قضايا

مصدق الحبيب: في نظرية الفن (2): پولينييه والتكعيبية

جيوما پولينييه Guillaume Apollinaire (1880 – 1918) شاعر وكاتب وناقد فني يعتبر من اهم الادباء في جيل الرواد الطليعيين Avant-Garde، وابرز من أسسوا للثقافة الفرنسية الجديدة التي تبلورت في مطلع القرن العشرين. وهو أول من بدأ التنظير في الفن الحديث فكتب عن التكعيبية وهي ما تزال في المهد.

فيما يلي مقتطفات مختارة من اهم ثلاثة نصوص كتبها پولينييه عن الفن الحديث والتكعيبية بين 1911 و1913. وهي النصوص التي تضمنها كتاب Art in Theory: An Anthology of Changing Ideas 1900-2000 الذي حرره چارلس هاريسن و پول وود والمنشور من قبل مؤسسة بلاكويل عام 2003.

ولابد لي في البدء أن اقول بأنه كان صعبا علي ان ارى بأن ما كتبه پولينييه يعتبر من قبيل النظرية، كما اشيع خلال اكثر من قرن من الزمن! إذ ان تصريحاته الوصفية المنطوية على العاطفة واللغة الشعرية لم تتح المجال لتأسيس اي قواعد نظرية، ولم تحتو على أي تحليل علمي، في اعتقادي. ولكن يبدو لي ان المقصود بالـ "نظرية" هو "الرأي"! وهذا هو الاستعمال الشائع للكلمة، فنقول مثلا "ماهي نظرية فلان في هذا الحادث" أو كما يسأل الحاكم "ماهي نظريتك في الدفاع عن نفسك". بهذا المعنى، نعم، اقول ان هذه هي آراء پولينييه، وليس نظرياته. فالاكاديميون الذين يبحثون فيما كتبه الاوائل عن نظرية بمعناها العلمي، لا يجدونها.

النص الاول هنا هو مقالة پولينييه الموسومة "التكعيبيون" المنشورة في : L’Intransigentالباريسية في العاشر من اكتوبرعام 1911.

كان تركيزه في هذا النص على التمييز بين الخصائص النوعية للتكعيبية بالمقارنة بمدارس فنية معاصرة كالانطباعية والوحشية. يرى پولينييه ان التكعيبية ليست صرعة فنية طارئة، انما مدرسة رصينة لم تتخل عن المبادئ الفنية الاولى المستندة على الخط والكتلة والفراغ واللون والانشاء. ولو انها كانت برغم تمسكها بتلك الجذور صدمة للمتلقي الذي تعود ان يرى الاعمال الانطباعية بهارمونيتها الساحرة ودقة وانسجام تفاصيلها. فها هو الآن امام تناوب السطوح بين الظل والنور حيث يفرض خيال الفنان حضوره المتميز من دون حشر اللوحة بالتفاصيل الفوتوغرافية ولا بخزعبلات الفن المفرط بحداثته الثورية. ان هذه المدرسة الجديدة ستمثل تيارا جادا ونبيلا ومؤهلا لطرح الاعمال المذهلة التي لم يخطر على بال الانطباعيين او الوحشيين اعتبارها. ويضيف: سأذهب ابعد من ذلك لأقول ان هذه التكعيبية هي اكثرالمدارس الفنية فخامة وتهذيبا في مسيرة الفن الفرنسي.

النص الثاني هو مقالته الموسومة "حول الموضوع في الفن الحديث" المنشورة في Les Soirees de Paris في شباط عام 1912.

يعتقد پولينييه انه طالما بدت التكعيبية وكأنها بداية الطريق للتجريدية، فان ذلك أجاز لموضوع اللوحة ان يحضر أو يغيب. وحتى في حضوره المحدد فان عنوان العمل قد يصف الموضوع او لا يصفه، وقد لاينطبق بالضرورة على مانراه في سطح اللوحة. ومن هذا المدخل نستطيع ان نتبين نزوع بعض الفنانين لاستخدام عناوين شعرية مثيرة لا علاقة لها بالمحتوى، أو عناوين عامة بديهية كأن يكون عنوان اللوحة "كرسي" أو "كتاب على منضدة" من دون ان يرى المتلقي اي اشارة بصرية للكرسي او الكتاب والمنضدة.

يفخر پولينييه بالتكعيبية بانها المدرسة التي تقدم لنا فنا، تماما غير الذي كان، خاصة بمعنى الاقلاع عن ما يحاكي الواقع الفيزياوي. وبذلك فلم تعد متعة المتلقي، كما كانت تجاه اعمال الفنانين الاوائل، مقرونة بطبيعة خلابة قد تكون ازهى واجمل من الواقع، أو نساء عاريات تقترب اجسادهن الى كمال الملائكة، أو تفاصيل مدروزة ومصقولة باعلى درجات الحرفة. فالفن الحديث بهذا المعنى وخصوصا التكعيبية معنية بان تقدم للمتلقي فنا اجردا متقشفا منزوعا من التزويق وخال من الزينة. ويعتقد بأن مثل هذا التجرد والغموض هو سبب تصاعد شعبية التكعيبية بين طبقات المجتمع الراقية، ذلك ان واقعية الفن بمواضيعه الواضحة ومعانيه المدروسة المؤثرة اصبحت في عداد الماضي وبقيت تثير الجمهور الذي لايتطلع الى التغيير. ويضيف بانه اذا كان المتلقي اليوم يبحث عن امتاع عينه واشباع جوارحه بما يتوقع ان يوفره الفن، فان عليه ان يبحث مليا الآن عن منابع اخرى للامتاع ليجد ضالته في التكوينات التكعيبية الساحرة. وهذه هي مهمته الجديدة، ولا خوف على الطبيعة والواقع الذي يعكسها لانها ستبقى مشرعة الابواب كمصدر اولي للامتاع.3421 نظرية الفن

التكعيبية فن نقي نبيل! يعيد هذه العبارة مرارا وتكرارا ويقصد انه فن خال من الزوائد والشوائب والمتعلقات، ويشبهه بالموسيقى باعتبارها الفن عالي المقام الذي يثير حواسنا ويهيج عواطفنا دون ان نشعر بالحاجة لوجود موضوع او معنى او اي شئ يحاكي الطبيعة ويعيد صورة الواقع. ويتوقع ان ينتشر هذا الفن الجديد ويطغي على الحيا ة الثقافية لكنه سوف لن ينبذ الطبيعة واستلهام الواقع ولا يتسبب باندثار الفن التقليدي. ذلك انه مجرد طعم جديد لمتعة الفن مثل طعم التدخين بعد الاكل بالنسبة للمدخن.

ويعرج على استحدام التكوينات الهندسية التي تميز التكعيبية والتي كانت موضوع انتقاد من قبل الجمهور الاول. يؤكد ان التكعيبيين، بالرغم من عملهم الدقيق كعمل خبراء الرياضيات، لايطمحون ان ينافسوا او يغيروا من هندسة اقليدس Euclidean Geometry لكنهم يوظفونها كما يوظف الكتاب والشعراء قواعد النحو في نتاجاتهم. انهم يستخدمونها للتعامل مع فضاء اللوحة من اجل تنغيم انشائها. وهم في ذلك يتحلون بالعناية والدقة والحذر كما يعمل الطبيب في تشريح الجثة. ويذهب ابعد من ذلك فيقول ما معناه ان التكعيبية في توظيفها للتكوينات الهندسية تتسامى الى عالم لا نهاية له. انها تتخطى استخدام الابعاد الثلاثة وتسمو الى بعد رابع فتصبح تناسبات الاجسام في الانشاء الفني غير ما هي عليه في الواقع الفيزياوي. بعبارة اخرى يصبح التناسب مركّزا وعقليا بدلا من كونه حسيا وعاطفيا كما نحسه في الرسم التقليدي. أي الانتقال بنسب الاشكال من التصوير الحرفي الى عالم آخر مفترض! وبهذا يتسع التعبير عن الاشياء الى ما لا نهاية له من تجسيدات تشكيلية. ويكرر بان الفنانين المجددين لايحصرون تصوراتهم في صندوق الابعاد الفيزياوية الثلاثة الضيق، بل لابد لهم من التحليق عاليا والامساك بالبعد الرابع.

المنشور الثالث هو كتاب پولينييه الشامل الموسومCubistes Meditations Esthetiques: Les Pentres المنشور عام 1913.

في هذا الكتاب يعود پولينييه لموضوعة الواقع فيؤكد اولا ان التكعيبية تختلف عن بقية المدارس بانها ترفض تصوير الواقع كما هو بل تميل ان تكون نتاجاتها مفاهيمية خلاقة. فحين يقوم الرسام بتكعيب قسمات المشهد، سوف لن يكون بالضرورة ان يظهر المشهد كما هو عليه! وهنا يكمن فعل الخلق والابداع. أي ان الرسام يقدم المشهد بمفهومه الخاص الذي يختلف ظاهريا عن المشهد كما نراه.

ويواصل ليميز بين انواع مختلفة من التكعيبية:

التكعيبية العلمية Scientific Cubism

التي يصفها بانها انقى صنوف هذه المدرسة التي تتلخص برسم المشهد ببناء جديد ولكن باستخدام عناصر مأخوذة من المشهد، ليس بواقعيتها، انما بالهيئة التي يتصورها الرسام ذاتيا. وهذه العناصر التي يستعيرها الرسام كمواد ضرورية لتشكيل البناء الجديد هي التي تسهم في تمثيل جوهر ذلك المشهد. وما نرى من تشكيلات هندسية ماهي الا اشارة لذلك الجوهر.

التكعيبية الفيزياوية Physical Cubism

هي التي تبقى مخلصة للطبيعة الفيزياوية للمشهد فتستعير العناصر التي تحتاجها من الواقع البصري للاشياء. وهنا يعتقد پولينييه ان هذا الصنف لا يحقق النقاء الكافي الذي تسعى اليه التكعيبية العلمية.

التكعيبية الأورفية Orphic Cubism

نسبة الى الاله الاغريقي أورفيوس Orpheus وهي التي يعمد فيها الفنان لصنع تلك العناصر بدلا من استعارتها من الواقع البصري او المفاهيمي. وهي بذلك، حسب مذهب پولينييه، فن نقي صافي كما تهدف اليه التكعيبية الاصيلة. وهذا الصنف له القدرة على ان يمنح المتلقي متعة فنية مباشرة وعظيمة.

التكعيبية الحدسية Instinctive Cubism

هنا لايميل الفنان الى استعارة عناصر بناء المشهد التكعيبي، لا من الواقع الظاهري ولا المتخيل، انما يعتمد الفنان على حدسه وبديهته وامكاناته الغريزية لهضم المشهد وتحليله لعناصره الاولية واعادة تشكيله بما يراه الفنان مناسبا. قد يفتقر هذا الصنف الى المذهب الجمالي الذي يربطه ببناء التكعيبية الاصيل.

وينتهز پولينييه هذه الفرصة ليقول : التكعيبية تتطلب النظرة الجمالية المثالية التي تقدم نفسها بجرأة وهي تقطع وشائج الصلة بالواقع الفيزياوي للاشياء. ويؤكد مرة اخرى بانها فن نبيل مفعم بطاقة الفنان الشجاع الخلاقة، ويصفها بانها فن النور المتوهج. يدرج پولينييه الرسامين الذين يراهم أعمدة التكعيبية الاساسيين. فيما يلي الرعيل الاول كما يراه پولينييه:

- پابلو پيكاسو Pablo Picasso

يصف پولينييه بيكاسو مرة اخرى بالطبيب الذي يدرس تضاريس الجسم قبل تشريحه. ويقول انه رغم ميله لتسطيح الاشياء فانه يبني تلك السطوح المستوية بطريقة شاملة لتظهر وكأنها اشياء مجسمة ذات احجام مختلفة.

- جورج براك Georges Braque

يقول عنه ان هذا الفنان الملائكي الشجاع هو أول من استخدم الطابع الهندسي Geometrical للاشياء عام 1908، والذي كان متناغما مع حالة المجتمع آنذاك، فكان فنه معبرا عن الرقة والهدوء، جميل ومشع كاللؤلؤ.

- جان متزنگر Jean Metzinger

يصفه پولينييه بأنه التكعيبي الثالث بعد بيكاسو وبراك. ويقول انه فنان رائع لم يعطه الجمهور حقه المستحق. يمتاز بتصميمه الساحر وانشائه المتقن وتميزه بتضاد الظل والنور.انه ثمرة المنطق الدقيق الذي اعطانا فنا نقيا خال من كل غموض او تشويش ومفعم بالضوء والوضوح.

- ألبرت گليسز Albert Gleizes

يصف پولينييه هذا الرسام بأنه فنان الانسجام الجبار ذي السطوة الآسرة الذي يرسم بعقل وتبصر في فنه الجديد الذي يريد له ان يعود الى المبادئ الاولية بتكوين ساحر ذي جلال دراماتيكي.

- هوان كرس Juan Gris

وهذا هو فنان التكوينات العلمية الذكية التي تجسد ذلك الصفاء والنقاء الذي تنشده وتتميز به هذه المدرسة الجديدة.

- فرناند ليجيه Fernand Leger

يقول پولينييه "احب هذا الفنان الموهوب" الذي يقدم اعمالا جدية لاتستكين للتأثيرات الهابطة ولاتعتذر عن جرأتها وشجاعتها.

- فرانسز پيكابيا Francis Pikabia

تشكل اعمال هذا الفنان انتقالة منيرة وهي لاتنشد الترميز للموضوعات ولا تأبه بمعانيها ودلالاتها، بل تعتبر اللون هو البعد المثالي للتشكيل.

- مارسيل دوشامپ Marcel DuChamp

هذا هو الفنان المصر على قطع الوشائج مع الفن التقليدي لكنه يستخدم الفورم واللون، ليس لمحاكا ة أي شكل في الواقع، انما لاختراق جوهر الاشياء من أجل ان يضعه على الكانفس مع تجرده الكامل عن المفاهيم التي سبق ان ترسخت في ملكة عقله.

***

ا. د. مصدق الحبيب

في المثقف اليوم