قضايا

محمود محمد علي: الحفر الأركيولوجي والإبستمولوجي لسلسلة أفلام "جيمس بوند" الجاسوسية (4)

محمود محمد عليكان ايان فليمنج مشهورٌ بكتابة سلسلة روايات التجسس التى ابتكر فيها شخصية جيمس بوند، وكانت رواية جيمس بوند مليئة بالمغامرات المثيرة والسيارات السريعة والنساء الجميلات، ولم يستطع القراء الاكتفاء منها ومن حكاياتها الرائعة، وهذا ما جعل جيمس بوند واحدًا من أنجح أبطال الرواية الشعبية فى القرن العشرين، وبعد تجربته المثيرة للغاية فى الحرب، كانت دافعا لكتابة روايات فى مجال التجسس، حيث نشر رواية "Casino Royale" عام 1953 والتى تدور حول عميل سرى بريطانى هو جيمس بوند، والمعروف أيضًا برقم كوده 007 والذى كان قائدًا فى المحمية البحرية الملكية، وقد أثبتت الرواية نجاحها.

وظهر العميل البريطانى 007 على الشاشة الفضية فى عام 1962 عندما لعب الممثل شون كونرى دور الشخصية فى فيلم "دكتور نو"، مما دفع البعض للاشتباه فى أن الجواسيس البريطانيين ربما كانوا يطلقون نكتة على نظرائهم البولنديين، ولطالما أكد الكاتب إيان فليمينج مؤلف السلسلة، وهو نفسه عميل سرى بريطانى سابق، أنه استوحى اسم بطل قصته من عالم الطيور الأمريكى جيمس بوند الذى كان يملك كتابا عن طيور الكاريبي، لكن هناك عميلا بريطانيا يحمل اسم "جيمس بوند" حقا؟، كشفت وثائق سرية أن بولندا كانت أول بلد ظهر العميل السرى الفعلى جيميس بوند على أراضيها، وأظهرت وثائق نشرها مؤخرا المعهد البولندى للذاكرة الوطنية، أن عميل سرى بريطانى يحمل اسم جيمس بوند أرسل إلى ماوراء الستار الحديدى بعد سنتين على طرح أول أفلام العميل 007، وقد وصل جيمس ألبرت بوند فى 18 فبراير 1964 إلى وارسو ليشغل رسميا منصب حافظ أرشيف فى السفارة البريطانية، على ما أظهرت وثائق صادرة عن الجهاز الشيوعى للتجسس المضاد وذلك حسب قول الأستاذ محمد عبد الرحمن في مقاله بعنوان إيان فليمنج... من أين استوحى شخصية جيمس بوند؟

وبحسب "الهيئات الشيوعية"، كما يقول الأستاذ محمد عبد الرحمن لم يكن بوند المولود في 1928 يشبه نظيره المتخيل الذى يحمل الاسم عينه على الشاشة الكبيرة والمعروف خصوصا بنزواته النسائية ونمط حياته الباذخ، وأشار المعهد البولندى إلى أن جيمس بوند الفعلى "كان مهتما بالنساء" لكنه كان "شديد الحذر" ولم يتواصل البتة مع مواطنين بولنديين، وفق ما ورد فى الوثائق المنشورة هذا الأسبوع عبر وسائل التواصل الاجتماعى.

والسؤال الان: هل جيمس بوند بطل حُلُميٌّ، جاءت به ذاكرة صحافي يعاقر الخمر سعيداً في جزيرة جامايكا، أم إنّه بطل واقعي واضح الملامح والهدف؟ إنّه بطل حُلُميّ وواقعي في آن. فهو البطل - الحلم الذي ينشدّ إليه جمهور واسع من مختلف الجنسيات وفي جميع الأمكنة، لا يهبط من طائرة إلاّ ليركب طائرة أخرى، كأنّ العالم بيته، ولا ينتصر على عدو إلاّ ليهزم عدواً جديداً، فلا وقت للضجر والساعات الخاملة، ولا يفارق أنثى جميلة شقراء إلاّ ليكون في صحبة سمراء أكثر جمالاً، ولا يقابل أنثى عدوة له إلاّ وتؤمن بقضيته بعد قليل، كما لو كان ترويض نساء الأعداء إعلاناً مبكّراً عن ترويض الصعوبات اللاحقة. بيد أنّ البهاء كلّه يصدر عن ضمان الانتصار، الذي يحوّل المخاطر جميعاً إلى لعبة لذيذة لا مخاطر فيها. ولهذا يذوق بوند المتع جميعاً ويظل في بيته، طالما أنّ الطمأنينة موزّعة على المغامرة والبيت معاً. ومع أنّ بوند يبدو بطلاً - حلماً تنجذب إليه «الجماهير» كلّها، من مواقع الأرض المختلفة، فإنّه بطل غربي وبطل من الغرب، وبطل للغرب وحده، لا بسبب شراب يستهلكه، بل بسبب الموضوع الذي يخاطر من أجله والوسائل التي يركن إليها وهو في قلب المغامرة. فهو في قلب المعركة لفك شيفرة ذات صلة باكتشاف علمي، أو لتدمير قاعدة عسكرية - علمية تديرها دوائر الشر، أو لمنع الأشرار من امتلاك سلاح جديد لا يجوز لغير الغرب امتلاكه... وهو في حركته الواسعة، الممتدة من كوريا إلى كوبا، يتوسّل الطائرة والسفينة والغوّاصة والصاروخ... وهو في الحالات جميعاً يمثّل الغرب الذي يترجم القوّة إلى معرفة والمعرفة إلى قوّة، مؤكداً أنّ معرفة الغرب فضيلة، وأنّ امتلاك "الآخر" للمعرفة يعارض الفضيلة ويهدّد قوانين الطبيعة. ولهذا يكون بوند تعبيراً نموذجياً عن الغربي النموذجي، المؤمن بإمبراطورية، تسهر على حمايتها الدوائر البريطانية القديمة والمراجع الأمريكية الممثلة بوكالة الاستخبارات المركزية (30).

وهنا يجيبنا فبصل دراج فيقول يتكشّف الغرب في شخصية بوند إرادةً وقوّة ومعرفة وتنظيماً، وتاريخاً كونياً مسيطراً، منذ القرن الثامن عشر حتّى اليوم. بيد أنّ أسطورة بوند لا تأتي من المقولات المتراصفة، فقد امتلك الاتحاد السوفياتي السابق هذه الصفات، أو معظمها ذات مرّة، إنّما تأتي من صورة "العميل السري" الفاتنة، التي صاغتها أجهزة الإعلام وأحسنت صوغها. صورة جذّابة غاوية جميلة، تكاد في جمالها الطاغي أن تمسح الفروق السياسية والأيديولوجية والدينية، حتّى يبدو بوند بطلاً للإنسانية جميعها أو يكاد. فمع أنّ الرئيس الأمريكي الراحل جون كندي أعلن عن إعجابه بروايات إيان فليمنغ، كما نُشر بعضها في مجلة "بلاي بوي" الذائعة الانتشار، فإنّ أسطورة بوند جاءت من السينما، ابتداء من عام 1962، أي منذ خمس وأربعين سنة. بل إنّ هذه الأسطورة لم تكن ممكنة من دون الفن السابع، الذي يبيع الأحلام ويجذب البسطاء الحالمين. حشدت السينما، وهي تصنع بطلاً جماهيرياً كونياً، أكثر الرجال رشاقة وأكثر النساء فتنة، وجعلت من الجنس امتداداً للمغامرة، ومن الشبق جسراً إلى الفضيلة. جاءت أسطورة بوند من قوّة الصورة، وجاءت قوّة الصورة من «ذكاء السوق»، التي حوّلت البطل إلى سلعة جميلة عالمية، وعيّنته بطلاً من أبطال المجتمع الاستهلاكي في الغرب (31).

وسلسلة أفلام جيمس بوند ناجحة تجاريا بشكل فريد، حيث تحمل أبعاداً سياسية تخدم أمريكا رغم أن جنسية "بوند" الأصلية هى البريطانية، فقد بدأت السلسلة أفلامها بمحاربة الشر "الخفى"، الذى تمثل فى الاتحاد السوفييتى الند القوى للولايات المتحدة أثناء فترة الحرب الباردة، لينتقل "بوند" بعد ذلك فى أجزاء لاحقة لمحاربة كل قوى تظهر فى العالم وتهدد الكيان الأمريكى، ومنها الصين ، ثم كوبا، كما تناول جزء شخصية الشرير الذى يحاربه «بوند» من دولة فى أمريكا الجنوبية، وذلك فى فترة إعلان عداء واشنطن لدولة كوبا وحاكمها كاسترو.. ورغم ثوابت السلسلة، سواء فى شخصية الشرير ، أو الفتاة الحسناء التى تحبه، فإن السلسلة ناجحة فى كل أجزاءها، وهذا ضد طبيعة النجاح التجارى، الذى يحتاج إلى التجديد دائماً، وحتى اختيار الممثل الذى يلعب دور "بوند" كان يخضع لمواصفات خاصة جسمانية وشكلية ونفسية، فقد بدأ السلسلة الممثل شون كونرى، ثم جورج لازنبى، ثم روجور مور، ثم تيموثى دالتون، ثم بيرس بروسنان ثم دانيال كريج (32).

وقد أثارت سلسلة أفلام بوند إعجاب محبي أفلام الجاسوسية و"الأكشن" والمغامرات، حيث يتضمن كل فيلم قصة مثيرة تخطف الأنفاس منذ المشهد الأول، بطل يتمتع بالجاذبية والإثارة، ولا تخلو شخصيته من حس الدعابة حتى عند خوض غمار أشد المعارك مع أعدائه. السحر التكنولوجي المتمثل في أشهر المعدات التي تظهر في الأفلام كالمسدسات والسيارات والقوارب المبتكرة التي من الصعب مقاومتها، وأخيرا حسناوات بوند اللواتي يتم اختيارهن بعناية من بين نجمات العالم الأكثر إثارة حيث ينتزعن إعجاب النقاد والجمهور؛ وقد ساهمت كل هذه العوامل في زيادة شعبية أفلام العميل السري، إذ حققت أرقاما فلكية في شباك التذاكر بمجموع ما يفوق 7 مليارات دولار وفق أرقام "فوربس"، خاصة فيلم "سقوط السماء" (Skyfall) الذي حقق لوحده مليار دولار وحاز على أوسكار «أحسن أغنية» أدتها الفنانة الأمريكية «أديل»، وهو ما يجعله من أكثر الأفلام تحقيقا للإيرادات في "البوكس أوفيس" العالمي في تاريخ السلسلة، حيث أصبحت من المشاريع السينمائية التجارية التي تُذر على استوديوهات وشركات الإنتاج مداخيل ضخمة (33).

ومن إصدار فلم دكتور نو (1962) وحتى إصدار فلم من أجل عينيك فقط (1981)، وُزعت الأفلام فقط من قبل يونايتد آرتيست. عندما امتصت شركة مترو غولدوين ماير شركة يونايتد آرتيست في عام 1981، شُكلت شركة إم جي إم/ يو إيه إنترتينمت ووزعت الأفلام حتى عام 1995. وزعت إم جي إم لوحدها ثلاثة أفلام من عام 1997 إلى عام 2002 بعد توقف عمل يونايتد أرتيستس كاستوديو عام. من عام 2006 ، وإلى عام 2015، تشاركت "إم جي إم وكولومبيا بيكتشرز" في توزيع سلسلة الأفلام، بعد استحواذ 2004 على "إم جي إم" من قبل اتحاد بقيادة "سوني بيكتشرز" الشركة الأم لكولومبيا. في نوفمبر 2010، أشهرت "إم جي إم" إفلاسها. أصبحت كولومبيا بعد خروجها من الإعسار شريكًا في الإنتاج للسلسة مع ايون. انتهت صلاحية حقوق توزيع سوني للسلسلة في أواخر عام 2015 مع إصدار فلم طيف. في عام 2017، عرضت "إم جي إم" و"أيون" عقدًا لفيلم واحد من أجل المشاركة في تمويل وتوزيع الفيلم الخامس والعشرين القادم في جميع أنحاء العالم، وأُعلن في 25 مايو 2018 فوز يونيفرسال بيكشرز به. سيكون الفيلم الخامس والعشرون القادم، وعنوانه الرسمي نو تايم تو داي، هو أول فيلم في السلسلة يُوزع من قبل يونايتد أرتيستس منذ فلم الغد لا يموت؛ وكان هناك ثلاث إنتاجات إضافية تحتوي شخصية جيمس بوند بصورة مستقلة عن سلسلة ايون: العرض التلفزيوني الأمريكي المقتبس عن الرواية، كازينو رويال (1954)، وأنتجته سي بي سي، الفيلم الساخر، كازينو رويال (1967)، من إنتاج تشارلز ك. فيلدمان، وإعادة صنع لفيلم كرة الرعد بعنوان لا تقل أبدًا مرة اخرى (1983)، من إنتاج جاك شوارتزمان، الذي حصل على حقوق الفيلم من مكلوري (34).

وأرجو أن أكون قدمت عرضا وافيا لفكرة الحفر الأركيولوجي والإبستمولوجي لسلسلة أعمال جيمس بوند ، تلك السلسلة التي كشفت لنا، أنها تحمل بريقاً بريقاً حتي اليوم، وذلك لكونها تحمل الدهشة، والإثارة لكل المشاهدين في الشرق والغرب .

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.....................

(30) فيصل درّاج: المرجع نفسه.

(31) المرجع نفسه.

(32) رامي عبد الرازق: جيمس بوند» 22 فيلماً فى 46 عاماً والنجاح مستمر.. الأربعاء 12-11-2008 00:00.

(33) زكرياء بلعباس: المرجع نفسه.

(34) جيمس بوند في الأفلام: من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.. المرجع نفسه.

 

في المثقف اليوم