قضايا

شهرزاد حمدي ومحمد بهاء الدين: تأمُّلات فلسفية نقدية في الحراك الشعبي الجزائري

 بقلم: شهرزاد حمدي، جامعة محمد لمين دباغين سطيف2.

باحثة دكتوراه تخصّص فلسفة عامة، وأستاذة بجامعة 8 ماي 1945 قالمة.

ومحمد بهاء الدين بوسبحة، جامعة باجي مختار عنابة

الجزائر

***

إنّ أنفع الطُرق وأكثرها ضَمانة لنهاية مُشرقة لأجل الفلسفة إلاّ من تعنّت تعصُّبًا وجُحودًا، هي التفكّر بجدّية في كيفية التدليل على كونها العقل القلِق الناظِر باحتراق واختراق في موضوعات الحياة المُختلفة، فهي ليست من قبيل الألوان الفكرية الطامِعة في تمضية أوقات الفراغ وتسلية الذات المُتسلِّل إليها المَلل، أو أنها تسكُن أبراجًا عاجية مفصولة عن ضَجيج الواقع. بل إنّ الفلسفة حياة بالحياة وللحياة، فالأولى مَدَار إشكالاتها وتحليلاتها النقدية، والثانية هدفها المُعلن دائِمًا؛ فهمًا وتفاعُلاً. ومن بين هذه المدارات الشاهِدة على الحُضور القويّ للفلسفة طيلة تاريخ نشاطها المعرفي والمنهجي، نجد الشقّ السياسي وما يبعث به من ضرورة الاستشكال والاستدلال منطقيًا ومن جوف الواقع. وارتباطًا بالجزائر وما شهدته من حراك شعبي جذب إليه كلّ الأنظار، مُعبِّرا عن نهضة الشُعب وأن تفكيره وضَميره قد استُفِز أخلاقيًا، يستحق أن نتأمّل فيه فلسفيًا نقديًا، لنُبرز إشراقاته وظلاميته، وأن نُخصِّص المقام لإحدى ولايات الجزائر التي أدركت كغيرها زمن الحراك. ولأن الإشكال عصب الفلسفة؛ إذ لا يُمكن الخوض في التحليل والتفصيل ومحاولة النقد والحُكم، من دون سند الأشكلة وشريطة صياغتها باهتمام وانهمام، وعليه: بالاعتماد على التأمّل الفلسفي النقدي، إلى أيّ مَدَى استمر الحراك الشعبي الجزائري في الدِفاع عن جوهر رسالته؟ وماذا عن الفرد العنّابي كواحِد من أبناء الحراك؟

الحراك الشعبي الجزائري والثقافة السياسية، ولادة لم تشهد حياة

بقلم شهرزاد حمدي

مفهوم الثقافة السياسية

كأيّ مفهوم له أصول وإرهاصات أولى، تشكّلت الثقافة السياسية منذ القرن التاسع عشر إلى أواسِط القرن العشرين كلحظة تأسيسية فِعلية، في تركيز على إيلاء أهمية لدور القيم والثقافة في النشاط السياسي، وأن دِراسة المُؤسّسات لا يقتصِر على جانِبها الداخلي، بل تُدرس بموجب علاقتها بالعوامِل الخارجة عنها، أهمّها منظومة القيم والثقافة. وفي سياق الحديث عن الجُهد التأسيسي لمفهوم الثقافة السياسية، يتمّ استدعاء كتاب عالمَي السياسة الأمريكيين "غابرييل ألموند"Gabriel almond  (1911_2002م)، و"سيدني فيربا" Sidney verba (1932_2019م) المُعنون ب: "الثقافة المدنية: المواقف السياسية والديمقراطية في خمس أمم" The civic culture: political attitudes and democracy in five nations، عرّفَا فيه الثقافة السياسة، على أنها المُصطلح الذي يُشير إلى التوجّهات السياسية على وجه الضَبَط تُجاه النظام السياسي بأجزائه المُختلفة، والمواقِف بشأن دور الذات في العالمَ. نتحدث عن ثقافة سياسية مثلمَا نتحدث عن ثقافة اقتصادية أو ثقافة دينية، فهي جُملة من التوجّهات نحو مجموعة خاصّة من الأشياء والعَمليات الاجتماعية، لكنّنا نختار أيضًا الثقافة السياسية، بدلاً من بعض المفاهيم الأخرى، لأنها تمكّننا من استخدام الأطر والمُقاربات التصوّرية لعِلم الأناسة وعِلم الاجتماع وعِلم النفس(1). يُقصد بمفهوم الثقافة السياسية، التوجّهات السياسية إزّاء النظام السياسي القائِم وشكل الحُكم، والمواقِف تُجاه دور الذات وآرائِها. والحديث عن الثقافة السياسية كالحديث عن الثقافة الاقتصادية مثلاً، غير أن اختيار الثقافة السياسية جاء  بسبب أهميتها، فهي مفهوم مُركّب يتألّف من عدّة تخصّصات مُهمّة، تُعنى بالدور الإنساني والاجتماعي والفردي، وهي بهذه الكيفية تُقدِّم قيمة مُعتبرة للقيم والثقافة. يُضاف إلى أن مفهوم الثقافة السياسية يُتيح فرصة استخدام المُقاربات التصوّرية الخاصّة بالعُلوم السالِفة الذِكر، بهدف حُصول فهم أعمق والوصول إلى تفسيرات وتحليلات بشأن التفاعُلات والنشاطات الثقافية بين الشعب والنظام السياسي، من طبيعة، أشكال، عوامِل ونواتِج. ومن منظور "ألموند" Almond و"باول"Powell ، تتكوّن الثقافة السياسية من المواقِف والقيم والمهارات السارِية في جميع السكان، تلك النزعات والأنماط التي يُمكن العثور عليها في أجزاء مُنفصلة من المجتمع(2). إذن، فالثقافة السياسية هي مجموع الآراء والقيم والمواقف والأفكار التي يُعبّر عنها الشعب خِلال تفاعُله ضِمن الحياة السياسية، وهي ترتبِط بجميع الساكِنة المُجتمعية ولا تتعلّق بفرد بعيّنه، فوجودها ضروري ويُمكن إيجاده في أجزاء مُتقطِّعة من المجتمع، لأنها سارية فيه.

جزائرنا نموذجنا، الحَراك الشعبي كثَمرة لثقافة سياسية تراجَعت

بعد رِحلة طويلة من نظام مُستبِد، نهب وسرق وأدخل الشعب في متاهة من التأزيم، كانت مُستمِرة نحو نُقطة أكثر انسدادًا، بسبب فَسَاد الحكومة وتجذّر ذِهنية العُهد المُتوالية، ليكون الاستقلال المُعلن عنه في الخامِس من جويلية 1962م، ليس لحظة تصفية، بل هو انطلاقة جديدة لاستعمار جديد مسعور، فالعدو لم يخرج نهائيًا، وإنَما ترك من يخدمه في الداخِل وهو خارِج الجزائر. طوال فترة من الزمن كان فيها الشعب الجزائري صامِتاً يعيش على وقع الإنذار بقُرب الهاوية، ولا يَعِي ذلك، وحتى وإن حدث وانتبهت شريحة منه إلى خُطورة الوضع، وأن النظام يمتهن لُعبة التمويه، ويُجيد الاستغفال بإحكام، لم تكن قادِرة على المواجهة بمُفردها، فإن فعلت اتُّهِمَت بجريمة تقسيم البلاد وإثارة الفِتن. لكن ولأن الأزمة تنتهي بانفجار، جاء تاريخ 22 من فيفري عام 2019م، ليَحمِل معه شعبًا مُنتفِضًا، مُحاجِجًا ومُناهِضًا، وكأنّه فِكرًا فلسفيًا ثائِرًا ضِدّ الأفكار البالية التي ترأسُ ومن دون وجه حق ولا كفاءة. إنه الحَراك الشعبي الذي انطلق مُعارِضًا لعُهدة خامسة للرئيس المخلوع، الراحِل "عبد العزيز بوتفليقة"Abedlaziz bouteflika  (1937_2021م)، من ثم تصاعد منسوب الرفض، وكانت المُراقبة فاعِلة والمُعاقبة حاضِرة بضرورة إزالة كلّ شائِبة من شوائِب النظام السابِق تحت شعار: "يتنحاو قاع"، كتعبير من اللهجة الجزائرية يُرادِفه في اللغة العربية: "رحيل الجميع". وما ميّز الحَراك الشعبي الجزائري أنه كان سلميًا عبّر عن مطلبه بكلّ حضارية، وكان مُطّردًا اختار النُزول إلى الشارع كلّ يوم جمعة، فكُنّا نحن الجزائريون أمام لحظة تاريخية مفصلية لم نشهدها من قبل، خِلال فترة النظام الذي خرج الحَراك ضِدّه. ولقد أبان الحَراك الشعبي في تِلك الفترة الزمنية عن ثقافة سياسية خاصّة به، تجلّت في تلقائيته واندفاعه الحُرّ من دون تأطير ولا اختيار لقادة له، وفي الإصرار الكبير على تقديم المطالب بكلّ سلمية بعيدًا عن التعنيف والتكسير والتدمير، على الرغم من انتهاج الدولة للعُنف وسجن بعض أبناء الحَراك، وفي شُمولية الوعي بالخروج والانتفاضة، فكانت كلّ ولاية من ولايات الجزائر تشهد جمعة الحَراك، وحتى الطلبة في الجامعات كانوا يُندِّدون بتنحية النظام الفاسِد واختاروا يوم الثلاثاء. إنها ثقافة سياسية جزائرية، تضمّنت قيم ومواقِف وآراء، أثّمرت عن انبثاق الحَراك الشعبي، الذي حمِل روح فلسفية عالية، سواء على مُستوى النظر؛ بمعنى المبادئ التي انطلق منها كالوعي، النقد، التغيير والثورة، وعلى مُستوى العَمل؛ أيّ تجسيد تِلك المبادئ في السُلوك. غير أن هذه الثمرة "الحَراك الشعبي" المُتمخِّضة عن ثقافة سياسية، تراجَعت وانطفأت جذوة نارها؛ وذلك بِداية بتحوّل الطلب من مطلب رئيسي للشعب إلى مطالب فِئوية، فهُناك من دخل الحَراك من بوابّة الزيادة في الأجور، تحسين أوضاع بعض القطاعات كالصّحة والتعليم، وهي مطالب شرعية، ولكن لا الزمان ولا المكان مُناسِبين، ثمّ إن مُناسَبة الحَراك كانت لأجل وقف تيار النظام الفاسِد وطَمعه في استمرار القمع والقهر، بما أن مصالحه جارِية، بالإضافة إلى بُروز بعض الشخصيات التي أرادت أن تترأّسَ الحَراك وتُؤطِّره. سوف نفهم أنه بحاجة إلى تنظيم، ولكن جوهر الحَراك في اندفاعيته الحُرّة وكأن كل فرد من أفراد الشعب قائِد له، واليوم لم نعد نرى خُروج الشعب إلى الشارع ورفع اللافتات والتعبير عن رفضه المُتواصل لأيّ شكل من أشكال الفَساد الحُكومي، بل على النقيض تم تنميطه مُجدّدًا، وإخراسِه، من ذلك، الإعلان الدائِم عن غَلاء المعيشة، ونُدرة مواد المائِدة كالزيت والدقيق، في حين أنه احتكار وسلب لوعي الشعب في ربط همومه بهمّ البطن لا أكثر، حتى لا يستيقِظ عقله ويُفكِّر في توفير حاجيات أخرى تتعدّى الأكل والشرب أو مُشكلة النقل، هي سياسة السُلطة والبطن، واختزال البحث في الجانب البيولوجي، فكيف لشعبٍ ينهض يوميًا والنهوض هُنا من نوم الليل وليس من نوم الغفلة، على أخبار نُدرة الزيت والدقيق، أن ينخرِط نقديًا في الحياة السياسية؟ وكيف له أن يُزيل الغِطاء وهو مُكبّل بسياج حِفظ البقاء؟ والحقّ أن المُتّهم ثُنائي، هي الدولة بمُمارساتها المُريدة لإحلال ذهنية شعبية موصولة تحتيًا، والشعب أيضًا بقبوله الوضع والمُشاركة في استمراريته حتى من دون وجه دِراية. والنتيجة كان بالإمكان أن يكون الحَراك الشعبي الجزائري صورة حيّة لا تموت عن قيمة الثقافة السياسية وبالتحديد حينمَا تأتي مُستقلة مدعومة بوعي واستيعاب، فلقد كان ولكنه لم يزِل في انتظار المستقبل القريب وما يُدري العقل الباحِث سوى نتائج بحثه الآنية؛ لأن الاستشراف مكانه المُحتمل واللامُحتمل لا يغيب.

***

عنابيون

بقلم: محمد بهاء الدين بوسبحة

منذ نجاح الهدف الأول للحراك الجزائري، والذي هو إزاحة الرئيس "عبد العزيز بوتفليقة"، ومنعه من المكوث رئيسًا للأبد لهذا البلد الواسع جغرافيًا، تشهد أغلب الولايات الجزائرية تقدّمًا لا بأس به في كل المجالات تقريبًا، من الناحية الاقتصادية، من الناحية الصحية، من الناحية التعليمية، وحتى من الناحية السياسية، واعتبارًا للاحتجاجات التي كانت تحدث في عهد الرئيس "بوتفليقة" فنحن لا نرى الآن تقريبًا أي نوع من تلك الاحتجاجات، كل هذا يبدو مُطمئنًا حتى الآن، لكن الفرد الذي يتنقل في ولايات هذا البلد يلاحظ أن ثمة تفاوتات واضحة في الحقوق المقدمة لمواطني كل ولاية، وربما قد تملكتني بعض العاطفة قبل كتابة هذا المقال لمَدَى البؤس الذي رأيته في الولاية التي نشأت بها، ولاية عنابةAnnaba ، فالملاحظ أن هذه الولاية وسكانها قد تم تهميشهم من كل مخطط للتقدم، ليس هذا فحسب، وإنما بدأت تظهر بعض بوادر العنصرية تجاه سكان هاته الولاية، ليست عنصرية بسبب الجنس، أو اللون، وإنما بسبب طبيعة الفكر الذي يحكم هاته الولاية، والحق يقال: فسكان مدينة عنابة قد تخلّفوا عن باقي الولايات -وخاصة ولايات الوسط والغرب- في احتضان أوجه الثقافة العصرية، وقد يقول الكثيرون منهم أن هذا من حسن حظهم، طبعًا من نظرة -شبه دينية-، إلا أن الحقيقة أن هذا أسوأ ما يمكن أن يحدث، فيمكن لأي شخص أن يلاحظ مَدَى تخلّف سكان هذه المدينة في أهم أساسيات الثقافة الجديدة، سواء في مجال المعلوماتية، أو التجارة، أو التعليم، أو السياسة، أو في أي مجال آخر، وقد صار اليوم سكان مدينة عنابة يلقبون من سكان الولايات الأخرى بالمتخلّفين، والمساجين، والمُحتالين، و"الموسوسين": والتي تعني الشخص الذي لا يتقبل أي أحد آخر، وما إلى ذلك، أمّا عن سكان هذه المدينة، فقد أظهروا حقيقة كل هذه الكلمات واحدة تلو الأخرى، بأفعالهم غير مفهومة بتاتًا، فالعنابي اليوم لا يبدي أي تقبّل لأي فرد خارج ولايته الصغيرة، أما داخل الولاية: فكل عنابي يريد النجاة بنفسه عن طريق قتل العنابيين الآخرين.

يستيقظ العنّابي كل يوم، وهو يفكر بكيفية قضاء يومه –أو القضاء على يومه-، سواء كان عاملاً أو عاطلاً عن العمل، أو طالبًا أو أستاذًا، فالسؤال هذا سيتبادر إلى ذهنه بلا شك، وبنفس القدر من الأهمية، فمشكلته لا تتمثل في قضاء الوقت فقط، بل في القدرة على قضاء هذا الوقت، ولابد هنا أن نشير إلى أن سبب هذا السؤال ليس الوقت نفسه، بل ما سيتلقاه إبان هذا الوقت، هذا ما يجعل من كل يوم عسير جدًا عليه، فأغلب مشاكل العنابي، إن لم نقل كلها، هي مشاكل اجتماعية، مشاكل تتعلق بالمجتمع الذي يعيش وسطه، وطبعًا فكل فرد في هذا المجتمع يرى أن الجحيم هو المجتمع، أو على حد تعبير سارتر "فالجحيم هو الآخرون"، إن عقل العنابي يكاد يولد مبرمجًا بهذه الفكرة، ولو جبت يومًا واحدًا في المدينة تتحدث إلى هذا وذاك، للاحظت أن كل فرد يعلن بصراحة بأن مجتمع المدينة هذه، هو المجتمع الأسوأ بين كل مجتمعات العالَم، وهل لك أن تخبره بأن هذا الكلام ينطبق عليه أيضًا، بصفته فردًا من هذا المجتمع؟ طبعًا لا.

عبر العالَم، تجري ثورة هائلة في مجال التكنولوجيا، حتى أنه يمكنك القول إنها بنفس القيمة مع الثورة الصناعية التي حدثت في أوروبا العصر الحديث، إننا نسجل اختراعًا أو اكتشافًا كل يوم على الأقل في مجال التكنولوجيا، ولازال هذا العلم يحمل في طياته الكثير من الأمور المجهولة، حتى أن التكنولوجيا قد صارت بطريقة ما، تمثل العلم كله، وصارت علوم كبرى، كالرياضيات والفيزياء مثلاً، في نفس موضع الفلسفة في القرون القليلة الماضية، مع كل هذه الأحداث والتطورات في العالَم، نجد العنابي لا يزال يفكر في كيفية قضاء يومه، من نظرة فيزيائية بحتة، يمكننا القول بصريح العبارة أن المجتمع العنابي في حالة عطالة، لكن السؤال هنا، هل يكفي العنابي وجود قوة خارجية تأثر عليه ليتحرك؟ لو لم نكن قد رأينا بالفعل تجارب لهذا الأمر، لتفاءلنا كثيرًا، وقلنا أنه ربما ينجح ذلك، لكن التجارب التي مرت، تفسر لنا أكثر من أي أمر آخر، أن الخلل في العنابي ليس فيزيائيا فقط، بل إن العنابي عاطل نفسيًا، وعقليًا أيضًا.

بدأ الحراك الجزائري في الثاني والعشرين من شهر فيفري 2019، ومعه بدأ أمل جديد للشعب، حيث شهدت تقريبًا كل ولايات الوطن تظاهرات ضخمة في شوارعها، ترفض ترشح الرئيس السابق "بوتفليقة" من الترشح للعهدة الخامسة، حيث حكم الأخير البلاد قرابة العشرين سنة، كان الشعب يندد بحراك سلمي، لا يريد أحد تكرار ما حدث في سنوات التسعينات من القرن الماضي، حيث صار الموت صاحب كل جزائري، ولم يكن أحد يُؤمن أن يعيش لليوم التالي، وقد زاد الأمل في تحقيق هذا الحراك السلمي في العاشر من مارس من نفس السنة، حيث خاطب رئيس أركان الجيش "قايد صالح" الشعب قائلاً إنه يقف في صفوف المتظاهرين، وأن الجيش هو ابن الشعب، وأنهما يتشاطران القيم نفسها.

لم يطل الأمر كثيرًا، فبعد خطاب "القايد صالح" بيوم واحد، أعلن الرئيس السابق "بوتفليقة" انسحابه من الترشح للعهدة الخامسة، وبالتالي حقق الشعب غايته الأسمى والأولى من حراكه، لكن، هل توقف الحراك بعد ذلك؟ طبعًا لا، كان الوعي الجمعي للشعب الجزائري آن ذاك يستمر في التطور شيئًا فشيئًا، فقد عَلِم الشعب أن "بوتفليقة" لم يكن هدفه الوحيد منذ البداية، إنما كل من كان ينتمي إلى ما سُمّي بـ: "العصابة"، ويقصد بها كل من ينتمي إلى النظام القديم، والذي يتفق كل الشعب الجزائري على أنه سبب تخلّف ودمار هذا البلد.

استمر الحراك أسبوعًا بعد أسبوع، كان ثمة استمرارية واضحة في عدد الجماهير المتظاهرة، لكن، لم تكن الاستمرارية في المطالب نفسها، فكل من شارك في الحراك يمكنه أن يخبرك أن الثورة قد تحولت إلى احتفال، تحديدًا بعد عزوف الرئيس السابق عن الترشح للعهدة الخامسة، فخروجك للحراك أصبح يقتضي عليك أن تحمل هاتفًا جيّدًا للتصوير، وأن تحفظ بعض الأغاني التي كانت تتغنّى بها الجماهير في الملاعب الجزائرية، وأصبح هناك تنافس واضح في إبداع لافتات جديدة، حتى إن كانت لا تمت للحراك بصِلة، وأصبح كل من هبّ ودبّ يحاول قيادة الشعب للمطالب القادمة، كما رأينا أيضًا العديد من الوجوه المعروفة أو غير المعروفة تحاول الوصول لكرسي الرئاسة، وصار استعطاف الجماهير مهنة لهم، وقد تفنّنوا فيها على كل حال، بعبارات كـ: "البطل الوحيد هو الشعب!"، "ألقوا الثورة للشارع فسيحتضنها الشعب!"... وغيرها من العبارات المُلفتة للنظر، والتي تعطي الشعب الثقة في نفسه على أنه الحاكم الوحيد للبلد.

وبعد أسابيع قليلة، صار من السهل أن تلاحظ مَدَى انحراف الشعب عن مساره الأول، أي عن الثورة، ويمكن القول، أن الحراك ليس سوى الأربع أسابيع الأولى، وأن كل ما حدث بعد ذلك لم يكن سوى تظاهرات سلمية يقوم بها الشعب ليُروّح عن نفسه بعد نهاية أسبوع عمل طويل، وقد انتهى الحراك ببداية حقبة جديدة في العالَم، حقبة فيروس كورونا، والطريقة التي انتهى بها، أكدت بأن نهايته كانت بعد أقل من شهر من بدايته.

تم انتخاب رئيس جديد للبلاد، قرر أغلب الشعب في البداية أن يعزفوا عن الترشح، وذلك بسبب أن المُترشحين الخمسة لم يكونوا ممن أرادهم الشعب حقًا ليحكموا هذا البلد الكبير، لكن ما بليد حيلة، وقرر الشعب بعد ذلك أن يختاروا أحد هؤلاء الخمسة، وكان "عبد المجيد تبون" هو قرار الشعب الأول، وبالفعل فقد فاز بالعدد الأكبر من الأصوات، ومعه بدأت قصة جديدة لهذا البلد، ولهذا الشعب.

كان للرئيس الجديد "تبون" قصة سياسية مُغرية بالنسبة لشعب عانى الأمرين من قبل النظام القديم، وبالطبع فالقصة وحدها لا تكفي لنيل إعجاب الشعب، بل إن الخطابات التي قام بها الرئيس الجديد مُلفتة للنظر، وباعثة على الأمل، وبالرغم من أن بعضها كان يصرح بوضوح على حقبة صعبة تلوح في الأفق، وعلى تحدٍّ جديد لهذا الشعب، إلا أن الكثيرين، تحديدًا من ولايتنا هذه لم يلاحظ ذلك، وهو أحد الأسباب في الواقع الذي جعلت من العنابيين يتخلّفون في الركب عن الولايات الأخرى، ففي إحدى الخطابات الرئاسية التي قام بها " تبون" للشعب الجزائري، يقول بصريح العبارة: "لي حاب يخدم يشمّر على ذراعه!"، فليس هنالك حتى مجال لتحليل مثل هذه العبارة، ببساطة شديدة، يخبر الرئيس شعبه، أنه في حالة تخلّف عن الركب، فإن ذلك بسبب عدم استعداده، والحق يقال، فإن الرئيس الجديد يقوم ببعض التغييرات التي من شأنها أن تغير ولو قليلاً جدًا من مصير هذه البلاد، ولعلّ هذا سيتضح أكثر لو سئلت سكان الولايات الوسطى، الغربية، وكذا بعض سكان الولايات الصحراوية، ولو أن الشرق يعاني بعض التهميش كمَا هي الحال دائمًا، إلا أن النظرة العامّة للوضع تجعلنا نرى النُقص فينا كشعب أكثر من أي سبب آخر ممكن.

إن أفضل القرارات التي جاء بها الرئيس الجديد هو بالتأكيد إطلاق وزارة المؤسسات الناشئة، فنحن نلاحظ مَدَى فعالية هذه الوزارة في إنماء الاقتصاد الوطني، وليس مهمَا حاليًا رؤية أرقام كبيرة، بل ما يهم حقًا أن ترى بعض الشباب الجزائري وهو يتحول إلى نموذج القيادة المعاصر، ولا يهم ما تنتجه هذه المؤسسات أو الخدمة التي تقدمها، بل ما يهم هو الطريقة التي تنتهجها هذه المؤسسات، والطريقة التي أنشأت بها، وكيف صارت الدولة تستثمر في أفكار شعبها، فما كنا نراه سابقا في عهد الرئيس القديم من هجرة الشباب وموت الأفكار العظيمة قد بدأ على الأقل بالتناقص، وصرنا نرى تنافسًا احترافيًا واضحًا بين هذه المؤسسات بين بعضها البعض، سواء في تقديم منتج حصري، أو خدمة أفضل، وما إلى ذلك.

وبين كل هذه الأحداث، وهذه التطورات، نجد العنابي قد بدأ يُنمّي شيئًا فشيئًا وعيه بمَدَى تخلفه عن كل ما يحدث، ولسنا على يقين مما سيحدث بعد ذلك، هل ستكون ثورة داخلية لهذا الشعب، يظهر من خلالها أنه هو الآخر قادر على تغيير مصير هذا البلد؟ أم هل سيكتفي العنابي بمشاهدة هذه الأحداث من بعد، منتظرًا مجيء أحد ما، شيء ما، حدث ما، يجعله يتحرك أخيرًا؟ أم هل سيبقى هذا الشعب مصرًا على الاستمرار في حالة العطالة هذه، مُلقيًا كل انتباهه وتركيزه على الأخطاء التي ترتكبها الدولة، مُتناسيًا بذلك أن التغيير لا يكون من داخل الذات نفسها؟ وتبقى كل هذه التساؤلات بلا إجابة، فالوحيد الذي يمكنه الإجابة عنها هو الشعب العنابي نفسه، وبدِقّة أكثر: الفرد العنابي نفسه.

وبهذا القدر، تأمّلت الفلسفة نقديًا في الحراك الشعبي الجزائري، مُبرِزة أنه يستحِق التفاتتها النقدية بما تضمّنه من قيم وما طاله من تحوّلات استدعت حُضورها بالمُعاينة والمُناقشة. والسؤال المطروح: كيف سيكون الحراك إذا عاد مُجدّدًا؟ هل سيفتح المجال مرة ثانية لإقامة تأمّلات فلسفية نقدية بشأنه؟ وهل سيشهد ذات المَسارات أم سيتّخذ خِلافها؟

***

.....................

الهوامش:

(1)   Almond, g, Verba, s, the civic culture, political attitudes and democracy in five nations, London, library of congress catalog, printed in the united states of America, 1989, p 12.

(2)   Aparajita, topic: political culture, rambagh, bihta, patliputra university, G.J.College, department of political science, p 2.

 

في المثقف اليوم