قضايا

علي المرهج: حول الأبوة

علي المرهجحينما صرت أباً عرفت أن الأبوة مرتبطة بالإباء، أكثر من كونها صلة دم وقرابة، فخاطبت نفسي وكل أبٍ..

لا يعني أن تكون أباًـ أنك ترتبط بصلة بايلوجية مع من هو مِن صُلبك، فليس كل أبٍ كان سبباً في وجودك في هذه الحياة يستحق هذه الصفة، فقد تكون هذه الصفة رابطة طبيعية أو شرعية وثقتها القوانين الوضعية في السجلات المدنية أو في التوثيق الشرعي لزواج الأم مع الأب البايلوجي، وهذه رابطة تتوافر عند جميع ممن سُميوا آباءً.

أما رابطة الأبوة الحقيقية، فهي ما يعيشه الأب من هموم مع أولاده يُشاركهم ويُساندهم في السراء والضرّاء، كأن يتحمل معيشتهم ويكد ويتعب على معاشهم، ويصبر ويُصابر على تحقيق ما يصبون له، وما يصبو هو لهم من تفوق يتفاخر به.

ترتبط الأبوة في الأديان والشرائع فيما يُسمى "الاحتضان الأبوي" الذي يقتضي المتابعة التربوية والاجتماعية والقيمية لأولاده، لا أن يكون مجرد كائن يمارس الجنس ولا يعرف مصير أولاده، لأن الأبوة بمعنى "الاحتضان" تعني متابعة الأولاد لحين نجاحهم وصلاحهم قدر استطاعة الأب وأن يبذل ما بوسعه لتحقيق ذلك.

أن تكون أباً، يعني أنك تعيش لأجل بنيك، تُتابع حياتهم، وتكون صمام أمان لهم خشية أن يقعوا فيما لا يُحمد عُقباه، ولا تدعهم على يعيشون الحياة بمفردهم: (أنت وربك يا موسى)، لأن مهمة الأب حمايتهم ووقايتهم قدر استطاعته من الوقوع في مهاوي تحديات الحياة الصعبة، وأشد صعابها وقوع الأولاد في مهاوي "الرذيلة".

مهمة الأب أن يسكن ويستكين في بيته مع أولاده، ويسكنوا إليه ويلوذون به حينما لا يجدون ملاذاً اجتماعياً لهم.

تكون الأبوة لها معنى حينما يشعر  الأب ويعمل على أن يكون أولاده امتدادًا حقيقاً له يشاركهم في نجاحاتهم، ويساعدهم على تجاوز محنهم. وأقصد بالامتداد لا ان يكونوا نسخة منه، بل نجاحهم في الحياة فيما أختاروه طريقاً لهم هو امتداد له.

تكون أباً، حينما تحتفي وتفرح وتشارك بنجاحات أولادك وتكون أصلاً فيها لا عرضاً، وتكون أباً حقيقياً حينما يستشعر أبوتك ومحنتك ومحبتك أولاد أولادك، على قاعدة (أعز الولد ولد الولد)، وتتفاخر بأنك أحسنت التربية لأبيهم ليبرّ بك الأولاد ويمتد برّك للأحفاد.

الأبوة هي اللطف والرحمة بعد اللطف الإلهي ورحمته، وهي المثال الأعلى الذي ينبغي أن يقتدي به الأولاد ليُحدثوا عنه أولادهم ليحتفون بتاريخهم العائلي.

يتحقق معنى الأبوة لا في ما يجلبه من مال لتحقيق الحد الأدنى للعيش بكرامة وإن كانت هذه مهمة من المهام الأساسية للأبوة، لكنها تتحقق في الشعور الغريزي والطبيعي في الحنو والمحبة الصادقة حتى ولو لم يتمكن من تحقيق الحد الأدنى للمعيشة. هذا المعنى يجعلني أربط الأبوة بالإباء، فقد يكون الأب فقيراً لكنه حانياً ومُحباً وصادقاً في محبته لأولاده ولا يتركهم يعيشون لظى العيش لوحدهم يتحدون صعاب الحياة، وهذا إباء عند الآباء الذين أوفوا ما عاهدوا لله عليه في الصدق في التعب وبذل المستطاع ليعيش الأبناء عيشة عز.

يقترن لفظ الأب بالآبه، الذي ينبغي أن يعنيه الأولاد ويهتم لشؤونهم ويأبه بما هم فيه وعليه، وقد يكون أغلب الآباء كذلك، ولكن بعضهم لا يأبهون بكونهم آباء عليهم أن يكونوا مثال الإيثار من أجل أولادهم، فأبوا ذلك وغرتهم زينة الحياة الدنيا، فنسيوا أو تناسوا ما ينبغي أن يكونوا عليه شرعاً أو قانوناً.

لا أعرف لماذا تؤكد أغلب الكتابات في الموروث الفقهي والاجتماعي على عقوق الأبناء ولا تبحث بشكل جاد عن استهتار بعض الآباء بحياتهم الأسرية؟!

 

ا. د. علي المرهج – أستاذ فلسفة

 

 

في المثقف اليوم