قضايا

ثامرعباس: خصائص الثقافة وشروط المثقف

(إذا كان الوعي هو مدار الثقافة، فان الواقع هو مدار المثقف)

لا ريب في القول بان مفهوم الثقافة مفهوم واسع وشاسع، لا بل قل انه شائك ومعقد وإشكالي بامتياز . ليس فقط لأنه معني بالجوانب الروحية والمعنوية والرمزية للإنسان من حيث هو كائن اجتماعي تتقاذفه الأهواء والنوازع مثلما تتلاعب به المصالح والمطامح فحسب، وإنما لأنه (يؤثر) - بهذا القدر أو ذاك - على سائر الأنشطة والفعاليات الحيوية التي يمارسها المجتمع لديمومة وجوده وضمان استمراره، بقدر ما (يتأثر) بأنماط تلك الأنشطة والفعاليات لجهة دورها في تماسك البنيات وتفاعل الديناميات وتطور سيرورات . ولذلك نجد إن مشاعر (الحيرة) و(التردد) لم تزل تمسك بتلابيب الكتاب والباحثين حيال أي من تعاريف (الثقافة) يمكن ترجيحها والاعتماد عليها في بحوثهم ودراساتهم، لاسيما وإن أعدادها لا تفتأ تتضخم وخصائصها تتشعب متجاوزة بذلك حواجز العشرات والمئات مع كل يوم يودع آنية الحاضر ويمضي في مسار التاريخ، على خلفية تسارع التغييرات الاجتماعية وتقاطع الإيقاعات الحضارية وتصارع الإيديولوجيات السياسية . لا بل إن الصعوبات لا تني تتزايد والمعوقات تتضاعف كلما بحثنا في الأصول ودققنا في المرجعيات وتقصينا في الخلفيات، تلك التي غالبا"ما تكون مسئولة عن ظواهر الاختلاف في السرديات التاريخية، والتنوع في الهويات الثقافية، والتباين في السياقات الحضارية، والتعدد في اللغات القومية .

وعلى أساس من تلك المعطيات والمؤشرات، فان كينونة (المثقف) الذي هو فاعل (الثقافة) بكل ما تحمله الكلمة من معنى وما تمثله من دلالة، لابد وان يكون – بالضرورة - بمثابة البؤرة التي تتجمع في مركزها وتتقاطع في نسيجها، كل ما تنطوي عليه تلك البنى الاجتماعية من ديناميات، والأنساق الثقافية من تفاعلات، والأنماط الحضارية من سيرورات . وبالتالي فهو التجسيد الحيّ لكل ما تشتمل عليه الثقافة من تنوع في الخصائص ؛ الطبيعي والإنساني، السلوكي والقيمي، العقلي والانفعالي، الواقعي والمتخيل، المعرفي والإيديولوجي . ولهذا فمن الصعب – بل قل من الجهل - إن يعمد بعضنا إلى اختزال شخصية (المثقف) بموقف سياسي طارئ، أو برأي فكري عابر، أو بنشاط ثقافي آني . فقط لمجرد إن المعني أظهر أمام الجمهور – الذي غالبا"ما يكون سلبي ولا أبالي - القدرة على الكتابة أو الخطابة في مجالات المعرفة الاجتماعية والإنسانية المتنوعة، حتى دون أن تؤخذ المفارقات التي يمارسها في المواقف، والتناقضات التي يتبناها في الآراء، والتعارضات التي يتعاطاها في الأنشطة بعين الاعتبار، كما هو حال الغالبية العظمى من أولئك الذين لا يفتأون يتبجحون بحمل هذا اللقب السامي ويحظون بتلك الهالة المناقبية . لاسيما وان ظاهرة العزوف الجماعي عن مضامين كل ما يتعلق بالثقافة وما يرتبط بالمعرفة أضحت فاشية ومنتشرة، ليس فقط في الأوساط (الأمية) المبتلاة بأمراض الجهل والثقافي والفقر الاقتصادي فحسب، وإنما داخل الأوساط (المتعلمة) المزهوة بنخبويتها الفارغة والمصطنعة أيضا"! .

وكما أصبح الأمر واضحا"الآن، فان الضرورات المعرفية والمتطلبات المنهجية باتت تقتضي أن يصار إلى مراعاة جدول (الشروط المعيارية) التي افترضنا – من وجهة نظرنا المتواضعة  - إن الاعتماد على مضامينها والاحتكام إلى شروطها، ستكون بمثابة الفيصل للبت في صيرورة الفاعل الاجتماعي عنصرا"(مثقفا")، مثلما الحكم في صدقية انتماؤه (للثقافة) وشرعية تمثيله لقيمها الأخلاقية وحمله لرسالتها الإنسانية . ولأننا اعتبرنا إن تلك الشروط هي أشبه ما تكون ب(البوصلة) التي ستجنبنا – إذا ما اعتمدنا عليها فعلا"وليس قولا"- من الشطط في إطلاق الأحكام التعسفية والانحراف في تبني الصيغ الجزافية، وتمكننا من ثم الاهتداء إلى هوية (المثقف) الحقيقي الذي أصبح عملة نادرة في هذه الأيام، بدلا"من الوقوع في شباك دعاوى (المثقف) المزيف الذي أضحى يشكل ظاهرة طاغية على المشهد الثقافي المهلهل . وهو الأمر الذي يستدعي منا الصرامة في التعاطي مع تلك الشروط لا كأجزاء أو عناصر متفرقة يمكن الاختيار أو المفاضلة فيما بينها، بناء على أهوائنا الشخصية أو مصالحنا الفئوية أو خلفياتنا الإيديولوجية، وإنما كوحدة عضوية متلابسة بنيويا"ومتفاعلة جدليا" لا يجوز تقسيمها أو تجزئتها إلاّ لأغراض البحث العلمي والدراسة المنهجية .

وهكذا بعد غربلة وتدقيق في كم لا بأس به من الأبحاث والدراسات التي تناولت هذه الشخصية الإشكالية نقدا"أو تقريظا"، فقد استطعنا استخلاص مجموعة من المعايير النوعية التي اعتبرنا أنها أساسية ولا غنى عنها في بناء وتكوين شخصية (المثقف) . وتحاشيا"للإطناب وتوخيا"للتركيز فقد قمنا بعملية دمج بين تلك الشروط التي تتقارب في وظائفها وتتحايث في دلالاتها، بحيث تكونت لدينا أربعة مزدوجات معيارية نعتقد أنها إذا ما اجتمعت في شخصية ما من شخصيات الفاعلين الاجتماعيين، كان بمقدورنا تلبية استحقاقه المشروع في حيازة لقب (المثقف) وطوقنا من ثم عنقه بهالة المجد الشخصي والاعتبار الاجتماعي . وعليه فقد أصبحت لدينا الآن الشروط المعيارية التالية : (الشرط الفكري / المعرفي)، و(الشرط النقدي / المنهجي)، و(الشرط الوطني / الإنساني)، و(الشرط الأخلاقي / الحضاري) . على أمل أن تتاح لنا فرصة أخرى، في مساهمات لاحقة، نستعرض من خلالها مضامين كل شرط من هذه الشروط على حدة .

 

ثامرعباس

 

في المثقف اليوم