قضايا

رونيه جيرار: نصوص حول العنف

بقلم: رونيه جيرار*

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

- العنف إنسانيّ خالص:

"حينما يتكلّم الناس عن وسائل الدمار الجديدة، يقولون "القنبلة" كما لو لم يوجد سوى واحدة و أنها ملك للجميع وليست ملك أحد، أو بالأحرى كما لوكان العالم كلّه ينتمي إليها. وتبدو القنبلة بالفعل مثل مَلِكة لهذا العالم. تقف على رأس جمع كبير من الكهنة والمخلصين الذين لم يُوجدوا على ما يبدو إلاّ لخدمتها. يدفن البعض في الأرض بيضات مسمومة للمعبود، ويضعها الآخرون في أعماق البحار، وآخرون أيضا ينشرونها في الأجواء، جاعلين نجوم الموت تدور بلا نهاية فوق عش النمل الذي لا يكلّ. لم يوجد أقلّ جزء من طبيعة نقّاها العلم من كلّ الإسقاطات القديمة الفوق - طبيعية، لم تُعِدْ  حقيقة العنف اختراعها. لا يمكننا التجاهل، هذه المرّة بشأن هذه القوّة للدمار، كونها إنسانية خالصة، لكنها، تشتغل، وفق نوع من العلاقات، على نحو مماثل للمقدّس.

كان الناس يجدون دوما أمانهم في ظلّ معبودهم، أي في ظلّ عنفهم المقدّس، و في مَنْجَاة من العنف الأشدّ إفراطا، واليوم أيضا هم يبحثون عن هذا الأمان. وفي عالم هو دوما منزوع القداسة، فوحده التهديد المستمرّ بدمارشامل ومباشر يمنع البشر عن التقاتل. وفي الجملة، فإنّ العنف هو الذي يمنع العنف عن الهيجان."

رونيه جيرار "أشياء مخفية منذ إنشاء العالم"

***

-  تبرير العنف:

"نقول عادة بأنّ العنف " لامعقول". ومع ذلك لا تعوزه المبرّرات:  هو يعرف حتّى كيف يعثر على مبررات حسنة حينما يريد الهيجان. ومهما كانت هذه المبررات جدّ حسنة، فإنّها لا تستحقّ أن نأخذها مأخذ الجدّ. فالعنف ذاته سينساها  إذا ظلّ  الموضوع المستهدف في البداية خارج متناوله و  يستمر في الاستخفاف به. سيبحث العنف غير المكتمل لينتهي دوما إلى العثور على ضحية بديل. وسرعان ما يستعيض عن المخلوق الذي  يثير غضبه،بمخلوق آخر ليس له أيّ موجب مخصوص  لاستجلاب صواعق العنيف، اللهم إلاّ كان عرضة لذلك وأنه في متناوله.".

رونيه جيرار "العنف والمقدّس" نشر برنار قراسي باريس 1972

***

- القربان عنف:

"يكفينا حتى نقتنع بأنّ القربان عنف من غير خطر الانتقام، أن نلاحظ المكانة الجسيمة التي توليها الطقوس لهذا الموضوع. وان نثبّت المفارقة الكوميدية أحيانا، لمرجعيات أبدية للانتقام، لهوس حقيقيّي للانتقام في سياقٍ تكون فيه مخاطر الانتقام منعدمة تقريبا، سياق قتل خروف على سبيل المثال:

نعتذر عن الفعل الذي سنقوم به، ونئنّ لموت البهيمة، ونبكيها بمثل ما نبكي قريبا. ونسألها العفو قبل ضربها. ونتوجه إلى سائر النوع الذي تنتمي إليه بمثل ما نتجه إلى زمرة عائلية نتوسّل لها أن لا تنتقم للضرر الذي ألحق بأحد أعضاءها. وقد يحدث، تحت تأثير نفس الأفكار، أن يعاقب القاتل، أن نضربه أو ننفيه.

يتوسّل المقدمون للقربان النوعَ كلّه، منظورا إليه بوصفه جماعة عائلية موسّعة، بأن لا ينتقم من موت ضحيته. و تشير ممارسة الطقس بطريقة غير مباشرة، بوصفها قتل قربان ربما يُفترض الانتقام له، إلى وظيفة الطقس، ونوع العمل الذي هو مدعوّ إلى الاستبدال والمعيار الذي يتحكم في اختيار الضحيّة. تتعلّق الرغبة في العنف بالأقرباء،  ولا يمكن له أن تشفي غليلها منهم دون أن تنتج كل ضروب النزاع، لذا لابدّ من تحويل وجهتها نحو الضحية المتقرب بها، الوحيدة التي يمكن ضربها دون خشية من خطر إذ لا يوجد من سينتصر لقضيتها. "

رونيه جيرار "العنف والمقدّس" (نفس المصدر)

***

الدين والعنف:

" إنّ الدين أبعد من أن يكون "بلا جدوى". إنّه ينزع عن العنف سمة الإنساني، إنه يطرح من الإنسان عنفه بغرض حمايته، وليجعل منه (أي العنف) تهديدا متعاليا وحاضرا دوما يستوجب أن يلطّف بطقوس ملائمة وكذلك بسلوك متواضع وحذر. يحرّر الدينيّ الإنسانية حقّا إذ يخلّص البشر من الشكوك التي قد تسمّم حياتهم لو  تذكّروا الأزمة على نحو ما حدثت فعلا.

أن نفكّر دينيّا، هو أن نفكّر في مصير المدينة  بالأخذ لعين الاعتبار لهذا العنف الذي يتحكم في الإنسان بلا هوادة خصوصا أن الإنسان يعتقد أكثر في السيطرة عليه. إنه إذن التفكير في هذا العنف بوصفه فوق إنساني، من أجل اتخاذ مسافة منه وتجنّبه.  وحينما تضعف العبادة المرعبة، وتبدأ الاختلافات في الزوال، تفقد القرابين الطقوسية فعاليتها: فهي ليست مُعْتَمدة. فيزعم كلّ واحد إعادة تصحيح الوضعية بذاته ولكن لا أحد ينجح في ذلك. إنّ تدهور التعالي ذاته يؤدّي إلى اختفاء أقلّ اختلاف بين الرغبة في إنقاذ المدينة والطموح الأكثر جموحا، بين الشفقة الأكثر إخلاصا والرغبة في تأليه الذات."

رونيه جيرار "العنف والمقدّس" ص 131

***

العنف والتخلّق الاجتماعي mimétisme collectif

" يخيّم على عالمنا غير المعدّل والمنزوع من السلوك الطقسي نوعان من المخاطر: الحرب النوويّة أو البيولوجية، والكوارث الإيكولوجية والاضطرابات السياسية الكبيرة. يوجد نوع آخر من العنف يشتكي منه الناس في عالمنا، عنف أكثر مكرا وغموضا، هو الانطباع بوجودنا في مجتمع حيث تخضع العلاقات الحميميّة لضغوطات هدّامة ضخمة...

لقد أزالت أو محت نهاية " أكباش الفداء" boucs émissaires (القرابين)، في عشر قرون، في العالم الغربيّ، كلّ المؤسّسات القربانية التي تقمع أصنافا كاملة من الأفراد. لقد أزال عالمنا العبودية وأشكال أخرى من الاستعباد الشخصي، وخفّف الفوارق الصلبة للطوائف والطبقات، والتفاوت الجنسي والعرقي، الخ...لقد لطّف دائما العقوبة القضائية. واخترع حقوق الإنسان، وبعبارة أخرى كل ما يحمي الأفراد ضدّ المحاكاة الجماعية أو " التخلّق الجماعي" mimétisme collectif. صَاحَبَ هذا التحرّرَ نموٌّ باهر للطاقة الخلاّقة في عالمنا. إنّ اختراع العلوم والتقنيات، خاصة التقنيات الطبيّة والزيادة الضخمة للموارد الماديّة، قد حرّر جزءا على الأقلّ من الإنسانية من عبودية الأسلاف. ويمثّل هذا التطوّر المتفرّد في تاريخ البشرية، العظمة التي لا مثيل لها لعالمنا. إنّ المجتمع الذي نجح في هذا هو نفسه، بالضرورة، الذي ألغى شيئا فشيئا الحواجز بين المتنافسين التخلّقيّين المحتملين، في اللحظة التي جعلت المساواةُ المتعاظمةُ، هؤلاء المتنافسين أكثر كثافة دائما. إنّ التنافس الهستيري في عالمنا هو المسئول عن الاكتشافات الأكثر روعة و الأكثر خطرا أيضا، وعن النموّ الضخم مثلا، لوسائل التدمير عندنا. وما كان  لهذه التطوّرات أن تكون خطيرة لو كان البشر قادرين على فرض نوع النظام الذي حصلوه بموجب هذه الوضعية، وبعبارة أخرى على التخلّي عن العنف. ماذا سيحدث غدا؟ لا أحد بمقدوره الجواب عن هذا السؤال.

إنّ عالمنا مهدّد أكثر من أي وقت مضى بعودة الشغف القرباني ومغامرات أخرى شيطانية يعجّ بها القرن العشرين. لكنه أيضا أكثر غنى بالوعود من كلّ العوالم السابقة. إنّ إمكانياتنا الإبداعية كما التدميريّة تزداد باستمرار. وما يشكّل خطرا في هذا القرن القادم لا ينفصل عمّا يجعل منه بشكل مؤكّد، الأكثر دهشة و نرجو ذلك، الأكثر سلمية في التاريخ الإنساني."

رونيه جيرار "محاضرة بعنوان: "عنف اليوم، العنف الدائم"

***

......................

* رونيه جيرار

"رونيه جيرار" René Girard، ولد يوم 25ديسمبر 1923 في أفينيون (فرنسا) ومات يوم 4 نوفمبر 2015 في ستانفورد في كاليفورنيا، هو انتروبولوجي ومؤرخ وفيلسوف فرنسي. تلميذ في البداية مدرسة دي شارت، سافر لإنجاز الدكتوراه إلى الولايات المتحدة حيث قضى كامل مسيرته. درس فيها أولا الأدب. هو أستاذ في جامعة جونس-هوبكينز من 1957-1980، ثم في جامعة ستانفورد من 1980 إلى 1995.

هو أب "نظرية التخلّق او المحاكاتية théorie mimétique التي، انطلاقا من اكتشاف السمة التخلّقية أو المحاكاتية للرغبة، تبحث عن تأسيس انتروبولوجيا جديدة للعنف والدينيّ. بدأ من الأدب، في كتاب "الخداع الرومنطيقي والحقيقة الروائية" (1961)، ليتّسع تحليله بعد ذلك إلى الأساطير المؤسِّسة  والطقوس القربنانية والظواهر العنف الجماعية والقمعية في كتاب "العنف والمقدّس" (1972).

(رونيه جيرار - ويكيبديا الفرنسية ).

في المثقف اليوم