قضايا

مصطَفَى غَلْمَان: في هزيمة الإنسان البيولوجي

(إن المطر ينهمر دائماً بعد الرعد)

هل ينهزم الإنسان بيولوجيا؟. من يرسخ هذه النظرية، ويحتمي بتأويلاتها؟ وهل تمة ما يؤكد هذا التفكير علميا أو حتى فلسفيا؟.

كل العلوم الطبيعية، بما فيها البيولوجيا، التي تقع في صلب علاقة الكائن الإنساني بالعالم، وتحولاته، وأنساقه المتقاطعة مع عوالم البيئة والمحيط الكينوني المترامي، هي جزء صغير من رواسي اندغام هذه المنظومات البيولوجية المتفاعلة ووظائف الإنسان، ومحددات عمله، وصرائف مدده وائتمانه.

ولا تجد شعبة من شعب هذه البيولوجيا، مهما تفاوتت درجات حضورها في بنية الحياة والفاعلية، من التشريح إلى علم النبات إلى البيوكيميا، إلى التطور وعلم البيئة والبيوفيزيا إلى الأنثرويولوجيا ..، إلا ونسجت خيوطا رفيعة تتحاور من داخلها علامات الارتباط ومفارق التوسع، معلنة أن حقيقة امتلائها بالاستسلام للعقل الإنساني، أكبر من أي تخمين أو حدس مشفر.

إن الفهم السطحي لهذه العلاقة الغامضة والمستحيلة، تفرض اعتباريا إعادة قراءة مآلاتنا بإزاء "نظام تسخير الأرض للإنسان"، وما يشكله من مؤسسات عظيمة، وارتقاءات تعلي من قيمة البشر وأثره في سيرورة الكون والخلق.

ولهذا، ينتفي، أحيانا، هذا الاحتواء، وتلك العنق النجود، عند استيعابنا لميسم التقاء القوة بالعقل، والقيمة البشرية بالوجود الحتمي، والهوية بالنظام العام للعيش، والتشارك الإنساني بالمطالب والاستحقاقات.

إننا نظل تلك الطريق، التي ترفض الاقتراب من بعض تآويل الغيب ووحي السماء، ونحاول الزيغ بأفكار مهزومة، تجافي استدرارنا لكل ما هو ملتبس، أو نافذ بالاحتماء خلف "الغائية"، تاريخا ونظرا متجاوزا لمفهوم "التقدم البشري".

وبعد ذلك، نقرع جرس السؤال، في الجدوى من إعمال العقل، تحت إكراه "النظر العلمي التجريبي"، وتغليفه بالأبعاد الأيديولوجية المنتقاة؟ وما موثق الإيمان والعقيدة من ذلك كله؟ وكيف نحول الافتراقات الفلسفية والفكرية، إلى مناطق لإثارة مشكلات، سبق ومضغت وأكلت وهضمت، منذ مئات السنين، قبل أن يعاد تدويرها ونفتها وتعويمها؟.

في كل مناسبة، وتحت القصف الفوضوي المتهاطل، يعود السؤال نفسه، وتبلغ القلوب الحناجر، دونما محاولة لاسترداد القراءات السابقة، أو تحيينها معرفيا على الأقل. فالحقيقة التي تنهض عليها المعلومات الجديدة في مجال ربط انهزام الإنسان بالبيولوجيا، وانكماشه الفاغر تحت وقع الأخطاء والشرودات المجافية للناموس والطبيعة، وتأثيرات ذلك على مشمولات الأرض والعمران والحيوان، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن صيرورة ربط الأفعال والأعمال الإنسانية بمنتوج الطبيعة، وفق قواعد دقيقة ومتناهية، هي نظرية لا تحتاج لتبيان أو فرقان. بينما نجتاز هذه الحتمية المصيرية، إلى أبعد من ذلك، عندما نمارس "إعادة تطويع جدل الوجود والمادة" وعلاقته ب"قدرة الإنسان وسلطته العلمية"، وما يوازي هذا الاعتبار من "اقتدارية فكرية" و"توجه علمي" و"ارتباط بالنتائج المدروسة المحسوبة"؟.

إن حدوث الكوارث الطبيعية، من زلازل وبراكين وفيضانات وحرائق وزوابع وجفاف، هي منتوج طبيعي بشري، نعم، لكنها أيضا، حوادث غير متوقعة وضبابية، قد تكون ناجمة عن أفعال بشرية أو بيئية، ولكنها أيضا، تدخل في دائرة الغيبيات. وهو ما يؤسس لذاك الغموض المكتنف لأسباب الحدوث والتداعيات .

 فهؤلاء إخوان الصفا، يفسرونها في رسائلهم المعلومة، على أنها تأتي نتيجة احتباس البخارات في جوف الأرض والجبال والكهوف والمغارات، وبعد انقطاعها زمنا طويلا تحم في باطن الأرض وتنخسف مفاجأة بالخروج فيسمع لها دوي وهدة وزلزلة. بينما يرى القاضي الجغرافي القزويني، أن ذات الأبخرة المجتمعية تحت الأرض تنحبس وتتصلب، فتصير ماء مضطربا"، ونفس الشيء بالنسبة لابن سينا والرازي وغيرهما.

 وكلها مقاربات، قريبة من فهومات تطبيق العلوم المذابة بنظم الكون وأبنيتها وقياساتها، حيث تلتقي عند تناول النظرية التكتونية للحياة الجيولوجية، ومستتبعاتها من غرابات التقاء الكواكب واقتراب بعضها ببعض، غير ذلك مما لا يفهمه عقل أو يدركه؟.

هل كان حد ذلك، أن يقف العقل البشري إزاء هذه الخروجات، والاقتباسات، والتفسيرات، مشدوها ومتحيرا، أمام عظمة وجلال هذا السر الرباني السديمي المرعب؟ أم أن الاحتواء الداعر لكل قراءات المتحيرين بإزائه، يفاقم من هزالة الإدراك البشري لعظمة الله الخالق، الذي (قدر فهدى)، حيث الشقوة والسعادة، والإخبار بعين الحجة، على أن الطرق المنذورة للوصول، تكون إما شرا أو خيرا .

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

في المثقف اليوم