قضايا

الأفكار والإبداع!!

صادق السامرائيسأقترب من الموضوع بزاوية حادة ومعقدة ومركزة لأنه من الموضوعات الثقيلة، والتي تستدعي الدراسة العميقة والبحث المستديم، وقد درتُ حوله في مقالات متنوعة بحثا عن كنه ما فيه من المكنونات الإدراكية والحقائق الجوهرية.

وأعود إلى ما كنتُ أهتم به بعد إنقطاع طويل، بدعوة من الأستاذ مصطفى علي فشكرا له.

وإبتداءً لابد من السؤال عن ماهية الأفكار والإبداع.

فما هي الأفكار؟!!

هل هي مصنوعات بشرية أم موجودات كونية نرتقي إليها؟!!

قد تتضارب الآراء والتصورات والإستنتاجات، ما دمنا نتفاعل مع ظاهرة غير ملموسة أو غير مرئية، لكنها فاعلة في وجودنا العام والخاص.

الكثيرون يرون أن الأفكار من صنع البشر، والواقع السلوكي والتقييم المتواصل لكينونة الأفكار في الأدمغة تُظهِر أنها موجودات قائمة حولنا، وكل منا يمتلك قدرات إصطياد ما يستطيعه منها ويُفاعلها في بودقة دماغه،  ليستخرج منها عصارتها أو سلاّف ما فيها.

ويبدو أن هناك تغيرات دماغية تتسبب بإجتذاب نوع من الأفكار دون غيرها، ووفقا للحالة الفاعلة في رأس المتلقي، ولكي ترتقي إلى أي فكرة لا بد أن تمر برياضات، وهي تأملات متواصلة مركزة في موضوع ما، فعندها تتحقق في القشرة الدماغية دوائر تواصلات عُصَيْبيّة ذات سُرَعٍ متفاوتة، تساهم في إحداث مجال كهرومغناطيسي حولها، يساعدها على إستحضار الأفكار المتوافقة مع سرعة جريانها ومتانتها وتماسكها وثباتها ومعززاتها وطاقاتها.

فما هي الأفكار المنجذبة إلى الأدمغة؟

تبدو الأفكار عبارة عن جسيمات موجية أو كالفوتونات الضوئية أو غيرها، لكنها بالتأكيد تعبيرات طاقوية ذات تأثيرات فاعلة في الوجود.

فالوجود بأسره فكرة، ومنه توالدت الأفكار وتنامت وتشعبت، وكأننا نعيش في فضاء مزدحم بالأفكار المحلقة حولنا، والساعية إلى مَن يستقطبها ويرتقي إليها ويتكون بها وفيها.

والفرق بين المخلوقات في قدرتها على الإمساك بنوع الفكرة، التي ما أن تحل في الدماغ حتى تبدأ مشوارها الإستبدادي، الذي تؤسسه بزيادة سرعة الدائرة العُصيبية التي إجتذبتها وبتسخير دوائر عُصيبية أخرى لصالحها، ومن ثم تسود وتتحكم بالوعي والإدراك ولا يمكن زحزحتها، فتبلغ ما نسميه بالوهم الذي يفترس وجودنا بكيفيات لا حصر لها.

وقد تحل ذات الفكرة في أكثر من دماغ وبنسب تفاعلية متفاوتة، وبعضها تمتلك قوة تأثير هائلة على الأدمغة الأخرى فتأسرها، فتجد شخصا صاحب فكرة ما وإذا بها تنطلق منه لتمتلك أدمغة الآلاف، وربما الملايين وتسخرهم لصالح إرادته.

ذلك أنه حلق في مدارات علوية فائقة ذات تأثيرات كهرومغناطيسية هائلة في الفضاء الذي يكون فيه.

وهذه العمليات التواصلية تحصل في القشرة الدماغية، التي لو أزلناها لإنتفى التفكير وما وجدت أفكارا في الرؤوس، ذلك أن الدوائر الدماغية تتحقق فيها وحسب.

والأفكار تحل بالأدمغة بكامل هيأتها وما إعتراها في رحلتها الطويلة وتصادماتها العديدة مع غيرها من الأفكار التي تزاحمها وتتنافس معها، فهي ليست نقية خالصة وإنما فيها الكثير من الشوائب والمُعَكّرات.

وعندما نتساءل عن معنى الإبداع، يكون الجواب في القدرة على تنقية الفكرة الحالّة في الدماغ وتحليتها وتصفيتها، وإعدادها لتكون صالحة للحياة في البيئة التي ستتُرجَم فيها.

أي أن الإبداع يمكن تشبيهه بأحواض وآليات تحلية وتصفية المياه لكي تكون صالحة للشرب، وكل يستطيع أن ينتج ماء ذا نكهة وطعم ما.

والإبداع بحاجة إلى مفردات وعناصر أو أبجديات، وهنا يأتي دور اللغة اللازمة للتعبير عن الفكرة بثوبها الإبداعي، الذي يتناسب مع قدرات الدماغ الذي حلت فيه.

ولا يمكن لإبداع أن يتحقق بدون لغة أيا كان نوعها، ولهذا فاللغة عنصر أساسي في صناعة الإبداع، وكلما زادت مفرداتها في الدماغ المبدع إرتقى إبداعه،  وهذا يأخذنا إلى مراكز اللغة في الأدمغة وسلامتها وقدرتها على التواصل والإنطلاق التعبيري التام.

واٌلإبداع المقصود به التعبير المادي والمعنوي عن الفكرة، والفكرة تميل إلى التخلق المادي والعملي أكثر، لأنها تريد ممارسة الحياة وتؤدي رسالتها ودورها الكوني.

وعندما نتساءل عن الأفكار والمشاعر، فأنهما حالة واحدة، بمعنى أن الفكرة عندما تجد الدائرة العُصيبية المناسبة لها في الدماغ فأنها تأتي بكامل ما فيها وحولها، فالفكرة هي التي تحدد مشاعرها وعواطفها، وهي التي تختار إيقاعها، فعندما تأتي لترتدي ثوب الشعر فقد إختارت قياساته وموديلاته أي إيقاعاته، وما على الذي تفاعل معها إلا أن يجيد الإستجابة لإرادة الفكرة، التي تريد أن تبدو بأجمل ما تكون عليه من شكل وتأثير.

ولهذا فأن بحور الشعر إيقاعات تولدت من مسيرة التفاعلاىت القائمة ما بين الأفكار والنفوس ذات الإيقاعات التي تشير إليها.

والأفكار تريد أن تجد لها موطنا متوافقا مع إيقاع ما فينا، والعكس صحيح!!

والطبيعة النفسية لوعاء الشخص تحدد ماهية الأفكار التي ستكون فيه!!

والمستقبل واعد بإكتشافات مذهلة ستقلب معارفنا رأسا على عقب، ولسوف تسجل أجهزة الحاسوب أفكارنا، وسترسم ما في رؤوسنا من أفكار، ولربما سنتوصل إلى إستحضار الزمن بمفرداته منذ الأزل، فالأفكار التي تستوطننا لا تغيب بل تتنامى فينا وتتطور، وتعود إلى فضاءاتها التي جاءت منها بعد أن تموت الأدمغة.

وكلما أبحرنا في أكوان الأفكار نكتسف أننا من الجاهلين، وقل ربي زدني علما، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا، وتلك حقيقة أننا لا نعلم وإن توهمنا بعلم!!

 

د. صادق السامرائي

25\12\2020

 

 

في المثقف اليوم