قضايا

ثامرعباس: غيبوبة الوعي الجغرافي.. لماذا تعسّرت ولادة الهوية الوطنية في العراق؟!

حين يجري تناول وتداول قضايا الوعي الاجتماعي، نادرا "ما يتطرق الحديث / النقاش إلى دور وأهمية الشق أو الجانب الجغرافي في منظومة هذا الوعي المركب، باعتباره يمثل ركنا "أساسيا" من أركان ليس فقط قيام الدول وصيرورة المجتمعات وسيرورة الحكومات وتحديد السيادات فحسب، بل وكذلك لبناء الشخصيات الاجتماعية، وتكوين الهويات الوطنية، وتكريس الذاكرات التاريخية. والحال ليس كالإنسان العراقي من يفتقر إلى امتلاك مثل هذا الوعي أو يهتم لأمره، والحالة الوحيدة التي تدعوه لتذكر أهمية هذا النمط من الوعي لا تتعدى احتمالين؛ أما الأول فهو أن يكون الدافع برغماتي يتعلق بالمطالب و(الحقوق) القومية / الاثنية أو الدينية / المذهبية، مثلما هو الوضع السياسي الحالي المتمثل بالتطلعات الفيدرالية أو لاعتبارات أخرى ذات مآرب إقليمية. وأما الاحتمال الثاني فهو أن تكون الحروب الخارجية وما تستلزمه من استنفار جميع الماديات والرمزيات، هي ما يفرض عليهم أن يولوا مسائل السيادة الوطنية والحدود الجغرافية أهمية مضاعفة، نظرا"لما يترتب على نتائج تلك الحروب من أوضاع شاذة وظروف استثنائية قد تهدد مصالحهم وتقوض طموحاتهم.

والحقيقة إن الإنسان لا يولد وهو يحمل مورثات مثل هذا الوعي في جبلته، اللهم إلاّ إذا أخذنا بنظر الاعتبار طبيعة الإحساس الأولي الناجم عن تغيير المحيط / البيئة في لحظة الولادة، حيث الطبيعة البيولوجية تفرض علينا مغادرة دفء المكان المغلق (الرحم) إلى صدمة المكان المفتوح (الفضاء). أما خلاف هذا النمط من (الوعي) البدائي – إن جاز لنا تسميته وعيا"- فالأمر يبقى منوطا"بماهية المجتمع الذي يولد فيه ذلك الإنسان؛ حيث يترعرع في كنفه ومحيطه، ويتربى على قيمه وعاداته، ويستبطن رموزه وثقافاته، ويسلتهم تاريخه ومخياله، ويحمل شيفرات شخصيته وهوياته. والمفارقة إن المجتمع لا يحكم – في الغالب الأعم -  نفسه بنفسه، ولا يتحكم بمدخلاته ومخرجاته من المثل والمبادئ على وفق ما تحدثنا به المبادئ (الديمقراطية)، بحيث يستطيع أن يقدم لأعضائه جميعا"تربية وطنية صالحة وتنمية إنسانية سليمة، يتمكن من خلالها اكتساب فضائل الوعي الاجتماعي، بما فيه من وعي وطني وجغرافي وتاريخي وحضاري.. الخ ؟. إنما هو يقاد من قبل نخب معينة انتظمت في دول والتأمت في حكومات، لا يجمع بينها قاسم مشترك سوى الرغبة في تأمين ما (يزعم) عادة أنها مصالح الوطن وحقوق المواطن، أما بخلاف هذا (الادعاء) فهي تتنوع بتنوع المشارب السياسية، وتختلف باختلاف الاتجاهات الإيديولوجية، وتتباين بتباين التطلعات الإستراتيجية.

وإذا ما كانت الحكومة – أية حكومة - حريصة فعلا"على ضمان أمن وسلامة المصالح الوطنية، وتعتبر نفسها مسؤولة حقا"وفعلا"عن تطوير المجتمع وتفجير طاقاته وتنوير ملكاته وتثوير إبداعاته، فإنها ستكون في سباق مع الزمن لأجل، ليس فقط أن ينعم أفراد ذلك المجتمع وجماعاته بأسباب الرخاء والعيش الرغيد، بعيدا"عن مظاهر الفقر والجوع والأمراض والتخلف فحسب – فتلك على أية حال نتائج لسياسات معينة – وإنما ينبغي لها أن تجعله يتحلى بكل بمزايا (المواطنة)، التي من جملتها الإحساس بالانتماء إلى وطن يمتلك تضاريس جغرافية مميّزة، ويختزن أحداث تاريخية خاصة، ويتمثل بأنماط ثقافية مختلفة، ويتجلى بمعطيات حضارية متنوعة، بحيث تجتمع كل هذه الخصائص وتتفاعل ليتمخض عنها ما نسميه أخيرا" (بالهوية). هذا بينما نشهد العكس من ذلك تماما"في حال كانت الحكومة المعنية لا تعبر إلاّ عن مصالح حفنة من سرّاق المال العام وزعماء المافيات والعصابات والمليشيات، الذين لا تعني لهم السياسة سوى وسيلة لتسخير الدولة ومؤسساتها لخدمة مآربهم الشخصية وأطماعهم الفئوية، ولا يعني لهم التاريخ سوى مجموعة من النصوص والوثائق التي يمكن تزويرها وتغيير وقائعها والتلاعب بتفاصيلها ترضية لهذا الطرف أو ذاك، ولا تعني لهم الحضارة سوى مجموعة من النصب والتماثيل واللقى التي يمكن بيعها لتجار الآثار المهربة، ولا تعني لهم الجغرافية سوى رقعة من الأرض يمكن المساومة بشأنها والمقايضة حولها أو حتى التنازل عنها، ولا تعني لهم الثقافة سوى مجموعة من الخرافات والأساطير التي تفسد العقول وتخرب النفوس، بحيث يمكن نسخها أو التخلص منها والقضاء على رموزها. وأخيرا"لا تعني لهم الهوية سوى مجرد أسم مشكوك بنسبه ومطعون في مرجعيته يمكن استبداله أو تغييره بآخر جديد، إذا تطلبت المصلحة ذلك، مثلما يستبدل المرء ثوبه القديم بعد أن أصابه البلى !.

ومن الجدير بالاهتمام هو إن نستوعب حقيقية واضحة وضوح الشمس – ولكن الأبصار عنها تزيغ في الغالب – مفادها إن هوية الأوطان – أي وطن – لا تتكون من العدم ولا تتشكل في الفراغ، إنما ينبغي - أولا"وقبل كل شيء - أن يكون لها أساس طبيعي / جغرافي ترتكز عليه وقاعدة إقليمية تتشكل فوقها - بصرف النظر عن حجمها أو موقعها أو شكلها أو ثرائها - لاسيما وان جميع مكونات الهوية التي أتينا على ذكرها، تحمل في صلبها ملامح تلك الجغرافية وتتزيا بوشومها الايكولوجية. فالتاريخ بدون جغرافيا مجرد أساطير، والثقافة بدون جغرافيا مجرد خرافات، والحضارة بدون جغرافيا مجرد أوهام، ناهيك عن إن الإنسان ذاته بدون جغرافيا لا يعدو أن يكون سوى كتلة من المكابدات الاجتماعية والاغترابات النفسية، التي قد يكون لها بداية ولكن لن تكون لها نهاية. هنا نسارع للقول بان الجغرافيا التي عنيناها في هذا المجال، ليست فقط تلك المعطيات الجيولوجية أو التضاريس الأرضية أو الظواهر المناخية، باختصار ما يسمى بالجغرافية الطبيعية، إنما قصدنا تلك الجغرافية المحملة بمضامين سوسيولوجية أنثروبولوجية وسيكولوجية، لا بل حتى مخيالية واسطورية.

ولعل ما تعانيه الهوية العراقية من مظاهر عسر الولادة وآلام المخاض، ناجما"بالأساس عن حالة الغيبوبة – بلّه الغياب – التي يمر بها الوعي الجغرافي للإنسان العراقي، ليس فقط بسبب الأوضاع الشاذة التي يتمرغ بأوحالها المجتمع وتتعفن خلالها الدولة في الوقت الحاضر، على خلفية دراما الصراعات العنصرية والطائفية والتجاذبات الإقليمية والدولية، تلك التي برع في أداء أدوارها سماسرة السياسة وتجار الحروب فحسب – كما قد يتوهم البعض – إنما هي حالة مرضية مزمنة وداء عضال متوطن، أصاب الشخصية العراقية بتشوهات بنيوية دائمة؛ وطنية ومعيارية ورمزية ونفسية وأخلاقية، للحدّ الذي وسمها بمظاهر خصاء الإرادة وتعليب الوعي وتدجين الشخصية.

وهكذا فان على من يريد أن يعالج علة غياب (الهوية العراقية) من أفق تفكير الإنسان العراقي، عليه أن يركز جهوده صوب الهدف المركزي المتمثل في ظاهرة غيبوبة (الوعي الجغرافي) من بنية الوعي الاجتماعي بشكل عام ومنظومة الوعي الفردي بشكل خاص. وبالتالي فان الحل لا يكمن في السياسة كما جرت المحاولات لحد الآن، وإنما يربض في الثقافة، من منطلق إن الممارسة السياسية التي تفتقد للموجه الثقافي، لابد أن تتحول من أداة لبناء الإنسان الى معول لهدم كيانه، ومن مؤسسة لتعمير المجتمع الى جهاز لتدمير بنيانه. ومما يؤكد هذه الحقيقية السوسيولوجية المؤلمة، هو انه على الرغم من تعاطي جميع مكونات المجتمع العراقي لمورفين السياسة بجرع مضاعفة وتركيز عال، إلاّ أن ذلك لم يحل دون أن تكون الجغرافية الوطنية محل نزاع ضار وشرس بين عناصرها  – كما حدث في معارك تحرير المحافظات مؤخرا"- على وفق رؤى وتصورات طائفية وعنصرية لا يجمع بينها جامع سوى التطرف المشترك والعنف المتبادل، بعد أن تغلبت فيها مطالب الجزء على الكل، وتسامت فيها مصالح الخاص على العام.

ولعل مكمن الخطورة في المأساة العراقية الحالية، خصوصا "بالنسبة لقضية الهوية الوطنية المجهولة المصير، هي إن الأطراف المعنية بتأجيج سعار تلك المأساة نقلت محور صراعاتها من مضمار السياسة المتحرك والقابل للقسمة، إلى إطار الجغرافيا الثابت والمحرم تقسيمه. بمعنى أنهم وضعوا مطلب تقاسم (المكان) الذي لا يوجد عرف أو قانون يبرره كعنوان لأهدافهم الاستراتيجية، بدلا" من هدف تقاسم (السلطة) المشروع عرفا"وقانونا". وهو الأمر المرجح له أن ينسف كل الأسس ويقوض جميع الركائز التي تقوم عليها وحدة العراق؛ ليس فقط في حقول السياسة والاجتماع والجغرافيا والتاريخ فحسب، بل وكذلك في مضامير الدين والثقافة والهوية والذاكرة والحضارة !!.            

 

 ثامرعباس

                

في المثقف اليوم