قضايا

رياض الناصري: فوبيا مناقش

مناقشة رسالة الماجستير أو اطروحة الدكتوراه حلقة تكاد تكون أخيرة في ترصينها العلمي أو المعرفي، زيادة على بنائها المنهجي، وخطواتها المنطقية كي تظهر بلباس علمي يجعل منها جهدا معرفيا حقيقيا تكون دليلا للباحثين من بعد، لا تبخس الموضوع حقه، ولا المسترشد بها سؤله، وهذه مهمة وذمة المناقش أولا وربما أخيرا أيضا، بيد أن الاتجاه العام عند بعضهم يسير باتجاه الاقرار الضمني والنفسي أن ما يقدم للمناقشة عمل متكامل لا تشوبه الا هنات بسيطة ليست بذي بال، والدليل على ذلك ما يأتي: مدة القراءة الممنوحة للمناقش التي تقلصت من شهر إلى أسبوعين -بما فيها من مداخلات واجبات علمية، ووظيفية أخرى، فضلا عن حاجات انسانية طبيعية للمناقش، فكم سيتبقى منها؟!- الزمن المخصص للمناقش الواحد، وأخيرا قراءة بعضهم للبحث التي تقلصت عنده إلى مبحث واحد وربما جاءت بما يزيد قليلا، يستعرض عبره عضلاته العلمية الشفوية التي هي في النسق العلمي العام للموضوع، وقد تكون خارجه نهائيا، لا بما انجز فعليا عبر الكتابة في البحث قيد المناقشة، وهذا الفاعل الأخير باستراتيجية (اسقاط الفرض) هو من مؤيدي تقليص زمن المناقشة إلى عشرين دقيقة لكل مناقش، يضاف إلى ذلك التبرم بأي مناقشة جادة حريصة على التقويم، والتقييم العلمي الحقيقي لا البهلواني، مما خلق عند بعضهم ما يمكن أن نسميه: (فوبيا مناقش) إذ يخافون كل مناقش جاد، وهذه السلوكيات آنفة الذكر كلها تدخل ضمن مشروع سابق لتمرير وتمشية حال ابناء السلطة، حيث بات المناقش مقيدا بمفردات العمل الذي أمامه، لا يحيل إلى خارجه قيد أنملة، كي لا تظهر ضحالة الطالب وجهله بقضايا محيطة بموضوعه هي من صميم رصانة البحث والباحث، والكفاءة العلمية الواجبة في حامل شهادة عليا من مؤسسة أكاديمية يفترض أن تكون رصينة - بغض النظر عن أي تفاوت بين هذه المؤسسة أو تلك مادامت تمنح هذه الشهادات العليا- ومن علل التضيق كذلك الخشية من اكتشاف سرقة المحظي عند أربابه الكاملة، او سرقاته وتدليسه، أو أن يكون قد كتبها له آخرون.

وعودة بمرور سريع إلى ما كتبه طه حسين في مذكراته عن دراسته في فرنسا وما يقوم به المناقشون في جامعاتها من سياحة علمية مع الطالب بمواضيع شتى؛ تاريخية، وجغرافية، وأعلام وأحداث كبرى في حياة الأمة،  وقضايا ثقافية وفنية عامة، فضلا على اللغوية والأدبية والقضايا التخصصية الدقيقة في موضوع المناقشة، لَبَانَ بشكل جليّ بُعدنا عن شروط وضوابط الحياة العلمية والعملية، وموقعنا الحقيقي منها، ولأجبرتنا على اعادة النظر في كثير من سلوكياتنا في المناقشات، واعداد الطالب علميا ومعرفيا وذهنيا، ونفسيا منذ بدأ التسجيل في الدراسات العليا، وما يتلو ذلك من مسيرة يفترض أن تكون منقطعة تماما للعلم والمعرفة، والدرس والدراسة، والبحث والكتابة دون تمويه، أو توهين، أو مداجاة وانحراف، ودون فوت وتقصير، أو زخرفة لغشاوة العيون، أو بهرجة لتضليل العقول، أو لمساومة لخلخلة المواقف، أو لخلق مجريات ما لإرضاء الأهواء، وتحصيل منافع ومصالح على حساب الضمير العلمي، ومستقبل البلاد والعباد، وتحقيق وجودهم أسوة بعالم يكاد يقبض على أجرام السموات ومقدراتها، كما فعل في الأرض باطنا وظاهرا، بحرا، وجوا، ويابسة، ونحن الذين سمعوا أول كلمة نزلت من السماء تدعو للعمل والجد وفق هذا الاتجاه )اقرأ)..!.  ونحن الذين استرشدنا بمثل قرآني قل نظيره عن الذين يحملون العلم، ولا يحيطون بشيء مما فيه،  فقال عز من قائل:(مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا)، فالذين حملوا العلم والقرآن ثم لم يفقهوا منه شيئا  كمثل الحمار تماما..!. لا يُحمّل أكثر من طاقته في الوظيفة؛ وهي حمل الأثقال، فلا شأن له بعلم، ولا بدرس، ولا بمراجعة.. ومن هنا صار لزاما علينا مراجعة  أشيائنا العلمية كلها، ونموذج صياغتها وصوغها، وإدارتها وضوابطها، وقوانينها بين فينة وأخرى، وفقا للحال العلمية القارة في محيطنا الناجح، أو في العالم. كي نلحق بالركب العلمي للعالم وواقعه المدني والحضاري كما هو في قواه الكبرى متسيدة العالم، ولا نبقى نقرن أنفسنا ونربطها بنماذج لم تقدم لأنفسها ما يحميها من السقوط او التيه. فمسافة الألف ميل للوصول إلى قمة الهرم العلمي لابد أن تبدأ بخطوة منهجية علمية مدروسة جيدا، تليها خطوات متراصة متتابعة لا غنى عنها ابدا لتحقيق ذلك الانجاز والوصول. ومن أبرز علامات تحققه حينئذ اجراء مناقشات (علمية) في كل أصناف علومنا، تستحق فعلا حمل هذا الوصف الأخير.

***

د. رياض الناصري

في المثقف اليوم