قضايا

القدس موطن الهجرات والفتوحات

علي كرزازيدلت حفريات علماء الآثار على أن أول من سكن القدس قبائل بدائية من العصر الحجري القديم، وبدءا من القرن 4 قبل الميلاد عرفت المدينة هجرات منتظمة كانت أولها هجرة الأموريين الذين اعتبرهم كثير من الدارسين وثيقي الصلة بالكنعانيين، وقد استطاعوا السيطرة على سواحل البحر الأبيض المتوسط، ومما أكدته التوراة في هذا المنحى كون الكنعانيين أسسوا حضارة فتية قادت صراعا محتدما مع العبرانيين.

ويبقى من الراجح أن اليبوسيين – وهم فرع من سلالة الكنعانيين العرب- هم من بنوا مدينة القدس تحت إمرة قائدهم الشهير ملكي صادق الذي كان يطلق عليه بنو قومه لقب "كاهن الرب الأعظم" وقد اشتهرت المدينة –المسماة آنذاك يبوس- بتحصيناتها وبزراعة العنب والزيتون عدا عن كثير من المعادن كالنحاس والبرونز، فضلا عن استخدام الخشب في صناعة السفن والقوارب، إضافة إلى صناعة الأسلحة والثياب والزجاج. غير أن ما كان يعاب على هذه القبائل أو الشعوب العربية التي سكنت القدس هو افتقارها لحكومة مركزية قادرة على بناء دولة قوية، وهو ما أدى إلى طمع العبرانيين في أرضهم ، بل ونجاحهم في ضم أجزاء كبيرة منها في عهد القائد اليهودي يشوع بن نون – بحسب ما جاء في التوراة - وقد استمر الصراع بين الشعبين لمدة تقارب المائتي عام.

وفي منتصف الألف الثانية قبل الميلاد نزح الآراميون إلى أرض القدس فدخلوا في صراع محتدم مع العبرانيين، ثم جاء من بعدهم الفلسطينيون بعد أن أرغمهم الهيلينيون على ترك جزيرة كريت فسكنوا بين يافا وغزة، وعاشوا مع بقايا الكنعانيين وبني إسرائيل. لكن لا ينبغي أن نغفل حكم الفراعنة للأراضي المقدسة، إذ ثبت من خلال رسائل تل العمارنة السبع أن مدينة أورشليم خضعت لفرعون مصر أمنحتب الثالث (حوالي 1413 قبل الميلاد)، وبذلك ظل الفراعنة يحكمون فلسطين عن طريق ولاة من أهلها مقابل دفع الجزية.

سيكون من المفيد أن نلقي الضوء على الهجرة الأولى لليهود/الإسرائيلين نحو أرض فلسطين، وقد تزامنت مع هجرة الهكسوس والحوريين في الفترة ما بين 2100-2000 قبل الميلاد، وكان على رأس هذه الهجرة سيدنا إبراهيم الخليل الذي تروى التوراة أنه حل بأرض كنعان (فلسطين) غريبا بمعية ابن أخيه لوط وعائلتيهما، وعاشوا وسط الكنعانيين وتعلموا لغتهم، ويرجح أن سيدنا إبراهيم تسمى بالعبراني لعبوره نهر الأردن في طريق لفلسطين، وأعقب ذلك هجرة العبرانيين من أرض فلسطين إلى مصر، وهي الهجرة التي ذكرها القرآن في سورة يوسف بناء على دعوة العزيز (النبي يوسف عليه السلام) لأبيه يعقوب عليه السلام. فاستقروا في محافظة الشرقية وكان عددهم حوالي السبعين نفرا، واستمر بقاءهم في مصر حوالي 430 عاما، ثم جاءت الهجرة المعكوسة من مصر إلى فلسطين بقيادة النبي موسى عليه السلام، وهي الهجرة التي اعتبرها دارسو التاريخ البداية الفعلية لتاريخ اليهود في الأرض المقدسة، ومن ثم استؤنفت فصول الصراع اليهودي العربي بين الاسرائليين من جهة والمديانيين والفلسطينيين من جهة أخرى، ويرى الكتاب الأمريكي ستبمبسون جورج أن بني يهودا وبني شمعون تمكنوا من حرق مدينة القدس وأسروا بعض سكانها اليبوسيين، لكنهم فشلوا في اختراق الحصن القائم على جبل صهيون، وما لبث أن استعاد اليبوسييون زمام الأمر فأعادوا بناء المدينة وحكموها خلال عهد القضاة وإبان عهد الملك شاؤول، لدرجة أن اليهود لم يعد لهم وجود بالمدينة إلا بعد أن استولى عليها الملك داود سنة 1006 ق.م. ولم يكن يخفى على النبي داود الأهمية الإستراتيجية للقدس فهي من ناحية ذات موقع طبيعي يوفر لها الحماية ولساكنيها، إضافة إلى أنها تتوسط فلسطين، هذا فضلا عن أهميتها السياسية المتمثلة في حيادها لكونها تمنعت عن الأسباط، إذ كانت تقع بين الأراضي التي احتلها سبطا يهوذا وبنيامين، كما أن موقعها أتاح لها السيطرة على خطوط المواصلات الرئيسية بين الشمال والجنوب. وهذه الأسباب مجتمعه هي التي دفعت النبي داود إلى نقل عاصمة دولته من مدينة الخليل ( كانت تدعى جبرون في ذلك الوقت) التي بقي يحكم فيها مدة سبع سنين ونصف السنة، إلى أورشليم التي بقي فيها مدة 33 سنة، إلا أنه رغم تعاظم نفوذه ذالك، لم يستطع  الملك داود أن يجلي اليبوسيين المتمسكين بأرضهم.

إبان عهد الملك سليمان الحكيم، قام هذا الأخير بمد الأسوار شمال قلعة داود وأنشأ عدة تحصينات بالمدينة، كما شيد لنفسه قصرا فخما على تل "أوفيل" وحصنه بأسوار منيعة قصد حمايته. ومن أشهر منجزات –الملك سليمان- تشييده لمعبد مبني بالحجارة سمي بهيكل سليمان. وقد أقامه في مكان على جبل هوريا في جنوب شرق القدس القديمة، على شكل مربع طول ضلعه 180مترا، وكان موقع الصخرة (التي يزعم البعض أنها تقع حاليا تحت قبة مسجد الصخرة) هو هيكل الذبائح التي يسميها اليهود بالمحرقات، وكان مكشوفا ومغطى بصفائح من النحاس في أركانه الأربعة. وبالرغم من القوة التي أبداها سليمان في حكمه –الذي دام مدة 33 سنة- فقد واجه ثورات عربية مناوئة. وبعد وفاته ضعفت مملكته وانقسمت إلى دولتين صغيرتين: واحدة في الشمال والأخرى في الجنوب، وقد قضى عليهما الفراعنة والآشوريون. وتذهب بعض مزاعم اليهود إلى أن المسجد الأقصى قد أقيم على أنقاض الهيكل الذي بناه سليمان، غير أن هذه المزاعم ليست لها ما يدعمها، حيث لم تثبت الحفريات أي أثر يدل على بناء الهيكل في ذلك المكان أو حتى في منقطة القدس.

بقيت القدس رازحة تحت حكم الفراعنة إلى أن حاصرها البابليون/ الكلدانيون بقيادة ملكهم نبوخذنصر الثاني (593 ق.م) والذي سبى الكثير من اليهود وحرق الهيكل، وقد فسرت التوراة سبب انهزام اليهود أمام البابليين بتعاظم شر اليهود ومخالفتهم تعاليم الله وعدم امتثالهم لأوامر وتحذيرات نبيهم أرميا، ونظرا لتمردهم على حكم البابليين تعرضت القدس مجددا للحصار البابلي وكان ذلك سنة 590 ق.م، وفي المرة الثالثة أقدم البابليون على حرق المدينة وسبي أهلها، ويذهب جميع المؤرخين إلى أن الوجود اليهودي في فلسطين انتهى بعد السبي البابلي، فصاروا مجرد طائفة دينية حتى عهد المكابيين (167 ق.م)، ويقدر المؤرخون الفترة التي قضاها اليهود في السبي ب70 عاما.

وبعد البابليين ‘قيّض لأورشليم (القدس) أن ‘تفتح من طرف الفرس الذين أنهوا حكم البابليين بها سنة 526 ق.م بمساعدة من طرف الجواسيس اليهود، وهكذا استطاع اليهود أن يعودوا مرة أخرى إلى المدينة بفضل الملك قورش الفارسي الذي جازاهم على صنيعهم، فعمدوا مجددا إلى إعادة بناء الهيكل على يد زربابل بن شالتئيل الذي أتمّه سنة 515 ق.م ، وعلى أية حال فإن مدينة القدس خلال العهد الفارسي تدهورت أحوالها على جميع الأصعدة، وإن كانت عرفت توافد أعداد كبيرة من العرب عليها.

كانت القدس على موعد مع الفتح اليوناني في سنة 333 ق.م على يد القائد الإسكندر المقدوني الأكبر الذي مهد حكمها للبطالمة، إذا استولى عليها بطليموس الأول وضمها مع فلسطين إلى مملكته في مصر وذلك سنة 323 ق.م، إلا أن بطليموس الخامس فرط في القدس ومملكته يهوذا لصالح السلوقيين بقيادة أنطوخيوس الثالث الكبير والي سوريا، كان ذلك في العام 198 ق.م.

إذا كان اليهود قد نعموا خلال فترة حكم البطالمة بتوسع نفوذهم فإن أنطوخيوس شن عليهم حربا شعواء وعاملهم بقسوة لا مثيل لها فقتل منهم الكثير، واستعبدهم وسلب هيكلهم كما ألغى الدين اليهودي وأكرههم على عبادة آلهة الإغريق. ولعل واقع الاضطهاد هذا هو ما دفع باليهود إلى هجرة القدس، لكنهم عادوا إليها ليحركوا أتون الثورة في عهد ابنه أنطوخيوس الخامس (164 ق.م).

لم يأفل نجم الإغريق في الأرض المقدسة قبل أن يطبعوها بلغتهم وآدابهم إذ نقلوا إليها حضارتهم وديانتهم الوثنية، وأعقب حكمهم ثورة المكابيين بزعامة يهوذا المكابي الذي استولى على القدس سنة 168 ق.م، وحكم نسله المدينة من بعده حتى حوالي سنة 63 ق.م، لكن عهدهم ‘وسم بالفوضى والحروب الأهلية نتيجة الصراع حول الحكم، وهو ما مهد الطريق لدخول الرومان للمدينة في السنة ذاتها(63 ق.م)، ويبقى أهم إنجاز للمكابيين هو إعادة تجديد الجزء الذي دمره أنطوخيوس من الهيكل.

كان القائد بومبي هو من قاد الاكتساح الروماني للقدس، ومن ثمة توالى حكم القادة الرومان للمدينة ولعل أشهرهم المدعو هيرودس الذي حكم المدينة مدة 23 سنة، وفي آخر سنة من حكمه ولد المسيح عليه السلام في مدينة بيت لحم جنوبي القدس، وقد عمل أبناء هذا القائد وأحفاده على توطيد الحكم الروماني بفلسطين وبالقدس خاصة، غير أن اليهود لم يستسلموا للرومان فقادوا الكثير من الثورات ضدهم، أولها الثورة اليهودية الكبرى التي استمرت من سنة 66 م إلى 70م والتي نجح القائد الروماني " تيطس" في إخمادها بالقوة، فأحرق مدينة القدس وأسر الكثير من اليهود ودُمِّر المعبد للمرة الثانية، لكن اليهود عاودوا التمرد في سنة 115م و132م و‘عرف هذا التمرد الأخير بثورة شمعون بن كوكبة، غير أن الإمبراطور "هادريان" هدم القدس ثانية وأخرج اليهود منها وطبعها بطابع روماني صرف، فأصدر مرسوما غيّر بمقتضاه اسم المدينة التي صارت تعرف ب مُستعمرة " إيليا الكابيتولينيةّ " وأصبجت بالتالي تابعة لمقاطعة سوريا الفلسطينية بدل مقاطعة اليهودية، وكان ذلك تيمنا بالفلستنيين الذي سكنوا الساحل الجنوبي.

وإبان عهد الإمبراطور قسطنطين الأول الذي نقل عاصمة الإمبراطورية الرومانية من روما إلى بيزنطة واعتمد المسيحية ديانة رسمية للدولة، تم تشييد العديد من المعالم المسيحية بالقدس ولعل أهمها كنيسة القيامة التي بنيت عام 326م، فكان ذاك عنوانا للإشعاع المسيحي بالمدينة، حيث صارت القدس مركزا لبطريركية ذات أهمية بالغة، تنضاف إلى البطريركيات الكبرى وهي: الإسكندرية، أنطاكية، روما والقسطنطينية، وقد أنشئت في مجمع نيقية، هكذا إذا اتسعت ونمت القدس  إذ بلغ عدد سكانها آنذاك حوالي 200,000 نسمة ومساحتها 2 كلم2، والجدير بالذكر أن اليهود لم يطئوا أرضها طيلة عهد قسطينطين الأول وحتى القرن السابع الميلادي.

وفي سنة 395 م دب الضعف في جسد الإمبراطورية الرومانية فانقسمت إلى إمبراطوريتين، الأول: الإمبراطورية الغربية وعاصمتها روما، والثانية: الإمبراطورية الشرقية أو البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية، فكان أن خضعت القدس وبقية بلاد الشام للإمبراطورية البيزنطية.ومن جهتهم عمل الفرس على استغلال حالة الضعف هاته التي كانت تمر بها الإمبراطورية الرومانية، فتمكن" كسرى الثاني" في سنة 614 م من استعادة القدس من يد الرومان بمساعدة اليهود الناقمين على البيزنطيين، واستمر حكم الفرس لها 15 سنة من ذلك التاريخ، إلى أن استطاع الإمبراطور"هرقل" تخليصها منهم سنة 629 م وبقيت تحت حكم الرومان إلى غاية الفتح الإسلامي عام 636 م.

ولعله من المفيد أن نستحضر –خلال هذا العهد- طبيعة العلاقة التي جمعت بين المسيح عيسى عليه السلام واليهود، إذ يرى المؤرخون المسيحيون أن المسيح عيسى عليه السلام ما فتئ يدعوهم للإيمان بالتعاليم المسيحية إلا أنهم رفضوا ذلك كلية، فاضطهدوه وأساءوا معاملته، فتنبأ بخراب أورشليم/القدس وتشتيتهم جراء صنيعهم ذلك، وهو ما يستشف من قوله عليه السلام: "هو ذا بيتكم ‘يترك لكم خرابا" (متى: 24، لوقا: 21) وقوله أيضا " الحق أقول لكم أنه لا يترك ههنا حجر على حجر لا ينقض"، والظاهر أن هذه النبوءة تحققت من خلال تدمير الرومان للمدينة سنة 70 م وطردهم لليهود منها.

 

د.علي كرزازي

 

 

في المثقف اليوم