قضايا

ثامرعباس: مجتمع الاصطناع.. وفقدان الأمثولة المعيارية

(ينفتح عصر الاصطناع على تصفية كل النظم المرجعية – جان بودريار)

بادئ ذي بدء، لا ننكر إن استعمالنا لتعبير (الاصطناع) لوصف حالة المجتمع العراقي، يعود الفضل فيه إلى  الفيلسوف وعالم الاجتماع والمحلل السياسي الفرنسي المعروف (جان بودريار)، الذي كان قد وضع كتابه القيم الموسوم (المصطنع والاصطناع)، ليشير فيه ومن خلاله إلى ظاهرة استشرت في المجتمعات الغربية المعاصرة مؤداها ؛ غياب المعنى الواضح وانعدام الدلالة الملموسة  لكل ما يجري في رحم الواقع الاجتماعي من تفاعلات وعلاقات وتصورات، بعد أن تمكنت وسائل الميديا الحديثة (الإعلام) من إحالة الوقائع والأشياء والكيانات إلى مجرد صور رقمية تتناسل بمتوالية هندسية غير منضبطة، تأخذ عبر تراقصها المستمر وانثيالها المتواصل بألباب الفاعلين الاجتماعين، محيلة إياهم إلى أشبه ما يكونوا بالقطيع المسلوب الإرادة والمخدر الوعي والمنتهك الخصوصية . بحيث يبدو إن الأفراد والجماعات المستهدفة لا تتعامل مع حقائق قائمة ووقائع معاشة، بقدر ما تتعاطى مع أكاذيب مفبركة ومزاعم منمطة، الأمر الذي يسهل تدجينها واحتوائها وتوجيهها بما يخدم مصالح الدولة ويعظم فوائد النظام . ولهذا فان (ما يقدمه الإعلام – بحسب بودريار- ليس الواقع كما هو، ولا هو صورة عنه، بل هو صورة ولدها الإعلام عن صورة أخرى هي بدورها مولدة منه) .

ومن الواضح إن مسعى (بودريار) في هذا العمل القيم، يتمحور حول تعرية المنظومات الإيديولوجية والرمزية التي تتحصن خلفها مؤسسات الدولة المهيمنة، وإسقاط الأقنعة المزركشة التي تخفي الوجه الحقيقي للوياثان السلطة السياسية المسيطرة، دون أن يستتبع ذلك محاولة زج المجتمع في قفص الاتهام، وتحاشي اعتباره شريكا"للدولة ومتواطئا"مع النظام في مضمار التحنيط للوعي والتنميط للشخصية . ومن منطلق إن الأمثولات المعيارية التي تسترشد بها المكونات الاجتماعية وتستهدي برموزها، يتم العبث بها والتزييف لها من قبل الدولة ونظامها السياسي، لا من قبل المجتمع الذي وان وقع أسير التلاعب بعقله وضحية التحكم بعواطفه، إلاّ أن ثوابت تلك الأمثولات المعيارية لا تلبث أن تعاود نشاطها لضبط علاقاته وعقلنة نزعاته وأنسنة تطلعاته، حالما تزول مؤثرات (الاصطناع) التي مورست ضده وعليه ولو بعد حين . بمعنى آخر إن الدولة ونظامها السياسي هما من يتحمل مسؤولية وضع المجتمع في حالة من (الاستتباع) الإرادي والذهني لاواليات السوق الليبرالية وإيديولوجيته المعولمة، وإخضاعه من ثم لعمليات غسيل مخ متواصلة تحدد خياراته وتقنن تصوراته وتنمذج سلوكياته، وبالتالي فان هذا الأخير (المجتمع) إذا ما استطاع أن يتخلص من خيوط تلك الشبكة العنكبوتية الدبقة، سرعان ما يستعيد عافيته الثقافية ويستأنف مسيرته الحضارية .

وإذا كان عمل (بودريار) قد استهدف تبرئة المجتمع عبر إدانة الدولة، بخصوص استشراء ظاهرة (الاصطناع) التي غزت بنى الوعي الاجتماعي الغربي وتمكنت من اختراق حدود ممانعاته القيمية والرمزية، للحد الذي جعلت من عناصره الإنسانية بمثابة مادة صلصالية تتشكل وفقا"لأواليات السوق الرأسمالي المعولم، وبناء على رغبات الشركات التي تديم زخمه . فان غرض موضوعنا هنا لا يقف فقط عند حدود تعرية وإدانة ما يسمى (بالدولة) العراقية التي لا وجود لها ككيان ولا سلطة لديها كمؤسسة، بل وكذلك الذهاب بالاتجاه المعاكس لرؤية مؤلف (المصطنع والاصطناع) .لاسيما حيال الموقف من المجتمع العراقي بكل مكوناته السوسيولوجية وتنوعاته الانثروبولوجية، الذي لا يقل – من وجهة نظرنا - مقصرية عن الدولة ولا يعفى من المسؤولية جراء ما حدث ويحدث في العراق اليوم . بحيث يكون بمقدورنا وضعه جنبا"إلى جنب مع الدولة التي تحكمه وتتحكم فيه، ضمن قفص اتهام واحد وموضع إدانة مشتركة . من واقع انه (أي المجتمع العراقي) لم يعدم وسيلة باطلة دون أن يثبت من خلالها أنه يخوض غمار منافسة مفتوحة مع الدولة، لتقويض كل ما يشكل مكسبا" وطنيا" ومطلبا" أخلاقيا" ورصيدا" إنسانيا". 

وهكذا فان الدولة العراقية – خصوصا"خلال مرحلة ما بعد السقوط – لم تكن بها حاجة أو تصبح مضطرة - مثلما كانت نظيرتها الغربية - لممارسة عمليات التخريب لوعي المجتمع العراقي والتغييب لإرادة مكوناته، لكي يتسنى لها هدم منظوماته الأخلاقية والرمزية وردم مصادر تطلعاته الوطنية الإنسانية . من حيث إن إنسان هذا المجتمع سبق له وان جرّد من أية أمثولة معيارية، يمكن أن تشكل له عاصما"من الانحراف باتجاه مظاهر ؛ التبربر الحضاري، والتخدر الأخلاقي، والتذرر الاجتماعي، والتصحر الثقافي، والتأسطر الديني، والتعهر السياسي . ومن هذا المنطلق يمكننا – وبلا تردد – عدّ المجتمع العراقي من أكثر مجتمعات المعمورة اجتيافا" لمظاهر (الاصطناع) وأسرعه استجابة لقيمها، سواء على مستوى الذهنيات والرمزيات أم على صعيد العلاقات والسلوكيات . ليس فقط لأنه بات واقعا"تحت تأثير مؤسسات الدولة الإعلامية المتطيفة والإيديولوجية المتحزبة والتربوية المتريفة، التي أضحت مجرد أعشاش لتفريخ الخرافات الدينية، وحاضنات لتناسل الأساطير التاريخية، وبيئات لتكاثر الأوهام الطائفية فحسب، وإنما لكونه طلق بالثلاثة كل ما يذكّره بالوطن ويشدّه بالمواطن، بعدما أصبح كائنا"هلاميا"بلا ملامح ؛ مقتلع الجذور وعديم الانتماء وفاقد الهوية .

والغريب انه بقدر ما تحاول (الدولة) العراقية تبرأت ذاتها من تهمة ممارسة (الاصطناع) ضد المجتمع، ومن ثم النأي بنفسها عن كل ما ينجم عنها من عواقب سياسية ومثالب اجتماعية، بقدر ما يمعن المجتمع (العراقي) في الانغماس بهذا الضرب من السلوك الشاذ والتصرف المنحرف، كما لو أنه يحاول الإساءة إلى نفسه الانتقام من ذاته بصورة مقصودة ومتعمدة . باعتبار أن ظاهرة (الاصطناع) هي من نتاج فعل الدولة التي تمارس سلطتها وتفرض سلطانها بغير أساليب (الإقناع) المعتادة، التي عادة ما تشكل الركيزة الأساسية لقاعدة الشرعية الوطنية لكل دولة . لا أن يضطلع المجتمع المنتهك الحقوق والمستباح المصير بارتكاب مثل تلك القباحات الأخلاقية والحماقات السياسية، ليس فقط ضد بقايا دولة وشظايا سلطة وزوايا قانون فحسب، بل وكذلك ضد تاريخه ماضيا"، وضد مصيره حاضرا"، وضد أجياله مستقبلا". 

ولعل هذه الوضعية المأزقية هي ما شجع على إطلاق العنان لقوى الشر وفلول الإرهاب من جميع الأصقاع، لكي تتجه بأنظارها صوب كيان هذا المجتمع ؛ المتصدع في رمزياته، والمتضعضع في علاقاته، والمتخلع في ولاءاته، لتنفث في جسده الهزيل سمومها، وتطلق في وعيه العليل خرافاتها، وتشيع في مخياله السقيم رذائلها . بحيث بات من الصعب – إن لم يكن من شبه المستحيل – حمل أفراده وجماعاته على كبح جماح نوازعها التعصبية، وكبت غلواء دوافعها الانتقامية، ولجم شراسة غرائزها العدوانية . والأنكى من كل ذلك إن الرموز السياسية والدينية لتلك الجماعات المتقاطعة في كل شيء، ضربت بالنسبة لأتباعها وأنصارها المثال السيء والقدوة الرديئة، لا في صدق وطنيتها ولا في نزاهة سريرتها فحسب، وإنما في عمق تورطها بالتبعية والاستتباع لدول وحكومات خارجية، لا تضمر لهذه البلاد وشعبها سوى العداء التاريخي والكراهية الحضارية . وهو الأمر الذي أعطى لمكونات المجتمع العراقي المنقسمة على ذاتها والمتصارعة على مصيرها، المسوغات الأخلاقية والمبررات النفسية لكي تتصرف على هذا النحو من الرجم الديني للمعتقدات والهدم الوطني للمشتركات .

من هنا فان صفة (الاصطناع) التي تناولنا بعض مظاهرها، ليست طارئة أو دخلية على مكونات المجتمع العراقي الضعيفة الإيمان بوطنها والقليلة الإحسان لعراقيتها، إنما هي رابضة في ذهنها وأصيلة في سلوكها، وان الأمر لا يحتاج – لكي تسفر عن وجهها الحقيقي – سوى أن تمر الدولة بأزمة أو تقع السلطة في مأزق، وعند ذاك سرعان ما تظهر علائم الاصطناع كما  لو أنها من خاصية من خصائص طبيعة هذا المجتمع الملغز، وشيفرة أساسية من شيفرات جبلته المطلسمة !! .  

 

 ثامرعباس

      

في المثقف اليوم