قضايا

معن زيادة وموقفه من الفكر المصري الحديث والمعاصر(2)

محمود محمد عليفي هذا المقال نحاول أن نتعرف علي موقف معن زيادة من الفكر المصري الحديث والمعاصر، حيث يري في كتابه "معالم علي طريق تحديث الفكر العربي، أن الفكر المصري الحديث تشكل بداية من عهد محمد علي باشا، حيث استطاع هذا الرجل في نظر معن زيادة أن يقوم بخطوة مهمة جداً وضرورية، وهي قيامه بتحديث الجيش المصري، وقد قاده ذلك إلي ضرورة تحديث الدولة، وعندما أخذ بتحديث الدولة وجد أن ذلك لا يكون إلا بتوفير البني أو الأجهزة أو (الكوادر) الأساسية اللازمة، والتي لا غني عنها في عملية التحديث (1).

ثم يؤكد معن زيادة بأن رفاعة الطهطاوي (1801- 1873) يعد من أبرز أركان النواة الأولية لجهاز محمد علي، الممثل الأول للجيل الأول من هذه البني في ميدان التربية، والتعليم، والترجمة، والتأليف، والمفكر الذي وضع المعالم الأولي لمركب ثقافي جديد يجمع بين الحداثة والتراث، والمعلم الذي أضل الأصول الحديثة لكثير من العلوم كالجغرافيا والتاريخ والتربية والتعليم والسياسة في الفكر العربي، والمعلم الذي أسهم في صياغة أفكار الأجيال اللاحقة، والرائد الأول لمجمل الفكر العربي الحديث (2).

بل يؤكد معن زيادة أن رفاعة الطهطاوي بأنه لم يكن يدا واحدة تعمل دون أيد إلي جانبها، وإن كان اليد الاولي، والمعلم الكبير، والممثل الأساسي لجيل الرواد الأوائل، بل هو رائد الرواد الذي جمع الثقافتين العربية – الإسلامية والغربية الحديثة في كل موحد، وإمام نهضة أدرك أن العلم هو طريقها فلم يوفر جهدا في تحصيله وتهيئته لمن بعده، فكان نقطة الضوء التي ما زالت تكبر، والبذرة الصالحة في الأرض الطيبة (3).

ويستطرد معن زيادة فيقول: وفي باريس تنبه الطهطاوي إلي علم الجغرافيا وإلي حقائق جغرافية وفلكية جديدة، وكان علم الجغرافيا من العلوم الحربية التي تسهم في نهضة الجيش الوطني، وقد انصرف الطهطاوي إلي هذا العلم، ووقف علي حقائق أصبحت بديهية الان إلا أنها كانت بمثابة الاكتشافات الكبري بالنسبة له. من هذه الاكتشافات مسألة كروية الأرض والقول بدوران الأرض ونحوه وقد رفض الطهطاوي أول الأمر قبول هذه الأفكار فوصفها بالضلالات، إلا أنه استدرك بقوله إن الأوربيين يقيمون عليها أدلة يعسر علي الإنسان ردها، ثم عاد بعد ذلك وأخذ بها وقدمها لمواطنيه وساهم في ترجمة ووضع كتب جغرافية متعددة، وبمنهج جديد فكان رائدا في هذا الميدان (4).

إلا أن الأهم من قراءات الطهطاوي كما يقول معن زيادة في الحساب والهندسة وفي علوم الطبيعة وفي الفنون العسكرية وفي الجغرافيا، بل وفي التاريخ أيضا، قراءاته الفكرية والفلسفية ووقوفه علي الحركة العقلية التي اسهمت في تشكيل فكر عصر النهضة الأوربية (5)... فقد أفاد الطهطاويكما يقول معن زيادة من كتابات جون لوك وراسين وروسو ومنتسكيو  (6).

ولا شك في أن هذا كله دخل في ضمير الطهطاوي وعقله كما يقول معن زيادة حتي بات جزءا من كيانه يشكل النصف الثاني من ثقافته، ويقوم جنبا إلي جنب ودون تعارض، مع ثقافته الأزهرية .. ويمكن أن نخلص من هذا إلي أن الطهطاوي الذي نهل من الأزهر أولا، ثم أضاف إلي ذلك بالرجوع إلي ثقافة الآباء والأجداد التراثية قد قدر له إلي جانب ذلك أن يتعلم الفرنسية، وان يطلع علي المؤلفات التي تمثل الفكر الغربي الحديث، وان يقف علي المناهج الجديدة في العلوم المختلفة، وأن يعايش الحياة الأوربية، وأن يشهد أحداث ثورة أطاحت بملك مستبد وحققت إرادة الشعب. وقد أضاف هذا كله إلي ثقافته الأصلية، والتقي الشرق والغرب في عقله وقلبه علي وفاق، فلم يكن هذا الفتي الذي أوفي علي الغاية من تعليمه في الأزهر واشتغل بتدريس علوم الدين واللغة فيه وفي غيره من المساجد في طنطا وملوي، ونظم الشعر وعمل واعظا وإماما في جيش محمد علي، متعصبا أو منطويا علي ذاته، بل كان إلي جانب تدينه سوي النفس، رحب الأفق، يحكم العقل قبل أن تتحكم فيه العاطفة، ميالا إلي التجديد اكثر منه إلي المحافظة. وعندما أتيح له أن يوسع دائرة علمه، وعندما وضعت بين يديه مناهج جديدة، وقدمت له رؤي جديدة في الإنسان والحياة والعالم، كان ذلك كله إكمالا لثقافته الأصلية أكثر منه بديلا لها، وكان ذلك متمما لا متعارضا معها (7).

إلا أن اتساع رؤية الطهطاوي واغتناء علمه كما يقول زياده لا يصل به إلي تحول ثقافي كامل، أو إلي قطيعة مع ثقافته الأصلية، أو إلي أزمة فكرية وعقلية، فمع إيمانه بعلم الغرب وتقدمه وضرورة الأخذ عنه والإفادة من تجربته، فإنه يدرك أن العرب كانوا آخر من تصدر قيادة المسيرة العلمية قبل أن يتصدرها الأوربيون وهم يعترفون لنا بأنا كنا أساتيذهم في سائر العلوم، وبقدومنا عليهم (8).

ثم يناقش معن زيادة قضايا كثيرة أسهم فيها الطهطاوي بنصيب وافر مثل قضية الحرية والتمدن وقضية المرأة، كما عرض لمعالم فكر الطهطاوي السياسي والاقتصادي والاجتماعي إلي أن توصل لتلك التنيجة وهو أن الطهطاوي يؤمن بالعلم إيمانا لا يحول دون السعي إليه حائل، ففي العلم يجد الطهطاوي ضالته في إحياء النهضة وبعث التجديد والتحديث، وهو ما كان قد اهتدي إليه أستاذه الشيخ حسن العطار قبله، إلا أن الأستاذ لم يستطع أن يلعب الدور الذي لعبه التلميذ، واكتفي بمحاولة إحياء الثقافة العربية أيام عصورها الزاهرة، والحض علي الوصل بين الماضي العلمي المجيد والحاضر المفتقر إلي العلم والمعرفة، ووقف عند حدود بذر البذور التي تعهدها التلميذ من بعده فربت علي يديه وأثمرت حركة التجديد التي استقام عليها الفكر المصري، وامتدت لتشمل كل جوانب اليحاة .. علي يد محمد عبده، وقاسم أمين، وأحمد لطفي السيد، وطلعت حرب، فما من حركة من حركات هؤلاء المصلحين علي اختلاف ما بينهما من اتجاهات إلا وهي صدي، أعمق ما يكون الصدي لجانب من الجوانب العديدة في فكر الطهطاوي ودعوته للارتقاء والتمدن (9).

ويخلص معن زيادة أن الطهطاوي هو بحق الراشد الأول الذي ارتبطت باسمه بداية الفكر العربي الحديث، فقد استطاع أن يضع يده مباشرة علي مفصل المشكلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأن يدركها إدراكا واعيا رابطا بينها وبين المشكلة التربوية والعلمية والمعرفية والحضارية عموما، وقد تميز الطهطاوي بأنه المعلم الذي وجد أن الحل التربوي هو طريق الحل السياسي، وبالتالي طريق الحل النهضوي الشامل، فهو من جهة طريق الخروج من التخلف، وهو من جهة أخري طريق ادلخول في الحداثة (10).

ثم يتحدث معن زيادة عن بصمات فكر الطهطاوي علي من جاء بعده، واختار أحمد فارس الشدياق ( 1805-1887) الذي كان معاصرا للطهطاوي، حيث قد ولد بعده بسنوات قليلة وتوفي بعده بسنوات قليلة، لم يخرج عن حدود المشروع النهضوي العام كما رسمه الطهطاوي، وكل ما تميز به الرجل أنه صب جهوده علي اللغة العربية، وعمل فيها علي نطاق واسع محاولا أن يثبت قدرة هذه اللغة علي مماشاة العصر وفكر العصر ومبتكراته ومسمياته . وبهذا يمكن القول إن جهوده جاءت مكملة لهذا المشروع في ميدان خاص هو ميدان اللغة، أما إسهامات الشدياق خارج هذا النطاق فلا تصل إلي حدود ما أقدم عليه الطهطاوي (11).

ثم ينتقل معن زيادة للحديث عن محمد حيث يقول عنه :" أما محمد عبده ( 1849-1955) فلم يخرج عن الإطار العام لفكر جمال الدين الأفغاني، إلا أنه أغناه ووسعه وقدمه في صورة متكاملة، مع تركيز علي الإصلاح الديني أكثر من المعل السياسي، واختلاف في وسائل العمل ولا سيما بعد فشل الثورة العرابية التي كانت محط آمال محمد عبده (12).

ويستطرد معن زيادة فيقول :" يهتم محمد عبده أكثر مما يهتم بإصلاح الدين، وهو ما كان يأخذ به أستاذه الأفغاني، إلا أن محمد عبده، يربط هذا الإصلاح بإطاره المجتمعي المحدد، وهو افطار العربي عامة والمصري علي وجه الخصوص . ففي حين كان الإطار المجتمعي عن الأفغاني غير محدد ومهتزا فإننا نجده واضح الصورة والمعالم عند محمد عبده الذي كان بمثابة تلميذ للأفغاني . وبالإضافة إلي الإطار المجتمعي المحدد فإن للإصلاح الديني عند محمد عبده إطارا اجتماعيا أكثر تحديدا، وهو غالبية الشعب المصري من الفلاحين بوجه خاص، وهي الفئة الاجتماعية الواسعة التي خرج منها محمد عبده وظل ملتزما بمصلحتها الاجتماعية في كل نشاطاته ومنها مجاله الأوسع وهو الإصلاح الديني،ولعل هذا الالتزام هو الذي وضع محمد عبده في موقف معاد لمحمد علي الذي اهتم بالدولة علي حساب المواطن المصري عموما والفلاح المصري بوجه خاص (13).

ثم يؤكد معن زيادة فيقول :" تأرجح محمد عبده بين التزامه بالسواد الأعظم من المصريين وما كان عليه هذا السواد من ثقافة دينية تقليدية، وبين أخذه بالثقافة الغربية وتأثره بها، وقد كان العرب والمصريون متأرجحين بين هذين الاتجاهين بسبب تعطيل المصالحة التي كان قد أخذ بها محمد علي والطهطاوي بعد المواجهة التي بدأت قبل الثورة العرابية، والتي تكرست بعد دخول الأتكليز إلي مصر وغيرها من البلاد العربية . وقد جاء الحل عند محمد عبده مشابها للحل عند جمال الدين الفغاني، وهو إصلاح الدين مما لحق به من أفكار غريبة عنه، وتحريره من قيود الخرافات وأغلال الجمود ليتسع لمتطلبات الحياة العصرية التي انتشرت وتوسع انتشارها حتي باتت لا يمكن تجاهلها وإهمالها . فقد كان محمد عبده علي إدراك واع بأن التطور الحديث لا مرد له، وانه يتسع تدريجيا ليشمل الدائرة الفكرية، وأنه إذا لم تحدث إصلاحات في الفكر الديني فإن هذا الفكر لن يستطيع الصمود أمام التحدي الفكري الاتي من خارج (14).

ولأن محمد عبده أخذ بإصلاح الدين كما يقول معن زياده فقد كان من الطبيعي أن يدافع عن هذا الدين وأن يبرئه من كل ما لحق به من باغ وزيف وانحراف. وقد قاده هذا إلي اعتماد العقل كأداة للتمييز بين الصحيح وغير الصحيح، وبالتالي إلي تأكيد أن العقل هو أصل من أصول الإسلام، إلا أن محمد عبده ظل متأرجحا بين الإيمان والعقل، وقد جاء إصلاحه وسطا بين موقفين . وقد كان من الطبيعي أن يتجسد هذا كله في انتقائية ظاهرة مزج فيها عناصر من مدارس واتجاهات مختلفة، حتي لا نقول متناقضة. فلقد حاول محمد عبده إقامة توازن بين التصوف والسلفية والمثالية والعقلانية والرغبة في إظهار الدين بصورة لا تتعارض مع العلمانية الأوربية . إلا أن هذا البناء المتوازن سرعان ما أنهار علي يد تلامذته، فقد اتجه محمد رشيد رضا إلي سلفية واضحة في حين أخذ علي عبد الرازق بعلمانية تشبهت بالغرب، وطالبت بفصل الدين عن الدولة والاعتراف بأن لكل منهما ميدان عمله المستقل (15).

ولأن الرؤية عند الشيخ الإمام هي رؤية شاملة كما يؤكد زياده، فقد جاءت محاولته لإصلاح الدين محاولة لإصلاح كافة المجالات السياسية والتشريعية والقضائية والاجتماعية والتربوية وغيرها . ولأن موقف محمد عبده الديني كان موقفا ملتزما بالوطن، الوطن المصري علي وجه التحديد، فقد قاده هذا الموقف إلي الانخراط في العمل السياسي. (16)... وللحديث بقية.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

.................

1-معن زيادة : معالم علي طريق تحديث الفكر العربي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 115 – يوليو – الكويت، 1987م، ص 172.

2- نفس المصدر، ص 172,

3- نفس المصدر، ص 174,

4- نفس المصدر، ص 175,

5- نفس المصدر، ص 178-179.

6- نفس المصدر، ص 178-179.

7- نفس المصدر، ص 180.

8- نفس المصدر، ص 194,

9- نفس المصدر، ص 215.

10- نفس المصدر، ص 217.

11- نفس المصدر، ص218.

12- نفس المصدر، ص219..

13- نفس المصدر، ص219-220.

14- نفس المصدر، ص219-220.

15- نفس المصدر، ص221.

16- نفس المصدر، ص221.

 

 

في المثقف اليوم