قضايا

زهرة خصخوصي: الكتابة الحديثة وإشكاليّات التّلقّي

زهرة خصخوصيتعرض الكتابة الحديثة نفسها على القارئ باعتبارها مفهوما مثقلا بالإشكاليّات المتعالقة ومفهوم التّلقّي، بناء على أنّ فعل الكتابة ينتج خطابا لا مشروعيّة لوجوده دون تعالق طرفيه مخاطِبا ومخاطَبا، وبناء على أنّ فعل التّلقّي قد أصبح جوهر فعل الكتابة وأُسّ وجوده، منذ بروز نظريّة التّلقّي ومفهوم الخطاب، وامتداد التّداوليّة اللّسانيّة إلى مجال الأدب والفكر، ودحر سلطة القارئ سلطةَ النّصّ مع إعلان النّقد الحديث "موت الكاتب"، وانفتاح النّصّ على التّعدّد الدّلاليّ، بعد انغلاقه على مقولات الشّكل وإملاءاته.

ماذا نكتب؟ كيف نكتب؟ لمن نكتب؟ ولماذا نكتب؟ هي إشكاليّات ترافق مفهوم النّصّ وفعل الكتابة، وتجيء متلازمة مع إشكاليّات أخرى هي إشكاليّات التّلقّي: ماذا نقرأ؟ كيف نقرأ؟ ولماذا نقرأ؟

كما أنّ النّصّ لا ينبجس من فراغ، بل هو نتاج اختمار ذاكرة معرفيّة، وتفاعل سياقات تحفّ بالكاتب أو تسكنه، فإنّه يتشكّل مشحونا بمقصديّة تلقّيه من طرف قرّاء يتعدّدون ويختلفون زمانا ومكانا وثقافات وخلفيّات إيديولوجيّة واجتماعيّة ومعرفيّة...

هذا التّلازم بين فعليْ الكتابة والتّلقّي في العمليّة الإبداعيّة الحديثة يمثّل هاجس الفعل النّقديّ في البحث في شروط  هذا التّلازم وضوابطه، انطلاقا من تحديد خصائص الكتابة الحديثة وملامح فعل التّلقّي المتواشج مع تلك الخصائصن وما ينعكس عن تلك الوشائج الجامعة بينهما من توجيه لمسارات التّلقّي النّقديّ وغير النّقديّ.

الكتابة الحديثة وفتنة التّجريب:

الكتابة هي ضرب من ضروب رسم الإنسان الكاتب للوجود كما يتمثّله ويراه، منفعلا به، ومتفاعلا معه، وفاعلا فيه. لكنّ خصّيصة هذا الرّسم أنّه يتشكّل باللّغة "باعتبارها المشترك الثّقافيّ"(1)، وباعتبارها أداة التّواصل الأكثر قدرة على الاتّساع لتعدّد المعاني والدّلالات.

وتمثّل اللّغة في المسار الحداثيّ المتنامي للكتابة الأدبيّة العربيّة المجالَ الأكثر قدرة على تحقيق وجوه التّجريب الفنّيّ شعرا وسردا بشتّى صنوفه: ومضة، وقصيرا جدّا، وقصيرا ورواية، وذلك لما يمتحه الكاتب من الحقول المعجميّة الرّحبة من مفردات، وبما يتوسّل به من أساليب لغويّة متنوّعة وما ينسجه بتعالق المفردات ببعضها بلاغيّا، وبالمقام والسّياق دلاليّا من صور شعريّة ومشاهد سرديّة يحمّلها رؤاه الإبداعيّة التّجديديّة المفتونة بنزعة التّجريب الأدبيّ، حتّى صارت الكتابة الحديثة كتابة "الخلق" المتجدّد.

ورغم ما يسم الكتابة العربيّة الأدبيّة الحديثة من انصهار، في جدليّة القديم والحديث، بين أصالة راسخة تعي جذورها وتعتدّ بها، وحداثة ضاربة في خصوصيّة الذّات الكاتبة وعصرها والمتلقّي في آن، فإنّه لا يخفى على القارئ النّاقد ولع الكتّاب التّجربيّين بالجماليّة السّرديّة، هذه الجماليّة المستمدّة أسسها من شعريّة تودوروف، والتي يجيء النّصّ المسكون بها مكثّفا مختَزلا، عباراته يسكنها البيان، ومشهديّاته يوجّهها الرّمز والإيحاء، فتتحقّق في اكتمال بنائه "شموليّة المعنى وتعدّد المقصد"(2). وصار النّصّ السّرديّ مشحونا بإيقاع الكتابة وموسيقى الكلام  التي تشدّ القارئ وتؤثّر فيه وتيسّر بلوغ المعنى، ويغدو القارئ مفتونا بها ، يتقفّاها في النّصّ وهو ينشد "لذّة القراءة"(3).

ولعلّ افتتان الكتابة الأدبيّة السّرديّة خاصّة، بالتّجريب الحداثيّ المسكون بشعريّة السّرد، جعلها منفتحة باستمرار على تعدّد القراءات، خاصّة منذ بروز المنهج التّفكيكيّ الذي يعلي من قيمة القراءة وينتزع السّلطة من النّصّ بنيةً منغلقة على ذاتها، ليهبها إلى القارئ. فالتّطوّر الهامّ الذي عرفه تصوّر مفهمة النّصّ نقديّا ينتقل بالنّصّ من كونه مجرّد أنساق لغويّة مغلقة إلى اعتباره وحدة تواصليّة منفتحة على سياقات الكتابة ومرجعيّات الكاتب، ومرتهنة بثقافات المتلقّي وخلفيّاته. وهو ما يخرج بفعل القراءة من دائرة التّلقّي السّطحيّ الانطباعيّ الضّيّقة إلى دائرة محاورة النّصّ ومساءلته فتفسيره وتأويله من أجل بناء رؤية للنّصّ تتجاوز حدود القصّ إلى رحاب الاستقراء المنفتحة.

القراءة وفتنة التّأويل:

فعل القراءة هو فعل اختراقٌ لصمت الكتابة في النّصّ، وهو من منظور بول ريكور إنتاج المكتوب، نصّا يضاهي النّصّ الإبداعيّ إبداعا، يفلت من قيود قصد المؤلّف ومن إملاءات قراءات تسبقه. وهو تعريف يفتح باب الحرّيّة للقارئ على مصراعيه ليفسّر النّصّ كما يفهمه أو بصفة أدقّ كما تمكّنه زوايا النّصّ وآليّات مساءلتها من صياغة فهمه الخاصّ.

لذلك يرتبط فعل القراءة باختلاف الفهوم وتعدّدها، هذه الفهوم المرتهنة إلى اختلاف ثقافات القرّاء وإيديولوجيّاتهم وقدراتهم النّقديّة أو التّحليليّة أو التّأويليّة. وهي في تعدّدها هذا متفرّعة إلى قراءة استنطاقيّة منهجيّة، وقراءة تأويليّة منتجة، وقراءة سيميائيّة جامعة.

فلئن كانت القراءة الاستنطاقيّة المنهجيّة تنكبّ على تشخيص مفاتيح النّصّ " ضمن تدرّجات مستويات المعنى، فالوصول إلى المعنى الكامن في عمق النّصّ" (4)، متجاوزة سطح النّصّ إلى عمقه، فإنّ القراءة التّأويليّة المنتجة تستنطق النّصّ بحثا في دلالاته المحتملة استثمارا لمنتَجات القراءة الاستنطاقيّة وإفادة من آليّات التّأويل النّقديّة. أمّا القراءة السّيميائيّة الماتحة آليّاتها من المنهج السّيميائيّ فهي " نمط قرائيّ" يتوقّف عند الخصائص البنيويّة للنّصّ فيفكّكها ويستنطقها ويحلّلها ثمّ يأوّلها، خالقا بذلك "دورة معرفيّة تمثّل مجموعة صيرورات واستحالات لتؤدّي إلى إنتاج نصّ جديد يمكن تسميته بنصّ القراءة"(5)، وهي بذلك تنتقل بالنّصّ من وجود دلاليّ كامن خبيء في زوايا بنية فنّيّة، إلى وجود فعليّ هو نصّ على نصّ، يرافقه ويحاوره وينقل ما يفصح عنه، ويبوح بما يومئ إليه، وقد يقوّله ما لم يخطر ببال كاتبه أن يقوله.

في القراءة يلتقي النّصّ والقارئ، طرفين يمثّل النّصّ فيهما المكوّنَ التّاريخيّ الثّقافيّ الموجود، ويحضر القارئ فيهما باعتباره مكوّنا ثقافيّا اجتماعيّا منتظَرا ينتج معرفة بالنّصّ تفسح المجال لتملّك جديد لمقولات اللّغة التي تتشكّل أسلوبيّا وبلاغيّا ولسانيّا تداوليّا عرفانيّا أيضا.

ولعلّنا أمام هذا المفهوم الذي تقدّمه المناهج الحديثة لفعل القراءة، نلفي أنفسنا، قرّاء وكتّابا في آن، في مواجهة إشكاليّة كبرى جوهرها: أنّى ننتظر من القارئ خلق نصّه الاستقرائيّ المفكّك المسائل المستنبط المؤوّل، دون أن نوفّر له إبداعيّا شروط المساءلة؟

كيف يمكن للعمليّة الإبداعيّة الأدبيّة أن تفضي إلى عمليّات إبداعيّة نقديّة/ استقرائيّة، وهي تقدّم للقارئ نصّا لا يستفزّ دهشته ولا يستنفر ملكة السّؤال والتّفكيك وإعادة البناء فيه؟

إذا كانت قيمة الكتابة الأدبيّة التّجريبيّة الحديثة  تكمن في الإفضاء إلى  الخطاب النّقديّ التّجريبيّ، وإذا كان النّقد الحديث هو قراءة مغامرة إبداعيّة وإبداع مغامرة قراءة في آن، وإذا كان القارئ، منذ نشوء نظريّة التّلقّي أواخر القرن الماضي، الشّريك الأسّ في العمليّة الإبداعيّة، فكيف يمكن للكاتب أن يكتب نصّا تتحقّق فيه شروط تشكّل التّلقّي باعتباره فعلا إبداعيّا على درجة ما من النّقد؟

هي إشكاليّات جمّة يواجهها فعل الكتابة الأدبيّة المعاصرة، السّرديّ منها خاصّة، وهو يلتقي بفعل القراءة منذ آن الشّروع في التّشكّل، فعلا يسكنه ويوجّهه، ويرسم له آفاق وجود فعليّ ممكنة.

 

بقلم زهرة خصخوصي/ تونس

.................................

(1) عبد الحفيظ الزّواري، من وهم اللّغة إلى لغة الوهم، تأمّل في حقيقة اللّغة الشّعريّة، تونس، مجلّة الإتحاف، السّنة11، العدد70، جوان 1996.

(2) منصور قيسومة، الوجود والعبث في حدّث أبو هريرة قال، اللّصّ والكلاب، الأشجار واغتيال مرزوق، تونس، دار سحر للنّشر، ط1، 1999، ص61.

(3) العبارة مقتبسة من عنوان كتاب رولان بارت "لذّة القراءة"

(4) مرشد سحنون، مسارات القراءة والتّأويل ورهاناتها، رولان بارت ولذّة القراءة، تونس، مجلّة المسار، العدد107، مارس- أفريل 2017، ص20.

(5) المرجع نفسه، ص21.

 

في المثقف اليوم