قضايا

مريم لطفي: الظُلماتُ في القرآنِ الكريم.. روائع الإعجاز

(الحمدُّ لله الَّذي خَلَقَ السَّمواتِ والأَرضَ وَجَعَلَ الظُلمات والنُّور) الانعام1

 الظلمة لغة: ضد النوربضم اللام والجمع ظُلمات وأظلم الليل أو ظلام الليل أي أول الليل والليلة الظلماء أي المظلمة.

والظلمة اصطلاحا: هو انعدام الضوء فيما من شأنه أن يكون مضيئا.

والظلام هو عكس السطوع ويعني غياب الضوء المرئي وغياب الضوء يعني ظهور اللون الاسود في المساحات الملونة.

والحقيقة فقد وردت كلمة الظلمة بالقرآن الكريم في مواضع عدة ،وكل ماورد من الظلمات والنور يعني (الكفر والايمان) إلا في الاية الأولى من سورة الانعام فالمراد بها (الليل والنهار) ،فعبر القرآن الكريم عن الصراط بالنور فيما عبّر عن الكفر والباطل بالظلمات فالابتعاد عن النور يعني الدخول في الظلمات وهي حقيقة ثابتة لايختلف عليها أثنان.

وقد خلق الله النور ليهدي به الانسان والنور الذي ذكره الله له عدة وجوه:

الاول: النور المحسوس (المادي) الذي يميز الليل من النهار وهو النورالذي تهتدي به كل المخلوقات بدون استثناء كضوء الشمس (وسخَّرلكُم الشَّمسَ والقَمَرَ دائبَينِ وسخَّرَ لكم الليلَ والنهارَ) ابراهيم 33

الثاني: نورالله وهونور الهداية وهو النور الي يخرج الله به الناس من ظلمات الكفر الى نور الايمان (قد جاءكم من اللهِ نورٌ وكتابٌ مبين) المائدة15

الثالث: نور الامتحان والغاية وهو النور الذي يمتحن الله به عباده الصالحين (يهدي الله لنوره من يشاء) النور35

وقد وصف الله القرآن بالكتاب المنير لانه ينير الظلمات فيهتدي به الناس (قد جاءكم من الله ِ نورٌ وكتابٌ مبين) النور 2

وقد وردت الظلمات على أربعة أوجه في القران الكريم:

-أهوال البر والبحر

-قل من ينجيكم من ظلمات ِ البرِّ والبحرِ) الانعام 63

-ظلمات ماقبل الولادة (يخلقُكم في بطون أُمهاتكم في ظلماتٍ ثلاثٍ) وهي ظلمة البطن والرحم والمشيمة

-ظلمة الشرك والكفرقال تعالى (يُخرجهم من الظُلمات إلى النور) البقرة257

-ظلمة الليل قال تعالى (الحمدُ لله الذي خَلقَ السماواتِ والأرضَ وَجَعَلَ الظُلمات والنُّور) الانعام 1

وتقسم الظلمات إلى حسية ومعنوية وسنحاول ان نتناولها بشئ من البحث.

اولا: الظلمة الحسّية وتشمل:

-ظلمة الليل قال تعالى (قُل أرأيتم إنْ جَعَلَ اللهُ عليكم الليلَ سَرمَدًا إلى يوم القيامة) القصص71

-ظلمات السحاب قال تعالى (أو كظلماتٍ في بحرٍ لُجّيٍّ يغشَاهُ مَوجٌ من فوقهِ مَوجٌ من فوقهِ سَحابٌ إذا أخرجَ يَدَهُ لم يكد يرأها ومن يجعل اللهُ لهُ نورًا فماله من هاد) النور40

وإذا تأملنا هذه الاية الكريمة لوجدنا،إن الظلمات فيها ثلاث وهي ظلمة البحر اللجي العميق متجسدة بظلمة الموج وفوقه موج آخر وفوقه سحاب ،فهي إذن ثلاث ظلمات ،وقد شبه الله هنا الظلمة بالبحر اللجي دلالة على العمق والاستئثار بالظلمات الثلاثة التي هي القلب والسمع والبصر، وهذه الجوارح الثلاثة إذا غشتها الظلمة تفقد جانبها المضئ وتبقى تتخبط بالضلالة والكفروالعصيان وهذا مثل الكفار الذين تراكمت عليهم الضلالة والشرك والفساد ومن يضله الله فما له من هاد.

-ظلمات البطن قال تعالى (يخلقُكم في بطون أُمهاتكم خَلقًا من بعدِ خَلقٍ في ظلُماتٍ ثلاثٍ ذلكم الله ربكم) الزمر 6

وهذه الاية توضح الظلمات الثلاث في بطن الام والتي تمر بثلاث أطوار هي البطن،الرحم،المشيمة –سبحان الله وقد أثبت العلم صحة هذه الاطوار الثلاثة وهذه الاية تعتبر من روائع الايات الاعجازية.

-ظلمات بطن الحوت قال تعالى (وذا النون إذ ذهبَ مُغاضِبًا فظنَّ أن لن نقدر عليه فنادى في الظُلمات) الانبياء87

والمقصود بهذه الاية الكريمة النبي يونس بن متى حينما التقمه الحوت بعد أن عجز عن هداية قومه فضاق صدره وقد ابتلاه الله بثلاث ظلمات وهي ظلمة البحر والليل وبطن الحوت وقد أقر بظلمه لانه لم يصبر على قومه فقال (لاإله إلا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين) الانبياء87

والحقيقة إن هذه الآية الاعجازية إنما أراد الله بها أن يُري النبي يونس كيف خلقه الله في ظلمة مالها من قرار وكيف أخرجه منها إلى النور بقدرته جلّ وعلا ،ألا تشبه هذه الظلمات الثلاث ظلمات الجنين في بطن أمه؟

هكذا يكون الاعجاز القرآني وهنا تكمن سيميائية كل آية بكل ماتحوي من معان دعانا الله فيها للتدبر (كتاب أنزلناهُ إليكَ مُباركٌ ليدبروا آياتهِ وليتذكر أولو الالباب) ص 29

-ظلمات البر والبحر قال تعالى (أمَّن يَهديكم في ظُلماتِ البر والبحرِ) النمل 63

ثانيا: الظلمات المعنوية وتشمل:

-ظُلمة الشرك والكفر والنفاق قال تعالى (مَثلهم كمثلِ الذي استوقدَ نارًا فلمّا أضاءت ماحولهُ ذَهَبَ اللهُ بنورهِم وَتَرَكَهم في ظُلماتٍ لايبصرون) البقرة 17

-ظلمة الجهل (والذين كذَّبوا بآياتِنا صُمُّ وبُكْمٌ في الظُلمات) الانعام39

إن الظلمات التي ذكرها القرآن الكريم هي كل الامور السوداوية التي تجعل الانسان يقبع في ضلالة مدقعة يتخبط بخطى الظلام يزينها له القرين والنفس الامّارة بالسوء، أما غاية النور في القرآن الكريم فهو نور تام لاظهار حقيقة الاشياء بوضوح فهو نور معنوي وحسّي يشعر به الانسان المؤمن الذي يتخذه صراطا للهداية فيقال (جنة المؤمن في قلبه) وما أروعها من جنة تملأ دنياه وتضمن له الحياة الأبدية في جنان النور.

هذا العلم الغزير والخير الكثير الذي وضعه الله بين أيدينا انما هو نور يستضاء به في الظلمات ،وكل حكم فيه دليل قطعي على صحته ونشأته وتشريعه،هذه الحكمة من التدبر والتأمل انما اتت من دعوتنا الى تدبرها مرة بعد مرة وصولا إلى الادراك والتذكير بنعم الله جل وعلا وعلى رأسها نعمة العقل التي تجعل الانسان يفر ق بين الخير والشر على اسس رسمها الله له لكي يحيا بتقويمه الرائع الذي باهى الله به ملائكته (إذ قالَ ربُكَ للملائِكةِ إنّي خالقٌ بَشرًا من طينٍ فإذا سوّيتهُ وَنَفَختُ فيهِ من روحي فقعوا له ساجدينَ) ص71

ومن بحثنا هذا توصلنا الى حقيقة الظلمات التي حددها الله بثلاث ظلمات وهي كما اسلفنا ظلمة الجنين في بطنه الذي يمر بمراحل ثلاث،وظلمة النبي يونس في بطن الحوت وتحددت ايضا بثلاثٍ،وظلمة الضال التي تغشي جوارحه الثلاث القلب والسمع والبصر.

أن في كتاب الله لنا سفينة نجاة ولنا فيه نورا نستنير به من ظلم الظلمات فالظلم ظلمات واقبح الظلم هو ظلم الأنسان لنفسه عندما يختار طريق الضلالة،في حين إن الله وضع بين أيدينا ميزان عدله واشرق بنوره ليرينا طريق الحق.

فهل يوجد أعظم تكريما للانسان من هذا التكريم لاخراجه من الظلمات الى النور قال تعالى (وأشرقت الأرضَ بنورِ ربَّها ووضعَ الكتابُ) الزمر69

***

مريم لطفي الالوسي – العراق

في المثقف اليوم