كما يختزلون كل الاسهامات الفلسفية في علم الكلام فقط، دون البحث في أصل الاشكالات الفلسفية والعلمية التي اشتغل عليها مجموعة من الفلاسفة والعلماء في العالم الاسلامي، وهكذا تتضح مدى أهمية استحضار المقاربة الابيستيمولوجية  للبحث والكشف عن منطق تطور الأفكار والاشكالات العلمية، لأن المقاربة السوسيولوجية رغم أهميتها فقد تعجز عن كشف ورصد المنطق الذي يحرك تاريخ الأفكار النظرية –العلمية والفلسفية- "إذ صحيح أن الدراسة السوسيولوجية تساهم في استكمال النظرة إلى النشاط المفهومي في العلم. فلا تسكن المفاهيم العلمية في عالم مفارق، بل تنبع من التقليد الثقافي المرتبط بعلاقات وثيقة مع المجتمع. لكن هل تتحكم القوى المجتمعية السائدة في المضامين التي تأتي بها القوانين العلمية؟ هل المجتمع هو الذي يربط الظواهر بشروط معينة دون أخرى؟ هل المجتمع هو الذي يملي على العلماء صيغ الاستدلال والبناء؟   وهل يمكن أن يقوم التناول السوسيولوجي مقام التحليل الابيستمولوجي"[18] .و بخصوص هذا السؤال الأخير،  فلا يمكن الاستغناء عن المقاربة الابيستيمولوجية  لأن التحليل الابيستيمولوجي كما أسلفنا الذكر هو المدخل الأساسي لفهم الميكانيزمات والاشكالات الداخلية المحركة لتطور الأفكار العلمية. أما العوامل الاجتماعية فهي قد تساهم أحيانا في تطور الأفكار وذلك باحتضانها داخل مؤسسات، كما هو الحال في العصر العباسي بعد تأسيس "بيت الحكمة"، بمعنى أن الشروط الاجتماعية والسياسية هي مجرد عوامل ثانوية قد تسرع أو تبطئ أحيانا في تطور الأفكار العلمية والفلسفية. ولهذا السبب يتضح أن "التحليل السوسيولوجي يرتكز فقط على العوامل الخارجية التي قد تساعد في تطور العلم كما قد تعيق أحيانا أو تبطئ من تقدم العلم. ولهذا فمجموعة من الدراسات التي أنجزت حول تاريخ العلم والفلسفة حول العصر الوسيط ركزت بشكل على الجانب السوسيولوجي، غير أن الاقتصار على المقاربة السوسيولوجية قد يجعل ذلك الباحث عاجزا عن فهم المنطق الداخلي الذي يحرك تاريخ العلم، مما يجعل بعض الباحثين يشرعون في اصدار بعض الاحكام الجاهزة وغير المبنية علميا حول مرحلة تاريخية من مراحل تطور العلم[19]، كما هو الحال مع الباحث "توماس جولد شتاين" الذي يرى أن "العلم في العالم الاسلامي كان يستمد إلهامه من الملاحظة الممتعة لتنوع الطبيعة واستخدامات سخائها. ولم يهتم كثيرا بتأسيس  سيطرة العقل على الطبيعة من خلال أنساق فلسفية محكمة"[20] من هنا تتضح أهمية المقاربة الابيستمولوجية لتاريخ الأفكار العلمية، وهذه المقاربة للأفكار في العصر الوسيط وخصوصا في العالم الاسلامي نجد لها حضورا في بعض الدراسات ولدى مجموعة من الباحثين الذين اهتموا بتاريخ العلوم في العصر الوسيط، ومن أبرز هؤلاء الباحثين "الدكتور عبد الحميد صبرة"[21]، و"جورج صليبا"[22]  و"مصطفى نظيف"[23]  و"رشدي راشد"[24]  و"الدكتور محمد أبطوي" إضافة إلى باحثين اخرين قدموا مجهودات علمية كبيرة من أجل إخراج ميدان تاريخ العلوم في العالم الاسلامي الوسيط  من عزلته الأكاديمية ووضع حد لقلة  الاهتمام بالإشكالات النظرية ونتائجها، والعمل على توضيح أهمية الاسهامات العلمية للحضارة الاسلامية الكلاسيكية في تقدم العلوم، لأن دور العلماء المسلمين  لم يقتصر فقط على الترجمة بل مارسوا العلم أيضا في مختلف الميادين والمجالات العلمية، وهو ما شكل أرضية نظرية لتطور الفلسفة والعلوم انطلاقا من القرن الثاني عشر والثالث عشر في أروبا. لأن النهضة العلمية الحديثة تدين بشكل كبير لتلك الجهود والاسهامات التي قدمها مجموعة من العلماء والفلاسفة في ميادين مختلفة، كالفلك والطب والرياضيات والفيزياء والكيمياء... وفي هذا السياق نجد الباحث "أحمد جبار" يدعو إلى تجاوز ذلك الحيف والاقصاء تجاه التقليد العلمي والفلسفي في العالم الاسلامي.

« c’est pourquoi nous avons entrepris de rédiger ce Modest ouvrage , à la fois pallier une insuffisance et pour contribuer à réparer une injustice historique »[25]

تأسيسا على ما سبق يتضح أن عملية الترجمة ساهمت بشكل كبير في نقل مجموعة من الكتب والمؤلفات العلمية من اليونانية والسريانية إلى اللغة العربية وخصوصا في العصر العباسي الذي ازدهرت فيه عملية ترجمة الكتب والمخطوطات العلمية بدعم وإيعاز من الخلفاء العباسيين وخصوصا بعد تأسيس "بيت الحكمة" سنة 830 من طرف الخليفة العباسي المأمون، الذي فتح مجالا كبيرا لمجموعة من المترجمين وتحفيزهم لترجمة أكبر عدد من الكتب والمخطوطات العلمية والفلسفية. وهكذا يتضح أن عملية الترجمة لعبت دورا كبيرا في نقل المعرفة واستمرارية الأفكار النظرية، فمجموعة من الحضارات  التي أسست لتقاليد علمية وفلسفية انطلقت من عملية الترجمة  وهذا ما حدث في العالم الاسلامي، وكذلك في أروبا خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر . إذ بواسطة الترجمة تم نقل التراث اليوناني والعربي الاسلامي، خصوصا إلى أروبا، حيث "أتاحت هذه الجهود الخارقة في الترجمة للغرب الحصول على أعمال أرسطو وشراحه إلى جانب الأعمال الأساسية الأخرى اليونانية والعربية"[26]. فمن خلال الأعمال الفلسفية والعلمية والشروحات والاسهامات التي قدمها  الفلاسفة والعلماء في العالم الاسلامي، سيتم التأسيس  لنسق وتقليد علمي في أروبا ابتداء من القرن الرابع عشر. بعد ترجمة مجموعة من الأعمال والكتب العلمية إلى اللغة اللاتينية ، لثلة من العلماء والفلاسفة "كابن سينا" و"ابن الهيتم" و"الخوارزمي" إضافة إلى "أقليدس" و"بطليموس" و"أبقراط" و"جالينوس

و شروحاتها... فهذه الاسهامات النظرية هي التي شكلت أرضية خصبة لتطور العلم الحديث انطلاقا من عصر النهضة. لكن ماهي الشروط  النظرية (الفلسفية والعلمية) التي ساهمت بشكل كبير في التطور الذي عرفه تطور العلوم ابتداء من القرن الرابع عشر في أروبا؟ ماهي أهم الاسهامات العلمية التي قدمها الفلاسفة والعلماء في العالم الاسلامي  في مجال الأفكار الفلسفية والعلمية ؟

 

الاسم: حلال اسماعيل

أستاذ الفلسفة بالسلك الثانوي التأهيلي - المغرب

..........................

أحمد جبار: العلوم العربية في عصرها الذهبي. ترجمة عبد السلام الشدادي ومحمد أبلاغ، بيت الفنون والعلوم والآداب،ص.23. [1]

[2] الترجمة في الوطن العربي: نحو إنشاء مؤسسة عربية للرجمة . بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية الفصل الأول : الترجمة في التراث العربي: حركة الترجمة والنقل: درس تاريخي : يوسف زيدان ( ص 37-38 ) مركز دراسات الوحدة العربية. الطبعة الأولى . بيروت، فبراير 2000.

[3] هالة على : الترجمة العربية في نهضتها الأولى : قراءة في كتاب  "الفكر اليوناني والثقافة العربية دمتري غوتاس". ترجمة نقولا زيادة. ص: 4.

[4] المرجع نفسه، ص.4.

ابن النديم: الفهرست، المكتبة التجارية القاهرة، ص. 353. في ذكر السبب الذي من أجله كثرت كتب الفلسفة في هذه البلاد.[5]

[6] الترجمة في الوطن العربي: نحو إنشاء مؤسسة عربية للرجمة. يوسف زيدان، ص. 44.

[7] إميل برييه: تاريخ الفلسفة، الجزء الثالث، العصر الوسيط والنهضة. ترجمة جورج طرابيشي. دار الطليعة للطباعة والنشر. بيروت. الطبعة الثانية . يناير 1988 ص.117.

[8]  الاشارة هنا إلى بناصر البعزاتي. المقاربة الابيستيمولوجية للترجمة بدل المقاربة الاجتماعية والسيكولوجية (حلم المأمون) أو الايديولوجية.

[9]. إميل برييه: تاريخ الفلسفة، الجزء الثالث، العصر الوسيط والنهضة. ترجمة جورج طرابيشي. دار الطليعة للطباعة والنشر. بيروت. الطبعة الثانية . يناير 1988  ص. 119

[10] المرجع نفسه. ص.119.

[11]  بخصوص عملية الترجمة ودورها في تطور وازدهار الفكر العلمي والفلسفي في العالم الاسلامي، فهناك خلط في بعض الدراسات بين علم الكلام والفلسفة. لأن إميل برييه يختزل بشكل من الاشكال الفلسفة الاسلامية في علم الكلام فقط. دون تميزه بين الاشكالات الكلامية والنظرية في تلك المرحلة. لأن "الكندي" منهجيا هو معيار الفصل  في ذلك، إذ يقف على الخط الفاصل ما بين  الفلسفة وعلم الكلام، ذلك الخط الذي حاول الفلاسفة اللاحقون أن يتجاوزوه بجرأة ربما فلسفية وعلمية عميقة.

[12]  ماجد فخري، تاريخ الفلسفة الاسلامية ، ترجمة الدكتور كمال اليازجي، الجامعة الامريكية بيروت ، الدار المتحدة للنشر 1979، ص.28.

[13]  ماجد فخري، تاريخ الفلسفة الاسلامية ، ترجمة الدكتور كمال اليازجي، الجامعة الامريكية بيروت ، الدار المتحدة للنشر 1979. ص.30.

[14]  المأمون: من أهم الخلفاء العباسين الذين أسس بيت الحكمة سنة 830. وكما يؤكد ماجد فخري في كتابه "تاريخ الفلسفة الاسلامية" انه ليس من بين رعاة العلم اليوناني، * ممن مر بنا ذكرهم، من استطاع أن يضاهي باندفاعه وكرمه وتفوقه الفكري الخليفة العباسي العظيم المأمون، الذي كان عهده نقطة تحول في تقدم الفكر الفلسفي والنشاط الكلامي في الاسلام. إذ كان يرأس مجالس العلماء التي انعقدت حول الجدل في مسائل كلامية وفلسفية بالغة الجرأة، جرى فيها النقاش بحسب أدق قواعد النزاهة الفكرية.

[15]  سالم يفوت، "مكانة العلم في الثقافة العربية" العلوم في المجتمعات الاسلامية: مقاربات تاريخية وأفاق مستقبلية، تحت اشراف محمد أبطوي، الرباط. 16-17 أبريل 2004 ، ص. 15.

[16]  المرجع نفسه. ص. 19.

[17]  بناصر البعزاتي: الاستدلال والبناء: بحت في خصائص العقلية العلمية، دار الأمان الرباط ، المركز الثقافي ، الطبعة الاولى 1999. ص 371.

[18]  بناصر البعزاتي: الاستدلال والبناء: بحت في خصائص العقلية العلمية، دار الأمان الرباط ، المركز الثقافي ، الطبعة الاولى 1999. ص. 371

[19]  إن اعتماد المقاربة السوسيولوجية  وحدها لقراءة تاريخ العلوم، قد تجعل الباحثين والدارسين يصدرون أحكاما مسبقة وجاهزة. كما قد تسقطهم في متاهات ايديولوجية (عرقية، لغوية، دينية) تفضل مرحلة تاريخية فكرية على أخرى. كما هو الحال في بعض القراءات والدراسات الاستشراقية  أو التمجيدية. غير أن المقاربة العلمية الأكاديمية تعلمنا أنه لا يمكن ربط الابداع بحضارة ما دون أخرى، فكل حضارة ساهمت بشكل من الأشكال في تاريخ تطور الأفكار العلمية والفلسفية، فما يحرك تطور العلوم هو الاشكالات النظرية، كما أن الاشكالات لا دين ولا لغة لها.

[20] المرجع السابق. ص.377.

[21]  عبد الحميد صبرة (1924-2013) أستاذ تاريخ علوم وتكنولوجيا مصري ، متخصص في تاريخ علم البصريات والعلم الإسلامي في العصور الوسطى. حصل صبرة على شهادته الجامعية من جامعة الإسكندرية، ثم درس فلسفة العلوم على يد كارل بوبر في جامعة لندن، حيث حصل على درجة الدكتوراه في عام 1955 عن أطروحة في علم البصريات في القرن السابع عشر. درّس في جامعة الإسكندرية بين عامي 1955-1962، ثم في معهد فاربورغ بين عامي 1962-1972، وفي جامعة هارفارد من عام 1972 حتى تقاعده في عام 1996.

في بحثه حول "الاعتماد وتطوير العلوم اليونانية على أيدي المسلمين في العصور الوسطى"، عارض نظريات بيير دوهيم التي تقول بأن الثقافة الإسلامية لم تضف أو تحافظ على العلوم اليونانية القديمة، ولكنها استخدمتها وعدلتها فقط بنشاط. تعرف أحيانًا نظريته حول نقل الثقافات للعلوم بين بعضها بشكل غير رسمي باسم "نظرية صبرة. في عام 2005، منحته جمعية تاريخ العلوم ميدالية جورج سارتون عن مجمل أعماله في تاريخ العلوم .توفي عبد الحميد صبرة في 18 ديسمبر 2013.

[22]   جورج صليبا مفكر لبناني الأصل يشتغل صليبا منصب أستاذ العلوم العربية والإسلامية في جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك. أصدر صليبا عشرات الكتب والمقالات المختصة في تاريخ العلوم الإسلامية والفلسفة وتأثيرها على تطور الحضارة الغربية وعلومها في عصر النهضة. وركز صليبا في الكثير من بحوثه على علم الفلك، تاريخه وتطوره في الحضارة الإسلامية واليونانية. من بين مؤلفاته التي صدرت أو ترجمت للعربية "العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوروبية" و"الفكر العلمي العربي؛ نشأته وتطوره" و"تاريخ علم الفلك العربي". حصل صليبا على العديد من الجوائز من بينها جائزة تاريخ العلوم عن "أكاديمية العالم الثالث للعلوم" عام 1993، كما حصل على جائزة تاريخ الفلك عن مؤسسة الكويت للتنمية عام 1996. يعد جورج صليبا من  أبرز الباحثين في مجال تاريخ العلوم الإسلامية . ويؤكد الدكتور جورج صليبا إن المخطوطات العلمية والشواهد التاريخية تثبت بطريقة علمية مسندة أن العلماء العرب والمسلمين لم يبنوا نظرياتهم في علم الفلك على النظريات اليونانية فقط ، ولكنهم جددوا معايير الفلك، وقدموا حسابات أكثر دقة من الحسابات اليونانية، وهي الحسابات التي تستخدم حتى يومنا هذا، بل وقاموا بتحديد نواقص النظريات اليونانية وقدموا نقد للنظريات القديمة وصححوا الخاطئ منها.

وأكد أن النهضة الأوروبية لم تأت من فراغ، وأن العالم يدين للعلماء العرب والمسلمين بالفضل في التوصل إلى النهضة العلمية، فالإسهامات العربية والإسلامية في علوم الفلك خصوصا قدمت لعلماء العالم منهج علمي سليم وحسابات دقيقة وضعها علماء مثل ابن الشاطر والطوسي، وهي الحسابات والنظريات ساهمت في النهضة الأوروبية، ومثلت استمرارية للفكر العلمي العربي الإسلامي الذي ربط بين المشاهدة والملاحظة والقياس

[23]  مصطفى نظيف هو مفكر مصري ( 1971-1893 )  اشتهر بدراسته الرائدة لأعمال العالم الحسن بن الهيثم، وهي دراسة مستفيضة تقارب صفحاتها الألف، ونشرتها جامعة القاهرة في مجلدين، وقد بذل المؤلف جهدًا مضنيًا في قراءة مخطوطات ابن الهيثم،  وقرأ مئات المراجع، وراجع آراء العلماء والفلاسفة حتى يجلي جهود ابن الهيثم، ويخلص إلى حقيقة صادقة، بأن ابن الهيثم قد وضع أسس علم الضوء بالمعنى الحديث، وأنه أبطل علم المناظر الذي كان معروفًا، ووضع أسسًا ونظريات وآراء جديدة لم يُسبق إليها. ويذهب مصطفى نظيف إلى أن أعظم آثار ابن الهيثم في الضوء أنه أبطل نظرية قديمة كانت شائعة تتوارثها الأجيال من عصر اليونان إلى عصره في كيفية حدوث الإبصار، وهي تتلخص في أن الإبصار يكون بإشعاع أو بحزمة من الأشعة على حسب التعبير الحديث، تخرج من البصر إلى المبصر، وأثبت أن للضوء حقيقة ووجودًا ذاتيًا، حيث يدخل إلى شبكية العين، ومنها إلى المخ، وتحدث الرؤية. وأثبت مصطفى نظيف في كتابه سبق ابن الهيثم لـ فرنسيس بيكون في ابتداع الطريقة العلمية والأخذ بأسبابها، وقال: إن هذه الطريقة التي تُعد من مبتكرات العصر الحديث هي الطريقة التي التزمها ابن الهيثم في كتبه وبحوثه وكشوفه الضوئية؛ حيث اعتمد على الاستقراء والقياس وعُني بالتمثيل، وهو بذلك لم يسبق فرنسيس بيكون فحسب بل سما عليه، وكان أوسع أفقًا وأعمق منه تفكيرًا.

[24]   رشدي راشد هو مفكر مصري متخصص في تاريخ العلوم  ولد عام 1936م، بالعاصمة المصرية، القاهرة، حيث درس في جامعتها، ليحصل على ليسانس الفلسفة وهو في العشرين من عمره، ثم ينتقل إلى فرنسا، فيكمل دبلوم الرياضيات من جامعة باريس، وينال دكتوراه الدولة في تاريخ فلسفة الرياضيات في الجامعة نفسها. بعد ذلك شغل رشدي راشد مناصب عدة في المركز الفرنسي القومي للأبحاث العلمية عام 1965م، ومنصب مدير أبحاث الابستمولوجيا وتاريخ العلوم في جامعة دنيس ديدرو - باريس، حتى عام 2001م، ومدير مركز الفلسفة والعلوم والفلسفة العربية للعصور الوسطى حتى عام 2001م.

أسس رشدي راشد -فريق بحث في الابستمولوجيا وتاريخ العلوم والمعاهد العلمية. نشر العديد من المقالات والأبحاث والكتب في مختلف الدوريات عن مساهمة العلوم الإسلامية والعلماء المسلمين في تطوير وتقدم العلوم، كما يرأس تحرير دورية العلوم والفلسفة العربية، بجامعة كامبريدج، وشغل  منصب المدير الشرفي لقسم أبحاث المستوى الرفيع في مركز البحوث العلمية الوطني في فرنسا CNRS..

وضع رشدي راشد أكثر من 30 كتابًا، ومن أعماله المهمة إشرافه على موسوعة تاريخ العلوم العربية التي صدرت في لندن ونيويورك طبعتها الأولى في 1996م، وقد حرر فيها الأجزاء التي تقع في تخصصه المباشر، وهي الحساب والجبر والبصريات الهندسية. ومن أشهر أعماله: مدخل لتاريخ العلوم (باريس، 1971)، كتاب الجبر  (القاهرة، 1975)، أعمال عمر الخيام في الجبر ـ بالاشتراك مع أحمد جبار (حلب، 1981)، العلوم في عصر الثورة الفرنسية (باريس، 1984)، أعمال الكندي الفلسفية والعلمية (ليدن،  1998)، أعماله الأخرى في مجال الرياضيات أوما يعرف بفلسفة الرياضيات.

يعتمد الدكتور رشدي راشد في فهمه وتحليله للتاريخ على فكرة "التقاليد" "tradition"، فالتطورات التاريخية، من الناحيتين الفلسفية والعلمية، تعتمد على ظهور تقاليد فلسفية وعلمية جديدة تؤشر على ظهور هذه التطورات وانتهائها. لذلك يعتمد تحليله التاريخي من الناحيتين الفلسفية والعلمية ليس على المقارنة الصورية للنماذج التاريخية المختلفة، وإنما على التحليل المجتمعي التفصيلي للظروف المصاحبة لظهور التقاليد التاريخية المختلفة. لذلك يمكن القول بأن التحليل التاريخي للدكتور راشد ينتمي بشكل أساسي إلى مجال علم اجتماع المعرفة الذي يربط بين الوقائع والشروط الاجتماعية والتاريخية وبين نشوء وتطور المعرفة العلمية.

وقد طبق الدكتور رشدي راشد وطور هذا المنهج على ظهور وتطور العلم العربي/الإسلامي القديم، وعلى بيان علاقته التطورية بالعلم اليوناني السابق عليه والعلم الغربي الحديث اللاحق له. وأمكن له بواسطة هذا المنهج أن يكشف عن الطبيعة الخاصة للعلم العربي/الإسلامي وللمجتمعات العربية/الإسلامية التي أنتجته وكيفية تميزه عن العلوم السابقة واللاحقة عليه. كما أمكن له أن يثبت نوعا من الاستمرارية والتطور في الفكر العلمي عموما، وفي العلاقة بين الفكر العلمي العربي/الإسلامي القديم والفكر العلمي الحديث خصوصا. وهو ما غير من نظرة المجتمع العلمي الإنساني المعاصر لتاريخ العلم وللعلاقات المجتمعية المؤدية إلى نشأة العلم، وللإسهامات العلمية في العالم الاسلامي دور كبير في التطور الذي عرفه تاريخ الأفكار العلمية والفلسفية بشكل عام.

[25] Ahmed Djabbar : une histoire de la science arabe . introduction de la connaissance  du patrimoine scientifique des pays d’islam . entretiens avec jean rosmorduc , Editions du seuil, mai 2001, p. 13  .

[26] توبي هاف : فجر العلم  الحديث: الاسلام والصين  والغرب .ترجمة شوقي جلال، ص.206..

 

 

في المثقف اليوم