تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

درصاف بندحر: لا متفائلين ولا متشائمين

عصر التنوير عصر نشأت فيه حركة ثقافية تاريخية في القارة الأوروبية قامت بالدفاع عن العقلانية ومبادئها كوسائل لتأسيس النظام الشرعي للأخلاق والمعرفة بدلا عن الدين.

"فولتير" (Voltaire) الذي عاش بين عامي 1694 و1778 هو من أعظم فلاسفة عصر التنوير.

هناك من لقب "فولتير" بأبي التنوير. ولئن أنكر عليه البعض هذه الصفة واختلف البعض الآخر في تحديد هويته الفلسفية فهذا لا ينفي، بدون أدنۍ شك، أنه خير شاهد علۍ عصره.

كان "فولتير" غزير الإنتاج في شتى المجالات. كان كاتباً مسرحياً، وروائياً، وشاعراً، ومؤرخاً، وفيلسوفاً. ما تركه من نفيس الأثر أصدق دليل على كونه ذلك.

من آثاره القيمة رواية "كانديد"  (Candide)‏ وهي رواية فلسفية من أشهر روايات الأديب الفرنسي والتي كتبها عام 1759.

نقد"فولتير" من خلال الرواية فلسفة التّفاؤل التي كان أحد رموزها الفيلسوف الألماني "ليبنتز" (Leibniz) عاش هذا الفيلسوف بين عامي 1646 و1716. هو صاحب مقولة أن " كُلُّ شَيءٍ سيَسيرُ إلى الأَفْضلِ في أَفْضلِ العَوالِمِ المُمكِنة".

لن نتناول رواية "كانديد" من منحاها الفلسفي العميق ولكن يهمنا أن نتطرق من خلالها إلۍ ما تضمنته فيما يتعلق بمفهوم التشاؤم وفي مقابله التفاؤل بماهما تعبيران عن تجربة شعورية.

تدور أحداث القصة حول شاب طيب، حد السذاجة، يدعۍ" كانديد". هذا الشاب عاش وترعرع في قصر خاله الذي عهد بتعليمه إلى أحد المعلمين. رسخ لديه معلمه فكر التفاؤل وحسن النية. تربۍعلۍ أن يرۍ الكون جميلا، أن يتوسم الخير في جميع الناس ويثق بهم وأن ينظر إلى الوجود نظرة إيجابية. لكن تبدلت حياته حين اكتشف خاله علاقته بابنته الجميلة فقام بطرده من جنة النعيم ليلقي به خارج أسوارها.

إلا أن ابتعاد "كانديد"عن العيش الرغيد لن يبدّل من تعامله المتفائل مع الحياة، حتى وإن وجد نفسه شريداً مفقرا.

لم يدفعه تبدل عيشه من النقيض إلۍ النقيض إلۍ التشاؤم بل كان يؤمن أن كل ما يعترضه من صعوبات له غاية فضلى.

في الحياة قد تعترضنا المحن شأننا شأن "كانديد" وقد نجهل للوهلة الأولۍ الغاية من الصعوبات ومن العثرات لكننا لو نظرنا إليها بعين التفاؤل سنرۍ حتما أنها تؤدي إلى الخير وسنقول إن كل ما يحصل لنا من مكروه، تأباه النفس، هو في أصله خير.

ولكن في مقابل التفاؤل، توجد نظرة أخرۍ إلۍ الوجود تراه بعين متشائمة.

مصطلح التشاؤم (Pessimism) مشتقٌّ من الكلمة اللاتينية "Pessimus" والتي تعني "الأسوأ". ويميلُ المتشائمون بشكلٍ عامّ إلى التركيز على سلبيّات الحياة.

في هذا نلاحظ أن الفلسفة التشاؤميّة هي الفكرة التي تنظُ إلى العالم بأسلوب يتّسم بمناهضةٍ كلية للتّفاؤل. المتشائمون الفلسفيون هم من العدميين الوجوديين الذين يؤمنون أَنْ ليس للحياة أيّ معنى أو قيمة جوهرية. حسب رأيهم فإن الوجود في حد ذاته بما فيه من أفعال ومعاناة ومشاعر هو أيضا بلا معنى. وما الالتزام العاطفي إلا عبء يثقل كاهل الإنسان ويزيد من معاناته.

بين ضفتي التفاؤل والتشاؤم نجد أنفسنا في وضعيات لا تكون مريحة. قد يعطيك التفاؤل شعورا زائفا بالأمان، وقد يعرضك لخيبات أمل في نتائج كنت تتوقعها أوفي أشخاص كنت تتوسم فيهم خيرا. انفتاح المتفائل علۍ الحياة والناس يجعله يتوقع الخير حتۍ في غير موضعه فيلبس القبح قناع الجمال.

كذلك التشاؤم يجعلنا ننظر إلۍ الوجود نظرة خوف وارتياب و نصبح لا نتوقع سوۍ الأسوأ. لسان حال المتشائمين يردد دائما أن "الدنيا دار شقاء".

لكن ونحن نتأمل شأن التشاؤم والمتشائمين نتبين أن هناك تشاؤما مفيدا. التشاؤم المفيد يأخذ ذلك التفكير السلبي إلى مستوى آخر جديد كليا ويسخره كوسيلة للوصول إلى النتائج المرجوة. هو ما يسمۍ بلغة علم النفس الاجتماعي"التشاؤم الدفاعي". لا يُعتبر التشاؤم الدفاعي أسلوب توقّع داخلي بل هو إستراتيجية معرفية تستخدم في سياق تحقيق أهداف معيّنة.لا ينطوي التشاؤم على اجترار الأفكار المتعلّقة بالنتائج السلبية المُحتملة إلا أن "التشاؤم الدفاعي" هو سلوك استباقي لمواجهة هذه النتائج. أن تكون متشائماً تشاؤما دفاعيا يعني أنك حين تخطط لأمر ما، تفترض الأسوأ، فلا يباغتك الفشل علۍ حين غرة. إن هذا التشاؤم الواعي الذي يسبق الفشل يجعلك متهيئا فيتيح لك أن تكون قادراً على تصور خطة جديدة أكثر نجاعة. إنه من الخطر أحيانا أن تبالغ في التفاؤل لأنّ ذلك من شأنه أن يؤدي إلى عواقب وخيمة. مثلا عند المراجعة للامتحان لا تتوقع أن تكون الأسئلة غاية في السهولة، بل توقع أنّها ستكون صعبة حتۍ يكون لديك الحافز لمراجعة الدرس بشكلٍ أفضل. هكذا يتيح لك التشاؤم الدفاعي أن تكون دائما مستعدا لمواجهة المصاعب المُحتملة.

صحيح أننا نعيش في عالم يجهز على معنى التفاؤل خاصة عندما لا نجد تفسيرا للشر الكامن في البشر لكن بالنهاية نحن لا نملك في مواجهة ذلك سوۍ أن نقول ما قاله "كنديد "في آخر الرواية وبعد رحلة الشقاء في أسوأ العوالم أنه "علينا أن نزرع حديقتنا". يعني ذلك أنه علينا أن لا نفسح المجال للمصاعب والخيبات كي تحتل ذواتنا وتننزلق بنا إلۍ هوة اليأس.

التفاؤل يجعلنا لا نقطع صلتنا بكل ما هو قيمي في الحياة كالطيبة والإيثار والعطاء. أن نتفاءل هو أن نزهر من الداخل ونسقي زهورنا لتنمو أكثر وتتفتح.

هذا لا ينفي أن الإفراط في التفاؤل قد يجعلنا كمن يمشي علۍ رمال متحركه وهو لا يعي خطورتها إلا حين تبتلعه، تلكم الرمال. كذلك الإفراط في التشاءم قد يحول حياتنا إلۍ توجس وريبة فتغدو بلا معنى.

الروائي الفلسطيني الكبير إميل حبيبي في روايته ذائعة الصيت“المتشائل”، الصادرة في حيفا العام 1974 دمج كلمتي تفاؤل وتشاؤم واخترع كلمة متشائل، تعبيراً عن حالة يجد فيها الواحد نفسه لامتفائلا ولا متشائما، فيميل إلى اتخاذ موقف وسط، التموقع في منزلة بين المنزلتين.

لعل اختبار الشعور ونقيضه يتيح للمرء إمكانية السيطرة علۍ نفسه عند الضرورة دون بكاء علۍ ما فات أو توجس مما هو آت.

 

درصاف بندحر - تونس

.......................

المراجع:

- رواية "كنديد أو التفاؤل" لفولتير. 

- كتاب "أبحاث جديدة فى الفهم الانساني" لغوتفريد فيلهيلم ليبنتز.

- رواية "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" لإميل حبيبي.

 

في المثقف اليوم