قضايا

صالح الطائي: الخروج من دائرة التاريخ

تنماز الشعوب ذات التاريخ العريق أن لها ذاكرة جمعية تبقى فاعلة ومؤثرة مهما تغيرت ظروف معيشتها ودرجات وعيها، وقد عرَّف الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي "موريس هالبفاكس" (1877-1945) الذاكرة الجمعية بأنها: ذاكرة ثقافية، وهي صدى في الوقت الحاضر لذاكرة جمعية محيت أو توارت في الرتبة الثانية، هذه الذاكرة عبارة عن تعديل وتدليل مستمر، مرتبط بالتغيرات والتحولات التي تمس جماعة معينة، والتي تفرض توافقات، وتقسيمات ينتظم مختلف أعضاء الجماعة لها وفقا لصالحهم الخاصة، محتفظين في نفس الوقت ـ حسب كل حالة ـ بهذا القدر أو ذاك من الذكريات، ينتج عن ذلك أن الذاكرة الجمعية التي تنتشر بعد الآن كذاكرة اجتماعية، تكون منسوجة من تيارات فكرية، دون أن تكون منغمسة مباشرة في جماعة مرجعية معينة. والذاكرة هي اللّحمة والبنية ذاتها للهوية الجمعية والهوية الفردية (1).

نعم تخلت بعض الشعوب عنها، وطورتها شعوب أخرى إلا نحن العرب والمسلمين، كنا في بداية أمرنا قد حصرنا أنفسنا ضمن دائرة التاريخ تحت سطوة الذاكرة الجمعية، وآمنا أن هناك قوتان توجهاننا، الأولى: قوة عمودية، هي قوة الإيمان، والثانية: قوة افقية هي قوة المكون والمجتمع والفئة والمذهب وثقافاتها الموروثة والمؤثرة، وقد نجحنا من خلال ذلك في تحقيق مكاسب عظمى، ما كانت لتتحقق لولا هذه الدائرة التي شحذت هممنا، وأعطتنا القوة لننتصر في نزالات كثيرة، أهلتنا لقيادة العالم ردحا من الزمان.

وبقوة المنتصر كان المفروض بنا مغادرة دائرة التاريخ، والتخلي ولو جزئيا عن بعض موروث الذاكرة الجمعية، والبدء بتأسيس ذاكرة جمعية مستحدثة ومُستلهمة من الواقع، ولاسيما بعد النصر الذي حققناه، لنبدأ التعامل مع التاريخ الطولي الذي يتطلع إلى الأمام، ويتوكأ على فلسفة التاريخ وأستكناه المستقبل، ولكننا استنبطنا شكلا هندسيا تاريخيا جديدا يتكون من دائرة ومستطيل متداخلان، وكانت إحدى عيوبنا أن إحدى عيوننا تتطلع نحو المستقبل والعين الأخرى كانت مشدودة إلى التاريخ والموروث بما فيه مواريث الجاهلية والقبلية. وحتى هذا الاكتشاف المبهر كان له أن يحقق لنا نتائج عظيمة لو أحسنا التعامل معه وتوظيفه بحكمة وعقل، لكننا استخدمناه على هوانا، وصرنا نغلب المستطيل ردحا من الزمان، ثم ننكفئ نحو الدائرة حتى في الجلسة الحوارية الواحدة نفسها، فإذا تحدثنا عن متع الدنيا ولذاتها، سرنا في طريق التاريخ الطولي، لنشرعن الغوص في عمق اللذات المتاحة، وإن تحدثنا عن الدين ومبانيه عدنا إلى التاريخ الدائري وحصرنا أنفسنا فيه، بل في أضيق مناطقه وأكثرها توحشا، على خلاف العالم كله الذي ابتدأ وفق استطالة التاريخ من: ما قبل التاريخ، ما قبل الجغرافيا، ما قبل الإنسان، ما قبل العقل، ما قبل الحداثة، ما قبل العلم، ما قبل الدولة، ووصل إلى: التاريخ والإنسان والعقل والحداثة وغيرها، ومر بما بعدها: ما بعد الحداثة، ما بعد البنيوية، ما بعد النسوية، ما بعهد الكولنيالية، ليستقر عند: نهاية التاريخ، نهاية الفلسفة، نهاية الإنسان والإنسان الأخير، وليصل اليوم إلى: ما بعد الإنسان، هذا المصطلح الذي يترجم قلق رجال الدين والفلاسفة والعلماء على مستقبل الإنسانية بسبب ما تصنعه مختبرات البيوتكنولوجي (Biotechnology) أو التكنولوجيا الحيوية (2)، وهو الأمر الذي سيخلق حالة تتجاوز حدود تصور الإنسان وقدراته الذهنية، أملا في تغيير طبيعة الحياة والموت ومستقبل الكون ما بعد الكائنات الحية، وكناتج عرضي لفوضى التجديد حدثت جميع التبدلات الأخرى التي رافقت وزامنت مرحلة تغيير معاني المصطلحات التي أحدثها "البرادايغم" (Paradigma) هذا المصطلح الذي أستحدث في نهاية ستينات القرن الماضي للتعبير عن النموذج الفكري، أو النموذج الإدراكي، أو الإطار النظري، وأثر الثورات العلمية في استبدال أي إطار مفهومي بواحد جديد آخر، يناسب رؤاهم ومخططاتهم، ولا يشترط أن تكون له علاقة بأي مفهوم متداول آخر. ويمثل البرادايغم مجموع القوانين والفرضيات والنظريات العلمية المتداولة بما فيها المعارف الأساسية؛ التي يرى أنه سوف يقوم بتحويلها عن معناها القديم بما يعني أن مخططا خطيرا جدا معد لإحداث تغيير وتجديد عام وثورة شاملة في جميع المفاهيم المتداولة، وأهمها مفهومي الدين والأخلاق، وقد بنت بوادر هذه المخططات من خلال الثورة التجديدية التي تقودها الدول الغربية، وتدعمها بجميع قدراتها لتغيير جميع المفاهيم والمصطلحات الموروثة والمتداولة التي انهزمت أمام مصطلحي الجندر والنوع الاجتماعي.

وأعود وأقول: إن كل هذا يدعونا كأمة مستهدفة دينيا وقوميا؛ وبشكل فوري لتكون ردودنا واستجابتنا فورية، فالسكون والركود والتكاسل يعني أن قوة المنافس سوف تتعاظم، فيتعذر علينا مواجهتها، وقد نصح العقلاء عبر التاريخ أن يتم التصدي للمشكلة وهي في طريق سيرورتها، لا انتظارها لتصل إلى هدفها، ومن ثم التفكير بكيفية التخلص منها.

إن كل المخرجات المعاصرة تنبئ أن العالم يمر الآن في أخطر مرحلة من مراحله التاريخية، وأنه مهدد إن لم يكن بوجوده الفعلي وبقائه، ففي فقد هويته الإنسانية، بعد أن أقرت حكومات الغرب قوانينها الجندرية الجديدة، تلك القوانين التي خلطت الأوراق بشكل يوحي بخطر ماحق يستحيل معه بعد سنين قليلة فهم الكثير من المصطلحات الموروثة التي صاغتها وابتدعتها العقول الإنسانية بدعم من الأديان وقيم التحضر بعد سنين طويلة من المعاناة والوجع والتجارب القاسية، لترسم من خلالها ملامح جوهر وجودها المثالي، الذي يفيد من كل ما يحيط به من أجل غد أسعد وعيش أرغد ونعيم يتجدد.

إن خلط الأوراق أفقدنا تلك الفرصة الرائعة التي أتاحت لنا تسمية الأشياء بمسمياتها الأقرب إلى نفوسنا، وعلمتنا منافع التخصصية والتحديد والجزئية البنائية، وهم من خلال عملهم القبيح هذا ألجأوا العالم للبحث عن مسميات جديدة تحدد العلاقات بين البشر ليس من بينها تسمية الأسرة أو المحارم أو الجنس، وأنا واقعا لا أدري إن كان فلاسفة ما بعد الحداثة هم الذين أسسوا لهذا الانحراف من خلال تنبيههم لمواطن الصراع بين الفلسفة والواقع المتغير أم أن ما حدث هو سُنَّةٌ أخرى من سنن الحياة التي مرت بها جميع الحضارات التاريخية المعروفة، تلك الحضارات التي ما إن وصلت إلى هذه المرحلة الخطيرة حتى بدأ الهرم والتآكل ينخر بجسدها، فتلاشت إلى الأبد، وأن انتباه هذه السنة وصحوتها في عصر حضارتنا الراهنة القلق ما هو إلا إيذاناً بقرب نهاية حضارة الإنسان الأخير. فهل ستكون حضارتنا المعاصرة آخر الحضارات، أم أنها عملية ولادة جديدة لنوع إنساني جديد له قدرة إدراك إنسانيته بعيدا عن سياسة خلط الأوراق التي تقود العالم اليوم نحو الجنون المطلق؟

إن ظني يدفعني للاعتقاد أن أربعة فلاسفة فرنسيين هم الذين مهدوا لهذا التبدل، ومنهم: ميشال فوكو (1926 - 1984) وهو: فيلسوف فرنسي، وواحدا من أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين، تأثر بالبنيويين ودرس وحلل تاريخ الجنون في كتابه (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي)، وعالج مواضيع مهمة مثل الإجرام والعقوبات والممارسات الاجتماعية في السجون. وهو الذي ابتكر مصطلح أركيولوجية المعرفة. فضلا عن ذلك أرّخ للجنس ومعالجاته الجدلية المعاصرة كما في كتابه (تاريخ الجنسانية)، أما على أرض الواقع ففوكو كان مثليا معروفا ومولعا في العلاقات الجنسية الشاذة المتطرفة. ومثله مواطنه رولان بارت (1915ـ 1980) وهو ناقد أدبي، دلالي، ومنظر اجتماعي. كان أستاذا للسميولوجيا في كولج دي فرانس. وزميلهم الفرنسي الآخر جيل دولوز (1925 ـ 1995)، ولا أعتقد أن المصادفة وحدها هي التي اختارت أن يكون الثالث منهم فرنسيا هو الآخر، كان بارت من الداعمين للمذهب السبينوزي ومتأثرا بدراسات سبينوزا في الفلسفة القارية. كتب بالاشتراك مع المحلل النفسي فيليكس غوتاري مجلدين عن الرأسمالية والانفصام: مكافحة العقد النفسية عام 1972 وألف هضبة عام 1980، وهو صاحب أطروحة ميتافيزيقية هي الفرق والتكرار (1968) أثر عمله على مجاميع متنوعة من التخصصات عبر الفلسفة والفن. وآخرهم هو الفرنسي جان بودريار (1929 ـ 2007) وهو عالم اجتماع اشتهر بتحليلاته المتعلقة بوسائط الاتصال والثقافة المعاصرة والاتصالات التكنولوجية، وكان مهتما بالأدوار الجندرية.

نشأت فلسفة ما بعد الحداثة لتخوض في الثقافة والهوية والتاريخ واللغة، وهذه المسميات هي أصل المكون الثقافي والفكري الإنساني، ثم سعت لإعادة صياغة مفاهيم في غاية الخطورة مثل: الاختلاف، والتكرار، والتتبع، والفرط الواقعية، وغياب الوجود واليقين المعرفي، في محاولة منها لبناء حقيقة وآراء العالم بعيدا عن الموروث. وكانوا يعتقدون أن مهمتهم التاريخية هي استكشاف مسار جديد للأفكار والرؤى بعيدا عن الطريقة القديمة الموروثة ورؤيتها للأشياء. وهذا بالضبط ما روجوا له، واعتنقته عن طريقهم المنظمات السرية التي تسعى لإعادة تراتبية العالم وفق رؤية تتيح لها قيادته دون مشاكل، وهم يعلمون أم لا يعلمون خلقوا أعظم المشاكل التي لم يحلم العالم يوما أن يمر بمثلها، في الأقل منذ أن استقر الإنسان البدائي وعرف الأسرة والزراعة، وأنشأ المجتمعات وابتكر الآلات، وأتعب نفسه في نحت المصطلحات التعبيرية التي ترجمت الواقع وأعطته دلالات مفهومة، يعني ضياعها ضياع جهد الإنسانية التاريخي.

نعم أنا لست جامدا على النصوص، وأدعو في أحيان كثيرة إلى تجديد الكثير من مفردات الموروث، ولاسيما تلك التي لا تتوافق مع ما وصل إليه الإنسان اليوم، ولكن القضاء المبرم عليها يعني قتل التراث الإنساني الذي بنت البشرية عليه مقومات وجودها. وإذا وصلت الأمور إلى هذه المرحلة، وهي قد وصلت فعلا، وبدأ العمل بمشروع التبديل من خلال دعم البديل، ومعه بدأت القيم والسلوكيات تتبدل بشكل سريع جدا وخطير جدا، تُسهم في انضاجه جميع القوى وفق أيديولوجيات مرسومة ومعدة للتطبيق الميداني بدأً برياض الأطفال والمدارس الابتدائية والثانوية والجامعات والمؤسسات العامة وأجهزة الدولة والمؤسسات والشركات الإنتاجية والخدمية والأسرة والحياة العامة برمتها، والحياة الشخصية لكل فرد، فالمنتظر وقوعه لن يتجاوز مجرد فوضى شاملة عارمة يمكن السيطرة عليها أو تجنبها، ذلك لأن ما سيحدث سوف يقتلع الإنسان من واقعه الحياتي النسقي، ليدخله في عالم افتراضي هلامي الشكل، يُفَصِلُهُ كل إنسان على هواه، فتنفصم عرى علاقاته مع كل الآخرين بما فيهم الأب والأم والأخ والأخت؛ الذين سيتحولون تلقائيا إلى (آخر) يجوز التعامل معه مثلما يتم التعامل مع أي آخر غيره بما في ذلك إقامة العلاقات الجنسية.

وتكمن الخطورة في أن من أدخل هذه الفوضى التي ستصادر جميع خصوصياته وخصوصيات العالم كله، لن ينجح بمغادرتها مطلقا، ولذا.. ولأننا لا زلنا نتفرج على ما يحدث، ولم نحشر أنفسنا فيه بشكل مباشر إلى الآن، لأنه يبدو بعيدا نوعما عنا، مع أنه يقف على أعتاب بوابات مدننا، وقد اخترق بعض خطوط دفاعاتنا، فالمفروض أن نعتبر بما حدث ويحدث، وأن نتسلح بكل قوانا التاريخية لنحمي أنفسنا من الوقوع في أتون نارهم الحارقة، وهذا لن يتحقق إلا إذا ما وحدنا صفوفنا، ولا يمكن لوحدة الصف أن تتحقق إلا من خلال تفعيل المشتركات التي تُكَوِّن وتُؤسس الهوية الجمعية؛ التي نفتقد إليها اليوم بسبب كم الفتاوى العملاق الممتد على مدى أربعة عشر قرنا، والذي يحدد لنا مساراتنا قسرا وإكراها، ويتحكم بعلاقتنا لا مع المختلف عنا فحسب بل وحتى مع من نأتلف معه، كل حسب مرجعيته، رغم علمنا اليقيني أن تلك الفتاوى كانت لها دوافعها الدنيوية التي أفرغت الكثير من الجانب الروحي والديني للأحكام، وحولتها إلى ملهاة تشغلنا عن تتبع منهج النجاة، ولن ننتبه إلا بعد أن نجد أنفسنا في طابور الخاسرين، لأننا شئنا أم أبينا سوف نرضخ للإرادات الخارجية سواء كانت من قبل المنظمات الدولية ذات القوانين الإكراهية، أم كانت دولا عظمى ترفض أن يقول لها أحد ما: كلا.

***

الدكتور صالح الطائي

..............

الهوامش

(1) ينظر: دانيال ليجيه وجان ويليام. سوسيولوجيا الدين، المجلس الاعلى للثقافة، القاهرة ـ مصر، 2005م. ص269.

(2) التكنولوجيا الحيوية تعني: علم مبتكر يركز على المبادئ الأساسية لعلم الوراثة وعلم الأحياء الجزيئي (البيولوجيا الجزيئية) وبيولوجيا الخلية في محاولة لإدخال تعديلات بنيوية على الكائنات الحية جينياً (الإنسان والحيوان والنبات) وفق برامج التربية التي تستخدم الانتقاء الاصطناعي والتهجين من خلال التلاعب بالهندسة الوراثية عن طريق تقنيات زراعة الخلايا والأنسجة.

في المثقف اليوم