قضايا

الوسترادو: الزهد الإسلامي عند ابن مسرة

رحيم الساعديبقلم الوسترادو..

عن موقع (مدونة ورقية) الأسباني

ترجمه عن الأسبانية د. رحيم محمد الساعدي


 يعد ابن مسرة،من أكثر الشخصيات إثارة للاهتمام في ثقافة الأندلس وفكره؛ حيث كان لفلسفته في الزهد التأثيرالكبير على علماء العصور اللاحقة. وفي الواقع، يعد ابن مسرة رائد الفلسفة الإسلامية في أوروبا، فقد وصل إلى توليف أعلى مستويات الروحانية في الشرق والغرب على حد سواء.

ابن مسرة

ولد ابن مسرة، في قرطبة، عام 883، ضمن البيئة التي ورثها عن والده. وقد حمل والده المسلم من بغداد مذاهبمدرسة فلسفية شهيرة. وجمع ابنه، ابن مسرة الحكمة المبتكرة الواسعة والناضجة.

تأثر فكره الفلسفي الاصيل بالنزعة البيريسيلية (العقيدة المسيحية لبريسيليان أفيلا). وجوهر هذا الفكر هوعقيدة منبثقة من الأفلاطونية الجديدة. ومفادها انه يرأس الكون من قبل واحد، وهو إنسان إلهي بسيط جدا منهينبثق كل شيء تدريجيا بشكل مذهل وبخمس مواد هن أصل الكائنات التي تم إنشاؤها من المادة الخام، والتيتنبع مباشرة مرة واحد في شكل ضباب فوضوي .

إن اشعاع ضوء الواحد في المادة ينبع من الكائنات السماوية، وكان أولها هو من غرس فيه الواحد علم الكياناتالمستقبلية؛ ثم تأتي الروح، ثم الطبيعة، التي تنشأ من الجسم، والتي تنشأ منها الكائنات من العالم المرئي، وتتألفمن المادة والشكل.

لان ابن مسرة متصوفا فقد أعطى أهمية كبيرة لمحاسبة النفس والضمير في اشارة الى تنقية الإنسان، معتبرا أنهمساعد للزهد.

ان كل هذه الأفكار لم تستغل بذلك الوقت من قبل الشعب، وتم تدريسها بشكل سري خوفا من عدم قبولها من قبلعقيدة الفقهاء الدينية . وعلى الرغم من كل شيء، فقد أصبح ابن مسرة مشكوكا به في ممارسة (الهرطقة) فاتخذقرارا حكيما بالحج إلى المدينة المنورة ومكة المكرمة في عام 912، لحلحلة الشكوك والابتعاد عن التهديداتالمحتملة، بالتزامن مع وصول عبد الرحمان الثالث إلى عرش قرطبة .

في رحلته إلى مكة المكرمة، وجد برحلته من الإسكندرية إلى بغداد ثقافة إسلامية في منتصف تلك الفترة الإبداعية،والتي استوعبت فكر اليونانيين والهندوس والفرس والسوريين. واحتل الفيلسوف والطبيب الرازي،المعروف باسمرازيس، مساحة مهيمنة. فقد عرف هذا الإيراني كيف يجدد روح الفلسفة ما قبل السقراطية لفيثاغورسوإمبيدوكليس، في معارضة واضحة لتفكير أرسطو.

خلال إقامته في البصرة، أصبح ابن مسرة مهتما بعقلانية المعتزلة ، والتي انتهى بها المطاف إلى التطور بعدبضع سنوات لإخوان الصفا، وهم مؤلفو موسوعة شعبية تم تعريف غرضها بانها:" توليفة من جميع العلوم والدين". وكانت المعتزلة حركة إسلامية تتميز بروح الانفتاح والعالمية، التي كانت تنمو في شبه الجزيرة الأيبيرية، وخاصة منابن مسرة إلى ابن عربي.

من خلال رهبنة الزهد الصوفي

وعرف ابن مسرة تيار الغنوصية الأفلاطونية الجديدة،التي أثرت على الأديان العقائدية لكل من اليهودية معفيلو، والمسيحية من خلال بلوتينوس، والإسلام بالصوفية.

ففي الإسكندرية، عرف ابن مسرة الفلسفة اليونانية بفضل عمل بلوتينوس اليهودي،الذي حاول أن يؤلف بينالفلسفة اليهودية واليونانية، كونه واحدا من مؤسسي التصوف حيث تم الجمع بين تأثير الهند وأفلاطون والمسيحية.

ومن التأثيرات الفلسفية التي تلقاها، بنى ابن مسرة فكرته الخاصة: بالزهد.

كان عبد الرحمن الثالث خليفة متسامحا ملما بالقراءة والكتابة من سلفه، وسمح لابن مسرة بإعادة تدريسالنظرياته الفلسفية بعد عودته. وعلى الرغم من أنه كان قادرا على القيام بذلك لبعض الأقليات، لكنه كان بالفعلضمن بيئة جديدة، من العلماء الذين شملتهم حماية الخليفة. كان ذلك خلال خلافة عبد الرحمن الثالث، بين عامي912 و961، حينها أصبحت قرطبة مدينة رائعة، وازادت مكتباتها ومدارسها فكانت المركز الاقتصادي والسياسيوالثقافي لشبه الجزيرة الأيبيرية.

قام ابن مسرة في الغرب، وتحديدا في قرطبة، بأول توليف فلسفي لأعلى التقاليد الروحية في آسيا وأفريقيا .

وقد أحيت قراءته الرمزية للقرآن: ظواهر الطبيعة أو الأحداث التاريخية، كما كانت ذات يوم قراءة اليهودي فيلوللتوراة، أو ظاهرة البريسيليان المسيحيين للأناجيل.

ووفقا لمفهومه للحرية الإنسانية، فان الإنسان هو المسؤول عن أفعاله، لأن الله لم يحدده، لذلك فهو حر فيالرضوخ لخطاياه أو السعي، من خلال "علامات" الله،إلى "الطريقة الحقيقية"التي تسمح لنا بتحقيق الغايات التييدعونا الله من اجلها . إن مفتاح فكر ابن مسرة هو تجاوز الأفعال، التي تحدد بوضوح معنى وغايات وجودنا.

لقد حدد ابن مسرة أربعة مستويات من الاهداف للوصول إلى كمال الإنسان:1. هناك سعادة نسبية،تقابل نية الإنسان المتقلبة واللحظية. 2. مستوى آخر أعلى هو انسجام العمل مع طبيعة الفرد ككل. 3. بالاضافة لماسبق فهناك تحقيق لمطالب الكمال الأساسية. 4. السعادة العليا، وهي الاستجابة غير المشروطة لنداء القانونالإلهي.

هذه النظرة للعالم تعني حرية الإنسان، وتمجيد العقل الذي يجعله قادرا على السيطرة على رغباته الجسدية وغرائزجسده.

كما قدم ابن مسرة تفسيرا رمزيا للكتاب المقدس، ويعترف بقيمة كل الوحي بنفس الروح التي يكشف بها القرآن عنوحدة جميع الأديان ويعتبر الخضوع لله("الإسلام") هو العامل المشترك: ويقدم هذا الدين أنه تتويج لجميعالإنجازات الدينية القديمة.

لقد حاول ابن مسرة أن يفهم كل العلوم مثل (دراسة "علامات الله")، والحكمة (والتأمل في الغايات)، والإيمان،بالاضافة لفلسفته التي رأت في النور رمز الله.

ومن بين أطروحاته حول الفلسفة كانت (نقد الأديان)، وطب الروح (في الطب الروحاني)، وكتاب خصائصالحروف، ورسالة التأمل.

وفي قرطبة أسس مع مجموعة من التلاميذ مدرسة فلسفية هامة: ودرس بشكل رئيسي مذاهب إمبيدوكليس حولأصل الكون وعناصره. وكان لها مظاهرها في قرطبة و (ألميريا).

استمر نفوذ ابن مسرة لأكثر من قرن، وذلك بفضل سياسة التفاهم والتسامح التي كانت قائمة في عهد الخليفة عبدالرحمن الثالث ( 912 إلى 961) وحكيم الثاني (961 إلى 976) الذين حموا الفلاسفة والحكماء. ولكن بعد ذلك،قام رجال الدين من الفقهاء الإسلاميين بمعارضة ابن مسرة، بسلسلة من الاضطهادات ضد الفلاسفة والعلماءالذين لا يتوافق تفكيرهم مع العقيدة التقليدية في الإسلام.

أجبرت مدرسة ابن مسرة على العمل في السر إمام طائفة تلاميذه، وقد تحولت مدرسة ابن مسرة من مفهوم الزهدإلى السياسة. فهو يرى أنه لا توجد ممتلكات مشروعة عندما لا تكرس لخدمة الله. وكانت هذه الشيوعية الصوفية تنتشر بين الطبقات الأقل قدرا في قرطبة، في وقت انتشر فيه الطاعون والمجاعة. وقام المسريون بتجنيد الاتباع بينأفقر الناس.

وفي القرن الحادي عشر، دخل مذهب ابن مسرة في انحدار تدريجي. وكان اخر تلاميذه، (صوفيو الميريا)، الوحيدون الذين احتجوا عندما أمر متعصبو الفقهاء بحرق أعمال الغزالي، مما تسبب في الاضطهاد بموجبمرسوم رسمي من السلطان المرابط يوسف بن طشقين، في عام 1106.

كان لفلسفة ابن مسرة تأثيرا ملحوظا على الأندلس، حيث جمع ابن حزم تعاليمه وتجلى إرثه في كتابات يهوداهاليفي؛ وفي فيزياء أفيروي، وفي "الفلسفة الشرقية لابن سينا وفي ابن عربي. وفي العالم المسيحي، ونجد فكرابن مسرة وإلهامه لعلماء لهم مكانتهم مثل ريمون لوليوس ودانتي وبيكون.

وقد فقدت كتب ابن مسرة، فاليوم لا تعرف فلسفته إلا من خلال الشهادات التي كتبها ابن عربي، وابن حازم والمؤرخابن سعيد. ولخص الفيلسوف والشاعر اليهودي العظيم ابن جبرول، من ملقة، فكرته في كتابه "فونس فيتاي" (ينبوعالحياة).

وقد درست حياة وأعمال ابن مسرة بعمق من قبل المستشرق الإسباني ميغيل أسين بالاسيوس،الذي نشر فيعام 1914 السيرة الذاتية لابن مسرة ومدرسته .

 

 

 

في المثقف اليوم