قضايا

محمد الورداشي: الذات بين الوحدة والألفة

تعلمنا كثير من الأدبيات الفلسفية وتعاليم الفلاسفة أن بناء الذات يتطلب الوحدة، واختلف الفلاسفة في تحديد ماهية هذه الوحدة وضروبها، إلا أنهم أقروا على أن حال الذات وسط الجماعة سبيل إلى ذوبانها؛ ومعنى الذوبان هنا هو أن تفقد هذه الذات جوهرها وهويتها الحقيقية، فتغدو ذاتا من الذوات تشترك في جواهر وصفات ولا تكاد تختلف إلا في درجة حضور هذه الصفات، ومن ثم يكون اختلافها اختلافا في الدرجة وليس في النوع. إنهم يرون أن الوحدة هي السبيل لتستكمل الذات ملامحها وتتحلى بسماتها الجوهرية الحقيقية، وبذلك تكون ذاتا حرة قوية ومتفردة. لكن، هل القوة والتفرد يتطلبان العزلة والاعتزال؟ ألا يمكن أن تحقق الذات ذاتيتها وتتحصل جوهرها وهويتها في تفاعلها مع الذوات المحيطة بها؟ أليس وجود الآخر شرطا من شروط وجود الذات؟ أيمكن للذات المنعزلة الوحيدة أن تتشكل بعيدا عن الجدال مع الغرية؟ أليس الغير هو الغريب الذي يسكننا على نحو غريب كما ذهب جوليا كريستيفا؟

إن الفلسفة العملية محك ليختبر الإنسان أفكاره وتأملاته الفلسفية؛ ذلك أنها تتيح لنا تجربة العزلة والألفة، وإقامة مقارنة علمية وعملية بينهما، ومن ثم اختبار الذات لذاتها وجوهرها، أي للثابت فيها والمتحول. وبما أننا قد خضنا غمار الألفة استجابة لنداء الطبيعة البشرية التي تأبى إلا العيش المشترك، وقضينا في رحابها سنوات عديدة من عمرنا، فإننا سعينا جاهدين إلى الانفكاك عن العيش المشترك، والخروج من الكهوف المظلمة طلبا لنور الحرية والتفرد، وهروبا من القيود والأغلال التي تكبل الذات من أعراف وتقاليد وأساطير، وحاولنا أن نكون ذواتا حرة متفردة سمتها القوة والإرادة، وشعارها "لا حرية للذات بوجود الآخرين".

لكن، وآه من لكن هذه، ماذا كانت النتيجة؟ وهل استطعنا أن نلبس ذواتنا الحرية والتفرد والقوة؟ هل استطعنا أن نفكر خارج التقاليد والأعراف، وبعيدا عن كل الأطر الاجتماعية والثقافية والفكرية والنفسية التي نشأنا بين أحضانها؟ هل استطعنا أن نأتي بما لم يسبق إليه الأوائل؟

إن واقع الحال والمآل يخبرنا أننا لم نعش الوحدة والعزلة بمحض إرادتنا، ولم نختر أن نعيش في بعد عن الناس، لا نشاركهم حديثا ولا طعاما ولا حتى نظرة خاطفة. ولعل في هذا اختلافا بين الوحدة التي يختارها المرء بعد طول عيش بين الناس، والوحدة التي تفرضها عليه ظروف الحياة. فهل كانت وحدة الفلاسفة اختيارا أم جبرا؟ أم أن حياتهم اليومية وظروفهم الاجتماعية هما اللتان فرضتا عليهم العزلة والوحدة؟ أم أنهم أحسوا تهديدا لوجودهم وأفكارهم بين الدهماء والحكام، فاختاروا طريق الوحدة والعزلة؟

تختلف أسباب وظروف اختيار المرء للوحدة، وارتماؤه في أحضانها، وتجرعه لعلقمها وشقائها؛ فهذا اختار العزلة لأن أفكاره الجديدة لم تجد قبولا لدى المقلدين، وذاك ارتمى في أحضان العزلة لأن الطبيعة قد أخذت منه صحته وعافيته، فأصبح ميئوسا منه من قبل أقاربه وأصدقائه، وهذا ثالث رأى في العزلة سبيلا للتخلص من الألفة والرتابة اليومية، فاختار اعتزال الناس حتى يحدث تغييرا وحركة دائبين في حياته الراكدة، وذاك رابع آثر الوحدة ترفا وزهدا في الحياة الاجتماعية، وترفعا عن صغائر أمورها... إلا أنهم جميعا لم يكونوا وحيدين بمحض إرادتهم، وإنما اضطروا إلى الوحدة والعزلة.

وأنت أيتها الذات الكاتبة الحائرة، هل اخترت الوحدة والعزلة طوعا أم كرها؟ هل هجرت أهلك وأصدقاءك طلبا للحرية والقوة والتفرد، أم أن الضرورة الاجتماعية دفعتك إلى الوحدة والعزلة دفعا؟ وإن كنت قد اخترت هذا الطريق الموحش تأسيا بالفلاسفة وحبا للتفرد والتحرر، فهل أنت حرة متفردة؟

ما سر عيونك الباكية وملامحك الحزينة؟ أهو حزن على مصيرك وأنت تقبعين في العتمة وحيدة كسيرة، أم حنين إلى الألفة والعيش المشترك؟ هل استطعت الفرار من الناس ودسائسهم، ومن الأقارب والأصدقاء ونفاقهم وتزلفهم؟ أم أنك ما كدت تخرجين من عتمتهم حتى وقعت فريسة لليل بهيم لما ينتقض، فكنت كمن يستجير من الرمضاء بالنار؟

إن الوحدة والعزلة الحقيقيتين لا تكمنان في هجران الناس، ولا الابتعاد عن الحياة وحركيتها والارتماء في نار السكون والجمود. بل إنهما تتحققان في خضم تلك الأجواء الحميمة التي تجمع الذات بما تقرأه، تلك الأجواء التي تتحرر فيها الذات من الحياة الخارجية وتنصهر في حياة القراءة. وهكذا، تجد الذات جوهرها وجها لوجه أمام الحيوات المتعددة التي تحبل بها الكتب. فما من كتاب مركون على الرفوف إلا وقد ضاق ذرعا بالوحدة القاتلة والغبار القذر الذي يعلوه، وما أن يحمله قارئ حتى يفتح دفتيه مرحبا به وساعيا إلى عناقه.

فما أجمل عناق الوحيد للوحيد! وما أعمق إحساس المعتزلي بالمهجور المنسي! فالقارئ والكتاب كلتاهما وحيد أعزل مهجور منسي، وعلى قدر اقتراب القارئ المتعطش إلى التحرر والتفرد والقوة من الكتاب المنسي المهجور، تصقل ذاته ويُبنى جوهرها وحريتها، وتتلبس بتفردها وصفائها.

***

محمد الورداشي

في المثقف اليوم