قضايا

محمد محفوظ: الإسلام والإنسان

في خضم الصراعات والنزاعات الكبرى التي تعاني منها البشرية اليوم. وفي ظل الحروب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تنتاب العديد من مناطق العالم البشري. من الضروري أن نتساءل: كيف لنا في هذا الجو المحموم، أن نبدع ثقافة حوارية، تساهم في تطورنا الروحي والإنساني والحضاري. كيف لنا أن نطور ثقافة البناء والإصلاح في عالم يمور بالنزاعات والحروب.

ونحن حينما نتساءل هذه الأسئلة المحورية، لا نجنح إلى الخيال والتمني، ولا نتجاوز المعطيات الواقعية، وإنما نرى أن الخروج من نفق الحروب والنزاعات ومتوالياتهما النفسية والاجتماعية، لا يتم إلا بتوطيد أركان ثقافة الإصلاح والحوار والتوازن. ولا بد من إدراك أن هذه الثقافة، ليست حلاً سحرياً للمشكلات والأزمات، وإنما هي الخطوة الأولى لعلاج المشكلات بشكل صحيح وسليم.

فالعنف المستشري في حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، لا يمكن مقابلته بالعنف، لأن هذا يدخل الجميع في أتون العنف ومتوالياته الخطيرة. ولكن نقابله بالمزيد من الحوار والإصلاح في أوضاعنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي تساهم بشكل أو بآخر في تغذية قوافل العنف والقتل والتطرف بالمزيد من الأفكار والتبريرات والمسوغات.

فالاختناقات المجتمعية، تؤدي لا شك إلى بروز حالات من العنف ومظاهر الانحراف والجريمة. وعلاج هذه المظاهر، لا يتم إلا بعلاج البيئة التي أخصبت هذه المظاهر، وهي بيئة مغلقة، تصادمية، تشاؤمية، ذات نسق تعصبي.

فالتعصب يؤدي إلى العنف، والتزمت يفضي إلى الانغلاق والانطواء والانحباس. ولا علاج إلى العنف إلا بتفكيك نظام وثقافة التعصب، ولا علاج إلى التزمت إلا بالمزيد من الحوار، ونبذ الأحكام المطلقة، وتأسيس قواعد موضوعية للتعارف الفكري والمعرفي.

وثمة مفكرون، حاولوا أن يقدموا إجاباتهم ومشروعاتهم الفكرية والثقافية حول هذه الأزمات والإشكاليات..

ومن هؤلاء الصديق الدكتور عبد الجبار الرفاعي، الذي عمل عبر عطاءاته الفكرية المتعددة وجهوده الإصلاحية المتنوعة، على تقديم رؤيته لمعالجة هذا الواقع المريض بأمراض الاستبداد والتعصب والعنف..

وحين التأمل والتعمق في مؤلفات الأستاذ الرفاعي وأبحاثه المتعددة، نجد أن الأستاذ الرفاعي مهموم بهمي أساسيين وهما: هم الإسلام وهم الإنسان.. بحيث يرى أن الإسلام بالمعنى المعياري هو عبارة عن طاقة روحية وفكرية هائلة، ولكن هذه الطاقة لم تمارس فعلها الحضاري في بيئتنا العربية والإسلامية، من جراء مناهج النظر والتفكير ومتواليات ظاهرة الاستبداد التي سادت المنطقة العربية والإسلامية خلال عقود مديدة، مما أفضى إلى تشوهات فكرية وثقافية ومجتمعية، أدت إلى جمود مجتمعاتنا وغيابها عن المبادرة والفعالية الحضارية.. لذلك يعمل الاستاذ الرفاعي في أبحاثه ودراساته على تأهيل فكرة التجديد والتنوير، ويلح على تجاوز المتواليات النفسية والاجتماعية والفكرية لظاهرة التخلف الحضاري، حتى يتسنى لمجتمعاتنا العربية والإسلامية الانطلاق في مشروع النهضة والتقدم.. وحتى تستند هذه المجتمعات في مشوارها الحضاري على طاقة الإسلام التحررية والتنويرية في آن. ويوضح الدكتور الرفاعي هذه المسألة بقوله (أراد القرآن للتوحيد أن يكون صبغة لسائر مرافق حياة الإنسان (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة) (سورة البقرة، الآية 138)، بمعنى أن تفكير الإنسان وفعالياته وسلوكه اليومي يجب أن يصطبغ ويتلون بالتوحيد، حتى تصير كل قضية علمية أو عملية، هي التوحيد قد تلبس بلباسه وتظهر في زيها، وتنزل في منزلها  فبالتحليل ترجع كل مسألة وقضية إلى التوحيد، وبالتركيب يصيران شيئا واحدا، لا مجال للتجزئة ولا للتفريق بينهما.. لقد كانت العقيدة التي يستوحيها المسلم من القرآن طاقة تنتج الإيمان، وتوجه السلوك، لأنها تجعل الإيمان معطى عمليا فاعلا، مفعما بالحيوية، عبر دمج النظر بالعمل، وعدم الفصل بين الإيمان كحالة وجدانية والسلوك الإنساني، الذي يتجلى من خلاله المحتوى الاجتماعي للتوحيد.. غير أن علم الكلام الذي تمت صياغته لاحقا بالاستناد إلى أدوات المنطق الأرسطي لم يقتصر على تعميق البعد النظري في العقيدة، بل تجاوزه إلى تفريغ التوحيد من مضمونه العملي، والتعامل مع المعتقدات كمفاهيم ذهنية مجردة لا صلة لها بالواقع ) (راجع كتاب مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد، ص23).

وفي موضع آخر يقول الدكتور الرفاعي (ومع أن المسلم أصر على التمسك بالإيمان بالله و بوحدانيته، ولم يتخل عن إيمانه، غير إن هذا الإيمان فقد إشعاعه الاجتماعي، وتجرد من فاعليته، فلم يتجسد في نزوع للوحدة والمؤاخاة في حياة المجتمع المسلم، باعتبار أن عقيدة التوحيد توحد المجتمع، في التصورات، والغايات، والشعور، وأنماط السلوك.. وإنما تعرض المجتمع إلى انقسامات شتى، وأمسى جماعات وفرقا متعددة، أهدرت الكثير من قدرات الأمة في سجالات أفضت إلى مواقف عدائية، وأقحمت الأمة في حروب أهلية في بعض الفترات.. وهكذا يضمحل دور العقيدة، فلا تحول دون اقتتال الأمة الواحدة، ولا تكون منبعا للوحدة، حين تفرغ من محتواها الاجتماعي) (راجع المصدر السابق ونفس الصفحة)..

وفي هذا السياق يدعو الاستاذ الرفاعي إلى إحياء علم الكلام وتجديده، وتطوير الدرس الحوزوي، وتطوير الفهم الاجتماعي للإسلام، والاستيعاب النقدي للتراث والمعارف الحديثة، وإعطاء أولوية للاجتهاد والإصلاح..

والهم الآخر الذي يبرز في كتابات ومؤلفات الاستاذ الرفاعي هو: هم الإنسان في وجوده ومصيره وحقوقه ومآلاته.. من هنا أعطى الاستاذ الرفاعي أولوية فكرية على هذا الصعيد لتفكيك ظاهرة التعصب والكراهية لأسباب دينية أو مذهبية أو قومية ووقف بجرأة ضد كل عمليات القتل والتدمير التي تجري باسم الإسلام وهو بريء منها كامل البراءة..

فالإسلام لا يشرع لأي أحد انتهاك حقوق الآخرين أو التعدي على حقوقهم المعنوية والمادية.. فالإسلام يدعو إلى صيانة حقوق الإنسان المختلف، ويحرم التعدي عليها مهما كانت المبررات والمسوغات..

فحياة الإنسان وكرامته مقدسة، ولا يجوز بأي شكل من الأشكال انتهاك هذه الحقوق أو امتهان الكرامة المعنوية والمادية..

لهذا نجد لدى الدكتور الرفاعي اهتماما بمعالجة ظاهرة التعصب والإرهاب وتفكيك موجباتها الذاتية والموضوعية..

فالإنسان يجب أن يحترم ويحمى في وجوده وحقوقه وآراءه وأفكاره.. لهذا فإننا نعتبر مشروع الاستاذ الرفاعي الفكري يتجه إلى تطوير مناهج النظر والتفكير للإسلام للإفادة من طاقة الإسلام الروحية والحضارية..

***

أ. محمد محفوظ

في المثقف اليوم