قضايا

ثامر عباس: هل كل أكاديمي هو مثقف بالضرورة؟!

قد يظن معظم الناس – تحت وطأة المواضعات الاجتماعية التقليدية التي أكل الدهر عليها وشرب - إن كل أستاذ جامعي (أكاديمي) هو (مثقف) بالضرورة، وبالتالي يستحق أن نسبغ عليه هالة من الاعتبار الرمزي ونجلله بهيبة من السلطان الاجتماعي، ناهيك بالطبع عن تبعات امتيازه المعرفي الذي هو حصيلة تخصصه العلمي وتدرجه الوظيفي . والواقع ثبت إن هذا الاعتقاد خاطئ ومضلل بقدر ما هو خاطئ ومضلل أيضا"تصور إن كل (مثقف) ينبغي أن يكون من حملة الشهادات العليا، أي بمعنى أن يكون حائز – مسبقا"- على مؤهل جامعي متقدم (دكتوراه) أو (ماجستير) على أقل تقدير، وإلا فان نعته بهذه الصفة المهيبة لا يعدو أن يكون إما مجاملة أو تملق.

والحال إذن ما هي الأسس أو المعايير القياسية التي يمكن اعتمادها لاعتبار زيدا"من الناس (مثقفا") دونا"عن سائر أقرانه، طالما إن مؤشرات التحصيل الدراسي أو اللقب العلمي لا تكفي لوحدها كدلالة لتعريف الشخص (المثقف)، مثلما لا تعكس بمفردها تلك الخاصية المميزة التي تجعله يتمتع بهذه الحضوة وينال هذا الشرف؟ . في دراسة سابقة لنا بعنوان (كينونة المثقف: يكون أو لا يكون) أشرنا من خلالها إلى مجموعة من الشروط المعيارية التي افترضنا أنها تحدد مواصفات الإنسان (المثقف) من عدمه، حيث جاء تسلسل أهميتها كالتالي (أولا") المعيار الوطني / الأخلاقي، و(ثانيا") المعيار العلمي / المعرفي، و(ثالثا") المعيار الحضاري / الإنساني، و(رابعا") المعيار النقدي / التأويلي(*) . وإذا ما بدت هذه الشروط - بالنسبة للقارئ - منفصلة ومستقلة عن بعضها على صعيد الخطاب، فهي مترابطة ومتلازمة على مستوى الواقع، بحيث إنها تشترط أحداهما الأخرى وتستدعيها . بمعنى إن الإخلال بإحداها كفيل بالإساءة إلى بقية الشروط الأخرى، ومن ثم يغدو شرعيا"إسقاط صفة (المثقف) عمن يدعي هذا الضرب من الامتياز، حتى وان كان يتمتع بأعلى درجات السلّم الأكاديمي وأسمى مراتب التخصص العلمي .

ولهذا فقد سبق للأكاديمي والمفكر الفلسطيني الدكتور (عزمي بشارة) أن أشار في إحدى محاضراته المخصصة للحديث عن هذا الموضوع، حيث عرّف (المثقف) بدلالة معيارين اثنين؛ الأول علمي / معرفي مشددا"فيه على ضرورة أن يمتلك المعني مؤهلا" فكريا"ومنهجيا"، يتيح له التعاطي مع مختلف العلوم والمعارف تحليلا"وتأويلا". والثاني أن يكون مشاركا" نشطا"ومساهما" فعّالا"في طرح ومناقشة القضايا العامة (الوطنية)، ليس فقط لجهة تبني مواقف مؤيده / معارضة واتخاذ خطوات مساندة / منددة لتلك القضايا بصرف النظر عن طبيعتها، بل والأهم من ذلك أن يتحلى بروح المبادر لنقد وتعرية أي مظهر من مظاهر التحريف للوقائع المعاشة والتسويف للمسائل الملموسة، والتي يمكن أن تتعرض لها من أية جهة / جماعة كانت وتحت أي ظرف كان، طالما أنها تمارس هذا الضرب من المواربة لدواعي سياسية أو إيديولوجية أو فئوية . أما بخلاف تينك المعيارين الأساسيين فليس من حق الأكاديمي، أو أيا"كان ممن يتعاطى مهنة الفكر والثقافة، سوى أن ينال لقب (المستشار) حيث يمارس تخصصه العلمي أو المعرفي، لإبداء المشورة وإسداء النصح لهذا الطرف أو ذاك، لهذه الجهة أو تلك مقابل ثمن بالطبع ! .

ومن هذا المنطلق نجد إن موجة الحصول على الشهادات العليا (ماجستير ودكتوراه) من لدن العديد من العراقيين، بعد أن شرعت أمامهم أبواب الجامعات الحكومية والأهلية على مصراعيها، غب لحظة سقوط النظام السابق وما تلاها من قرارات وتشريعات متهاونة ومشجعة، لاسيما على خلفية تعويض الجماعات القومية والطائفية التي يزعم أنها كانت تعاني التهميش والإقصاء، فضلا"عن تعزيز مراكز أحزابها المشاركة في السلطة واغناء حصيلة قياداتها وكوادرها بالمعارف السياسية والاجتماعية والاقتصادية الثقافية والتاريخية . نقول إن تلك الموجة الكبيرة والواسعة لم يتمخض عنها ما يفيد إن أولئك الذين ضمنوا لأنفسهم الحصول على مؤهل علمي عالي، قد أصبحوا ضمن شريحة النخبة المخملية التي تتمتع بمزايا هيبة الفكر واعتبار الثقافة وهالة الوعي، إنما كل ما في الأمر أتيحت لهم فرصة الانخراط بالأنشطة الأكاديمية عبر ممارسة مهنة التدريس الجامعي في الجامعات والمعاهد العراقية المتكاثرة، والأنكى من ذلك – في بعض الأحيان – انخرطوا بحمية لا يحسدون عليها ضمن الاصطفافات الاثنية والطائفية والقبلية التي ازدهرت في ظل أنظمة المحاصصة السياسية والاقتصادية والجغرافية .

وعلى هذا الأساس، وبالرغم من كل ما جرى ويجري في العراق من زلازل ومهازل لحد هذه اللحظة التاريخية، فان الدور المعرفي والإسهام الثقافي لتلك العناصر لم يرقى إلى الحدّ الأدنى من المستوى المطلوب، ليس فقط لجهة قدرتها على تحليل الأوضاع وتأويل المعطيات وتشخيص الإشكاليات واقتراح المعالجات، بل وكذلك لجهة ضعف – إن لم يكن انعدام - انخراطها في الأحداث الساخنة وتفاعلها مع التداعيات الخشنة، بما ينسجم وكونها تمتلك حسا"وطنيا"وتأهيلا"علميا"يستدعيها لأن تدلو بدلوها وتطرح رؤاها وتصوراتها لما كان ويجب أن يكون . وعلى ما يبدو فان إيثارها الصمت إزاء ضجيج الوقائع، وترجيحها الانعزال عن المشاركة في معمعة الأحداث، لا ينم فقط عن الضعف في رابطة الانتماء الوطني والهزال في حمية الولاء العراقي فحسب، بل وكذلك خشيتها من افتضاح أمر خوائها الثقافي وجدبها المعرفي وتصحرها الفكري . بعد أن تبين إن مؤسسات التعليم العالي (معاهد وكليات)، في ظل استشراء مظاهر الفساد الإداري وغياب النزاهة الأخلاقية، لم تعد تراعي - كما كانت في السابق - المتطلبات العلمية والمنهجية وتلتزم بالسياقات التحضيرية والفنية في منح الشهادات الجامعية وتوزيع الألقاب الأكاديمية .

ولكي لا نتهم بالعدمية لقيمة والتبخيس لدور البعض من الأكاديميين الذين استثمروا تخصصاتهم العلمية لأغراض بث الوعي الوطني وتعميق الإحساس بالهوية العراقية، فإننا لا نعدم الإشارة إلى إن هناك من كانت لهم صولات وجولات مشهودة في مضمار محاربة النعرات العنصرية والنزعات الطائفية والفزعات القبلية، تلك التي تحض على الانفصال في الجغرافيا، وتشجع على الانقسام في المجتمع، وتدعو إلى التكاره في الدين . بيد إن تأثير هذه الثلة المهمشة والمغيبة عن المشهد الثقافي والفكري، ناهيك عن السياسي، لا يكاد يتخطى حدود العلاقات الشخصية والحوارات البينية واللقاءات الجانبية، التي لا تكاد بصمتها على سير الوقائع وتدافع الأحداث تترك أثرا"واضحا"أو معلما"بارزا"، يجد صداه بين أروقة الوعي الاجتماعي المستقطب اثنيا" وطائفيا"وقبليا"ومناطقيا".   

 

ثامر عباس

................................

(*) ثامر عباس؛ أقنعة وأساطير: مقاربات نقدية في سوسيولوجيا الثقافة العراقية، (بغداد، مكتبة عدنان، 2013)، ص182 .

 

في المثقف اليوم