قضايا

ليوناردوا دافنشي رائد التشريح الحديث

محمود محمد عليكانت دعوة الفنان الإيطالي ليوناردوا دافنشى فى الرجوع لكشف أسرار الطبيعة ذات أثر فعال فى أن يتناول أموراً مختلفة المدى من مسائل تتعلق بتشريح ووظائف الأعضاء، حيث كان يعد بحق عبقرية من طراز فريد، فهو فناناً، ومهندساً، ومعمارياً، ومكتشفاً، وباحثا فى ميكانيكا الجسم البشرى، بالطبع هو لم يتلق تعليما طبيا لكن مخططاته التشريحية تظهر محاولته للربط بين تشريح الجسم البشرى وفن العمارة، تتركز حول تشريح الرأس ورسم الجمجمة من الخارج والداخل، ولكن رؤيته للمخ البشرى ظلت تقليدية.

ويذكر أنه قضى ليالى طويلة فى المقابر يشرح الجثث على ضوء الشموع ويقال أنه قام بتشريح 30 جثة، بعدها قدم اسهاماته الأساسية لفن التشريح بالرسم والشرح، بدءا بتشريح العضلات والأوعية الدموية والأعصاب والجهاز التنفسى وأغشية الجنين والقلب وترك آلافا من الرسوم التوضحية بقى منها سبعمائة وخمسون لوحة تشريحية، وكان اول من رسم أعضاء الجسم البشرى من أربع جهات بما يعطى رؤية متكاملة للعضو او الجزء المرسوم وكان أيضا أول من استخدم تقنية حقن الأعضاء المجوفة بالشمع السائل لكى تظل محتفطة بشكلها الطبيعى.

سجل ليوناردو دافنشى مقاييس التشريح أبرع تسجيل فى لوحته الشهيرة "الرجل الفيتروفى "Vitruvian Man، حيث ساعده معرفته الواسعة بالتشريح والهندسة المعمارية، واللوحة تعبّر عن فهم الفنان للعلاقة الوثيقة بين الإنسان والطبيعة، إذ كان دافنشى يعتقد بأن وظائف جسم الإنسان تشبه كثيرا وظائف الكون وتتكامل معها؛ حيث يقول في مذكراته: " على المصور أن يلم بالضرورة المعارف التشريحية المتعلقة بأشكال العضلات والأوتار والعظام والأربطة، وذلك لكى يصبح قادراً على عمل صياغات جيدة لأعضاء الجسم العادى، وأن يختار أوضاعاً لحركات مناسبة لشخوصه، لأن بإلمامه لهذه العلوم سيدرك أين يكون موضع هذا الوتر أو العضلة عند أداء هذه أو تلك الحركة وما هى العضلة التى تسبب الحركة .

ثم يذكر دافنشى فى أكثر من موضع من مذكراته على أنه أنجز بحثاً مفصلاً فى تشريح جسم الإنسان. وقد تمكن بعض الباحثين من العثور على قطع متناثرة من هذا الكتاب . ومن أقواله الشهيرة التي وردت عنه في تلك لقطع قولة: " سأوضح لك تصويري الإنسان تماماً كما لو كان أى إنسان حقيقي أمامك. والسبب هو أنك لو رغبت فى معرفة أجزاء الإنسان مشرح معرفة وافية، فيجب أن تدير عينيك لتفحصه من جميع الجوانب – من أسفل ومن أعلى، ومن الجانبين، مقلباً الفحوص وباحثاً عن أصل كل عضو . وبهذه الطريقة ترضى نفسك بشأن معرفتك بالتشريح الفعلى .

ويصف دافنشى كمثال للطريقة التى يأمل أن يوضح أجزاء معينة من الجسم مثل اليد من الداخل، فيقول: " عندما تبدأ يدك من الداخل، قم أولاً بفصل كل العظام قليلا عن بعضها البعض حتى يمكن التعرف على الشكل الصحيح أو التعرف على كل عظمة على الجانب الداخلي لليد، وكلما كانت المسافة بينهما أكبر كلما حصلت على العدد والموضع الصحيح لكل منهما، ثم قم بإعداد بعصهما منشورة من منتصف سمكها، أى طولياً، حتى يمكنك أن تبين أيهما خاوى، وأيهما ملئ. وبعد ذلك ضع العظام معاً مفصلة بشكل مناسب، واسحب ثم سجل مفاصل أشكال العظم الأولى . والتوضيح التالي سيكون توضيح العضلات التى تربط عظام الرسغ وشط اليد وسلاميات أو عظام الأصابع معا، والخامس سيوضح الأحبال التى تحرك المفاصل الثانية للأصابع، والسادس سيوضح الأحبال التى تحرك المفاصل الثانية للأصابع، والسابع سيوضح الأعصاب التى تمنح الحساسية، والتاسع سيوضح الأوردة والشرايين . والعاشر سيوضح اليد السليمة كاملة بجلدها وقياساتها، وأي القياسات ينبغي أخذهما للعظام . وآياً كان ما تفعله لهذا الجانب من اليد ستفعله أيضاً للجوانب الثلاثة الأخرى ؛ أى من الجانب الداخلي، ومن الجانب الظهري ومن الجانب الخارجي .

ولم يكتف دافنشى بوصف تشريح الإنسان بالقول، بل أضاف إلى أقواله الرسوم التى فاقت كل ما رسم قبلها فى هذا الميدان، والتى لا يخطئها الحصر للجنين والقلب والرئتين والهيكل العظمى والجهاز العضلى والأمعاء والعين والجمجمة والمخ …الخ .

وإذا تتبعنا جهود دافنشى فى التشريح، فإن معظم الباحثين يؤكدون أنه مارس التشريح بعناية أثناء ثلاثة مراحل فى حياته: فى ميلانو حوالى 1490، وفى فلورنسا ما بين 1503-1506، ثم فى ميلان مرة أخرى بين 1510-1511 وكانت هذه المرة الأخيرة بالتعاون مع الطبيب" مارك ديلاتور" .

ومن الدراسات التشريحية التي قام بها دافنشى خلال تلك المراحل - منها أنه على حد قوله قيامه بتشريح ثلاثين جثة آدمية، ابتداء من الجنين إلى العجوز المئوى، وقد كتب فى ذلك ما نصه: " شرحت أكثر من ثلاثين جثة بشرية، وكنت أشرح كل عضو من أعضائها، واستهلك كل جزء من لحومها، لكى استخرج العروق التى من حولها دون أن نخرج الدماء منها، إلا فيما يتعلق بالشرايين التى كانت تصيبها بعض الجروح الخفية، ولم يكن يكفيني العمل فى جثة واحدة، بل كنت أنتقل من جثة إلى جثة لأحصل على معلومات كافية، وأكرر العملية لكى يتضح الفرق بين النتيجتين، وما أكثر هذه الجثث، حيث كانت تصلني هذه الجثث بمجرد أن تخرج من أيدي من كان موكلاً إليه أمر الكشف عليها، فتصبح هذه الجثث مشوهة بحيث لا يجرؤ أى إنسان علي الاقتراب منها.

ويذكر " ادموندوا سولمى " في كتابه بعنوان " ليوناردو" ؛ أن دافنشى كان يتعلم تشريح تلك الجثث فى مستشفى " سانت ماريا نودفا " بمدينة فلورنسا، ولقد كانت ممارسته لأعمال التشريح فى تلك المستشفى، أن اكتشف كثيراً من الأخطاء التى وقع فيها السابقون عليه .

فمثلا أثبت دافنشى خطأ قول جالينوس" من الوريد الرئوي يحمل الهواء مباشرة إلى القلب، وأن للقلب تجويفين فقط، وأثبت أن للقلب أربعة تجاويف . وبحث فى حركة فيها بواسطة النماذج التى عملها. وعمل قالباً للشمع على بطينات القلب وأوعيتها الدموية، ومنه أنه عمل قالباً من الجبس وطبقه على زجاج، وبواسطة هذا النموذج الزجاجي وفحص الدورات التى يقوم بها الدم بالسير فى اتجاه واحد فقط .

وأثبت فى أكثر من موضع من دراساته التشريحية، أنه يستطيع أن يعطى أفكارا صحيحة عن جسم الإنسان، وقد كتب فى ذلك يقول: " وهكذا نستطيع إعطاء أخبار صحيحة عن جسم الإنسان الذى لم يستطع الكتاب القدامى والعصريون إعطاء أخبار صحيحة عنه بدون ذكر أوصاف مضطربة وغامضة ومستفيضة عنه. ولكن هذه طريقة مختصرة لتصويره من مختلف مظاهره تجعل من السهل إعطاء أخبار حقيقية وكاملة عنه، ولذلك فلن تضيع إرشاداتي للناس فى هذا السبيل سدى، إذ أنى أعلمهم طريقة إظهاره فى نظام وترتيب .

ومما يؤكد تفوق دافنشى فى التشريح على من سبقه أنه توصل بالتجربة عن تركيب تجاويف المخ ؛ بأن أدخل شمعاً مذاباً فى مخ انتزعه من الجمجمة، وطريقته فى ذلك: " اعمل ثقبين للهواء فى قرن التجويف الأكبر، وأدخل الشمع المذاب فيه، وفى نفس الوقت ‘مل ثقباً فى المخ الحقيقي فى التجاويف الثلاثة، ولكن أدخل أولاً الأنابيب الدقيقة فى ثقوب الهواء ينزح الهواء ليحل محله الشمع .

واكتشف دافنشى من تجاربه على الضفادع أن النخاع الشوكى أسبق بيولوجياً من المخ، وقال: " تستمر الحياة فى الضفدعة لبضع ساعات بعد انتزاع قلبها ورأسها وقلبها وأمعائها، ولكنها تفقد الحياة إذا ما خرق النخاع الشوكى، ومن ذلك يظهر أنه أصل الحياة والحركة "؛ ولاحظ دافنشى من بحوثه فى الرئة أن التراب ضار، ويبدو أنه كان يدرك سبب أمراض الرئة .

كما اكتشف من تجاربه أن تشكيل الطفل فى رحم الأم يخضع لعامل الوراثة، وفى هذا يقول: " أن الناس السود في إثيوبيا ليس سببهم الشمس، لأنه إذا قام رجل أسود بتخصيب إمراه سوداء فى سيكيثا (أوربا الشرقية) فإنها تلد طفلاً أشيب اللون، وهذا يدل على أن منى الأم له قوة مساوية فى الجنين  لمنى الأب .

وفى دراساته لعمل العظام كروافع وخاصة فى ميكانيزم كمب، أي إدارة اليد، بحيث تصبح راحتها متجهة إلى أدنى عند الذراع إلى الأرقام على أفقى أو استلقاء الساعد، حول دافنشى موقفه العظيم بالتشريح إلى وصف ممتاز يفوق الخيال .

ويطول بنا السرد لو تتبعنا ريادة دافنشي فى التشريح عند دافنشى، خاصة، وأن رساماته التشريحية لا حصر لها سواء فى علم العظام وعلم الأجنة وعلم التشريح المقارن . هذا بالإضافة إلى الآراء التشريحية القيمة حول الجهاز العصبي والجهاز التناسلي والجهاز البولي . وهذا إن دل على  شئ، فإنما يدل على أن دافنشى يعد بحق من أعظم فنانى عصر النهضة الذين اهتموا بعلم التشريح ووضع أصوله قبل " أندرياس فيساليوس" Vesalius Andereas .

 

د. محمود محمد علي

قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم