تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

مراد غريبي: أليس فينا مثقف إنساني؟!

(لا يكفي على المثقف أن يقرأ "أوراق بيكويك" أو أن يحفظ منولوجاً من "فاوست"، فإن ما يحتاجه المثقف هو العمل الدائم، ليل نهار، والقراءة المستمرة، والدراسة، والإرادة، فكل ساعة هي ثمينة بالنسبة  له).. أنطوان تشيخوف

أن تكون مثقفاً إنسانياً يعني الدفاع عن مصالح الإنسان بكل بساطة، وهذا لا جدال حوله، دون صناعة الأحقاد ودعم ثقافات الكراهية والتسقيط والاضطهاد ضد الآخر. أن تكون مثقفاً إنسانياً عليك أن تلاحق "الخلل" في أبعاده الإنسانية، بعيدا عن اساليب صناعة الصراعات وبلا تقديس غير المقدس ودون التسرع في  الحكم على عناصر مجال الخلل.

 المثقف الإنساني، دون الاستغراق في  معاملات المصطلح وتداعياته، يسعى دائماً أن يعرض فكرته بشفافية وصدق وموضوعية وتواضع، يناقش أفكاره مع غيره مع تبنيه لها، يحاور بأخوة وصراحة ويلتزم السلمية والعدالة في تبليغ ما توصل إليه من رؤى وأفكار ومطارحات. هذا المثقف-الإنسان، يظل إنسانيا في كل حضوره الوجودي، وعيه إنسانيته يبعده عن كل ميادين التوحش بإسم الثقافة والدين والوطنية والحرية، او البغي بإسم الندية والسباب تحت عنوان المعاملة بالمثل والتهكم كمنهج الإعجاز والنفاق والانتهازية بحثا عن النجومية في حقول التأثير والتسيير لواقع الناس، قوة المثقف في سلميته وكرامته الانسانية التي يستمد منها عدالته وحريته في التفكير والنضال من أجل الحقيقة والحق كله..

لهذا مراوغات المثقف بكل أشكالها ليست شطارة أبداً، ولا صمته من فضة أيضاً. هذا التمويه الانحيازي هو تضليل للرأي العام..

لأن التمويه الثقافي حقل ألغام في الواقع والمستقبل، هو فضاء التلاعب بالعقول والمجتمعات، عموما التمويه هو سياسة المثقف الأيديولوجي والطائفي والنصاب في أروقة الثقافة ومؤسسات التعليم والإعلام ومجاميع الدين، إنه مثقف المصالح الضيقة، حيث يستقدم الاوراق التاريخية السوداء، ليصنع الفتن ويشوه الآخر ويستخدم كل وسائل  التزوير والتسقيط مقابل تأجيج الواقع عبر بث السموم بين الطوائف والإثنيات والاديان والشعوب والأحزاب والمدارس الفكرية والتيارات الثقافية. هذا النمط من المثقف هو في الواقع سمسار يدعي الاعتدال والموضوعية في خطاباته، اعتدال في صناعة الفوضى وموضوعية تخفي كل حقائق التاريخ الوحدوية وصور اللقاء ومواقف وأفكار التعايش، شغله الشاغل هو تضخيم الخلافات الفقهية والتاريخية وتغطية الإسلام الحضاري والوطنية الجامعة، هذا التلاعب الثقافي شكل عبر التاريخ العربي والإسلامي المعاصر أكبر المغالطات الفكرية والثقافية.

المثقف الذي ينحاز لكل صور الشر والباطل والخلاف والظلم في التاريخ والواقع، ليستعملها في تمرير مخططاته الاستدمارية لكل مفردات الوعي والتجديد والتغيير والإصلاح والتعايش والتعارف والتسامح، هو من حرم الشعوب العربية من وعي الحرية وثقافات الاختلاف والتعددية الفكرية عبر الترويج لثقافات احتكار الفكر والتاريخ والدين ..بعبارة  أدق "المثقف المتحيز سرطان النباهة وقاطع طريق النهوض أمام الشعوب "!

التخلف الاجتماعي هو نتاج تحيزات المثقفين في كل مجالات الإجتماع، في جل مؤسسات التعليم والإعلام والفن والاقتصاد والإدارة والإدارة والقانون والرياضة والدين، في كل مناشط الواقع، لذلك لا نستغرب وصولنا إلى ابتكار حيل شرعية (!!) ، ونلفق المتناقضات مع بعضها في تبرير الفساد، حتى صار قول الحق خيانة عظمى والشفافية والعدالة ترهات الحمقى.

في الوقت الذي يصبح المثقف يتلعثم في مواقفه ويلف ويدور في دهاليز التاريخ لخطف الأضواء عن الصدق والعدل والحق، اكيد الواقع الاجتماعي سيظل يئن من آلام التشويه والتسقيط والتفاهة والفساد الأخلاقي والإداري وما هنالك من معاملات الانحطاط والتخلف..

أحد أشكال تحيز المثقف هو تحوير معنى الفتنة. فتكون الفتنة كل ما لا يخدم مصالحه الضيقة، فالطائفية ليست فتنة، فقط لو لم تخدم تياره المقدس، والتحرش الجنسي والمثلية والشذوذ  وما هنالك من انحرافات جنسية واخلاقية لا تكون فتنة ما دامت تنطلق من مرجعيات  الدمقرطة والحداثة والليبرالية..

في الغالب هذا المثقف هو صانع الطاعة العمياء والفتن الكبرى والتخلف الذي أسسه في المؤسسات الاجتماعية والتربوية والسياسية والدينية، من العائلة مروراً بالتعليم والمسجد والإعلام وصولاً إلى التكوينات بشتى مشاربها اليسارية والليبرالية والدينية وغيرها..

المثقف الإنساني هو من ينتج "المفاهيم" النقدية المؤسسة على مرجعيات الواقع والمعتبرة من الماضي والمتطلعة للمستقبل.

هو مثقف الشعب بكل تنوعاته، يؤمن بأن "الثقافة هي  تنوير الواقع وتطويره من أجل كرامة الإنسان، هو ذاك المثقف الذي لا يسكت عن الظلم..

المثقف الإنساني مدافع عن إنسانية مجتمعه، هو المثقف الذي ضمنياً يقاوم التحيزات في ذاته وواقع مجتمعه..

وفي ذلك يظل المثقف هو الشخص القادر على تفكيك ورفع الغطاء عن فكر الخذلان والبهتان، هو القادر على إقناع الجمهور بأن ما التفكير معا والتعاون مع الاحترام والتعايش والتسامح هي كلها حلقات النهضة عينها.

المثقف الإنساني يولد ويكبر حكيما حكمة الكلمة الطيبة والعمل الصالح والوعي المتطور.. ليس ميكيافيليا، إنه ابن  المواقف الحرجة، إنسانيته كونه طليعي في مسرح فعل تقديم الخير للإنسان والوطن،  خير الحقوق وحرية الإنسان. همه هو الوطن والإنسان هذا المثقف الإنساني هو القادر على تحويل كل الأدوار الاجتماعية إلى ثقافة إصلاح وتجديد وشفافية وتسامح وتعاون وإبداع من أجل نهضة الوطن وكرامة الإنسان فيه..

***

ا. مراد غريبي

في المثقف اليوم