قضايا

علي حسين: حيرتي مع سارتر من الوجود إلى العدم

في صباي كنتُ اذهب بانتظام الى المكتبة التي يملكها أحد اقاربي، واعتبر نفسي احد العاملين فيها رغم معارضة صاحب المكتبة الذي كان يخشى أن يؤثر العمل على دراستي، فاقترح أن اعمل ايام العطلة الصيفية فقط، لكني اعتدت أن اعتبر المكتبة جزء من دراستي، فتجدني ما ان انتهي من واجباتي المدرسية حتى تاخذني قدماي إلى حيث عالم الاغلفة الملونة، والكتب التي توزعت على الرفوف والمصاطب . في تلك السنوات كنت احتفظ باعداد من مجلة ملونة اسمها " المعرفة "، كانت تصل كل اسبوع مزينة بغلاف احمر، تتوسطه صورة، احيانا تكون لمجموعة من الكواكب، أو اثار عالمية، او لشخصيات لم اكن اعرف عنها شيئا، كنتُ اقرأ صفحاتها بتمعن وبالكاد افهم السطور التي تنتقل بي بين العلوم والتاريخ والجغرافية والطبيعة والادب، وسحرٌ آخر عبارة عن  صفحة تتناول حياة بعض المشاهير، وعن طريق هذه المجلة تعرفت على ابو تمام وسمعت باسم نيوتن لأول مرة، وحيرتني حياة تشارلز ديكنز، وتألمت لتمزيق جسد امراة يونانية اسمها " هيباتيا " . وجدت نفسي منجذبا إلى تلك الصفحات بسبب غرابة حياة هؤلاء المشاهير والمدن العجيبة التي شهدت حكاياتهم، وكنت في الخيال اعيش اجواء هذه الحكايات واتجول مع اصحابها، اتوقف وانا انظر الى صورة فولتير وكيف ازدحمت شوارع باريس بمئات الآلاف لتوديعه عندما توفي . وياخذني الخيال مع المتنبي وهو محاصر في صحراء الكوفة، وارسم في ذهني صورة لجان جاك روسو يهرب ليلاً بعد مطاردة الشرطة له . صور كثيرة لم تغادر ذهني الصبي كانت واحدة منها لرجل يجلس في المقهى والسيجارة في فمه، وامامه كتاب يقرأ فيه، يتوسط الصورة عنوان " جان بول سارتر رائد الوجودية الفرنسية "، قرأت الموضوع ، لكني لم افهم شيئا : ماذا كان يريد هذا الرجل الغريب الاطوار؟ . بعدها ساعثر على مقال كتبه انيس منصور في مجلة الفكر المعاصر بعنوان " سارتر حياته هي كلماته " وفيه يصفه بانه " غريب في العالم، وهو غريب عنه ايضا "، ويخبرني انا القارئ الغشيم للوجودية ان فلسفة سارتر هي محاولة مستمرة لعقد صداقة مع العالم .

كان سارتر أول فيلسوف احاول  البحث عن خفايا حياته، كنت اتباهى في سني مراهقتي  بترديد بعض عباراته الغريبة . وربما كان سارتر أكثر فيلسوف شعرت بانه قريب مني، اقرأ رواياته ومسرحياته، لكني اخشى الاقتراب من كتبه الفلسفية . فيما بعد سأقتني كتابا ضخما بجلاد اسود سميك بعنوان " الوجود والعدم " ترجمة عبد الرحمن بدوي – صدرت طبعة اخرى بعنوان الكينونة والعدم ترجمة انطوان متيني -، كنت قد قرأت في مقال انيس منصور ان كتاب سارتر هذا يعتبرونه انجيل الوجودية، ورغم ذلك لم ينس انيس منصور من ان يحذرني منه فهو " كتاب غامض لم تتمكن سوى قلة من قراءته وفهمه "، لكن رغم مشاعر فقدان الامل التي تصيب كل من يحاول قراءة الكتاب اول مرة، إلا ان " الوجود والعدم " لا يزال حتى هذه اللحظة يحظى بسمعة جيدة، فهو من الكتب القليلة التي كتبت في القرن العشرين ناقشت بجدية الاسئلة المحورية حول الوضع البشري، عبر مفاهيم وتصورات فلسفية معينة، وقد شعر سارتر ان كتبه " الوجود والعدم " اصبح محصورا بالنخبة، فنجده يحاول تبسيط فلسفته عبر روايات ومسرحيات .

قررت أن الاحق سارتر من خلال كتبه وما ينشر عنه في المجلات والصحف . كنت قد بدأت بقراءة كتاب " الوجودية فلسفة انسانية " . لكني بعد عدة صفحات توقفت عن القراءة، ووضعت امامي قائمة بالمصطلحات التي برددها سارتر " الماهية .. الوجود .. الظاهراتية .. القلق .. المسؤولية .. الحرية " .كان الكتاب في الاصل محاضرة القاها سارتر في تشرين الثاني عام 1945 في باريس وفيها اعلن اننا نوجد اولا ثم نحقق ما نريد ان نكونه عبر تصرفاتنا .. ففي خياراتنا نحدد نوع وجودنا . اننا احرار تماما لتجديد ما نرغب في ان نكون عليه، لكن هذه الحرية تحمل معها عبء المسؤولية .

أنظر الى صور سارتر التي تنشرها الصحف مرة اراه متجهما، وفي بعض الصور يبدو ساهما، صور كثيرة تلتقطعها عدسات المصوؤيين الذين كانوا يلاحقون فيلسوف الوجودية وهو يتنقل بين مقاهي باريس . وكنت انا ايضا اطارد سارتر من خلال كتبه، وكانني اشاركه رحلة التنقل من مكان سكنه الى مقهى الفلور الى شقة والدته .كانت كتبه التي بدأت بقرأتها قد حددت نوع القارئ الذي ساكونه، مثلما كانت الكتب قد شكلت حياة وتفكير جان بول سارتر  منذ أن وجد نفسه يعيش في بيت جده: " في حجرة جدي كانت الكتب في كل مكان، وكنت لا اعرف القراءة بعد، ومع ذلك كنت احترمها هذه الحجارة المرفوعة. وسواء كانت قائمة ام مائلة، متزاحمة كقطع الطوب على ارفف المكتبة ام منفصلة بعضها عن بعض، فاني كنت اشعر ان ازدهار عائلتي موقوف عليها " – الكلمات ترجمة محمد مندور - انتبه الجد الى ان حفيده مغرم بشيء اسمه القراءة ويسترجع سارتر كيف اجلسه جده امامه وكان في السابعة من عمره ليقول له بكل صرامة :" من المفهوم بالطبع ان الولد سيصبح كاتبا "، ثم نبهه الجد الى ان الادب لن يملأ معدته في يوم من الايام

في العشرين من ايلول عام 1939 يلتحق سارتر بالجيش بصفته جندي احتياط، في مقاطعة الألزاس يعيش هناك في غرفة صغيرة مع اربعة اشخاص يعملون جميعا في وحدة الارصاد الجوية :" الحرب اشتراكية، فهي تختزل الممتلكات الفردية للشخص في اللشيء، وتعوضها بالممتلكات الجمعية . لم تعد ثيابي، مرقدي، أو أغذيتي ملكا لي، لم يعد لي مسكن . كل ما استعمله ملك للمجموعة " – سارتر دفاتر الحرب الغربية ترجمة عبد الوهاب الملوح -  " . اعتاد سارتر خلال الاشهر الثمانية التي قضاها في هذا المكان أن يقرأ ويكتب بمعدل 11 ساعة في اليوم، فقد انهى قراءة كتب فرانز كافكا، وتمتع بقراءة اسرار اندريه جيد كما سطرها في يومياته :" شرعت في قراءة اندريه جيد . كانت قراءة باذخة عموما " – دفاتر الحرب الغريبة - . كانت الكتب ترسلها له سيمون دي بوفوار كل أول شهر، اضافة الى ذلك كان يواصل الكتابة في روايته سن الرشد، ويكتب في دفتر صغير ملاحظات فلسفية ستغدو فيما بعد كتابا كبير الحجم بعنوان " الوجود والعدم "، والذي يدور حول العلاقة مع الاخرين، وسنجده من ايلول عام 1939 وحتى حزيران عام 1940 يملأ اكثر من خمسة عشر كراس يسطر فيها وجهة نظره عن الحرب :" لقد كنت أخوض حرباً على صورتي، حرباً بورجوازية أنا الذي اخترت السلاح الذي أخوض الحرب به، فبما أنني كنت من أصحاب النزعة السلمية اخترت سلاحاً مسالماً بفضل توصية مكنتني من ذلك. وبما أنني كنت مناضلاً ضد النزعة العسكرية أردت أن أخوض الحرب بوصفي جندياً بسيطاً، أنا الذي كنت ضد الحرب لكوني مثقفاً. ثم بسبب عدم قدرتي على الحياة الطبيعية لإصابتي بالحول جُنّدت مع القوات الاحتياطية، أي مع الرجال المتزوجين والذين لديهم أطفال. ومن هنا كانت تلك الحرب بالنسبة الينا حرباً غريبة بل مضحكة. كانت حرباً تعكس رغبتنا العميقة في عدم خوض القتال نحن الذين كنا نعرف أن هتلر لن يهاجمنا، وبالتالي كنا نتطلع الى ترك الحرب نفسها تتعفن مدركين كنه مشاعرنا. بمعنى أنني كنت أرى نفسي معكوساً في تلك الحرب التي كانت هي بدورها تنعكس فيّ وتعيد اليّ صورتي. وكانت النتيجة أنني رحت أول الأمر أكتب عن الحرب لينتهي الأمر بي الى أن أكتب عن ذاتي إذ باتت الحرب بالنسبة الي اشبه بفترة نقاهة " .- دفاتر الحرب الغريبة -

في الحادي والعشرين من  حزيران عام 1940  يُعتقل سارتر، كان قد بلغ الخامسة والثلاثين من عمره، وسينقل بعد ايام الى معسكر في المانيا باعتباره اسير حرب، يكتب في رسالة الى سيمون دي بوفوار، انه سعيد جداً، يشعر بانه حر، كان يقرأ هيدغر، يخبرنا في حوار اجرته مع سيمون دي بوفوار – نشر في كتاب مراسم الوداع ترجمة قاسم المقداد – ان افكار كتاب " الوجود والعدم تكونت انطلاقا من دفتر صغير كتبه خلال الحرب .. وفي الاسر عندما يسأله احد الضباط الالمان عما ينقصه، يجيب سارتر فورا : هايدغر، ليحصل بعد اسابيع على نسخة مجلدة من كتاب " هايدغر " الوجود والزمان "، كان هايدغر الذي نشر كتابه " الوجود والزمن " عام 1927 قد بحث عن الدور افريد الذي يلعبه الانسان في العالم، فالانسان كما يرى هايدغر هو المخلوق الوحيد القادر على فهم " الوجود " . بمعنى انه قادر على التصرف بوعي ازاء نفسه، وازاء الواقع الذي يعيش فيه .من هذه النقطة يبدأ سارتر الذي يخبر سيمون دي بوفوار في احدى رسائله من المغتقل في تموز عام 1940 انه بدأ بتحرير كتابه " الوجود والعدم "،. يؤمن سارتر كما يؤمن عيدفر بان الانسان قادر على التصرف بوعي ازاء " وجوده "، ويمكنه ان يقرر شيئا، وان يشكل كينونته، كما يمكنه ان يقول لا ابضا .

في تشرين الاول من عام 1943 ينشر سارتر كتابه الأهم " الوجود والعدم "، لم يحقق الكتاب نجاحا عند صدوره ، لكن بعض المشتغلين في الفلسفة ادركوا أن حدثا هاما قد حصل، فللمرة الاولى وجدوا من يطبق الفلسفة على الحياة اليومية، ظل سارتر يقول ان مهمة الكاتب ان يتكلم بوضوح وبساطة، ويقول لالبير كامو في اول لقاء بينهما :" اذا فشلت الكلمات في تأدية واجبها فان وظيفة الكاتب يجب ان تحول هذا الفشل الى نجاح " .في الوجود والعدم الذي سيصبح الركيزة الاساسية للوجودية الفرنسية يوضح سارتر ماذا تعني الحرية للانسان، انها : " المتأمل، والمتخيل، قوة العقل، قابليتها للحركة، سلبيتها المعطاة، قدرتها على النهوض من الاوضاع، الموصلة، ان احجار المنزل لاتبني سجنا "، اما الانسان فهو :" الوجود الذي يطمح ان يكون الهياً " . ذكر اندريه جيد ان سارتر يريدنا ان نقرأ الفلسفة كرواية مثيرة ومشوقة، فيما يخبرنا سارتر في الوجود والعدم، ومن ثم في معظم كتبه على اننا نفعل كل شيء للهروب من حريتنا، فنحن نتحول الى شيء يقول : ليس هذا خطئي،  ولا نقول " هذا ما قررت ان اكون " هذه النية السيئة كما يسميها سارتر احد المبادئ التكنيكية التي يتبناها كل فرد كي يتوقف عن تَحمل  حريته . في اكثر من سبعمئة صفحة يقدم سارتر عرضا للحرية بوصفها سمة من سمات تجربتنا التي تُمكننا من ان نلعب دوراً في هذه الانشطة الانسانية  الفريدة مثل القراءة والمناقشة  والتفكير والاختيار . التقط  كتاب " الوجود والعدم " مزاج الحرب في فرنسا التي انهار فيها كل يقين قديم، حيث أدت الحرب الى الفوضى في كل شيء  ؟ ارد سارتر ان يقدم  طريقة جديدة في فهم الوجود . تُمكن الناس أن يختاروا مستقبلهم بكامل حريتهم .يقول سارتر إننا لسنا مسؤولين ببساطة عما نفعله . نحن مسؤولون عن عالمنا .إن كل فرد بعيش " مشروعا " معينا في حياته وبالتالي فإن كل ما يحدث معنا يجب ان يكون مقبولا كجزء من هذا الامر . ويمضي ليقول إنه " ليس هناك من صدفة بالحياة " . يقوم كتاب سارتر على تمييز اساسي بين اشكال الوجود المختلفة . ويثير سارتر الانتباه الى الاختلاف القائم بين الوجود الواعي من جهة والوجود اللاواعي من جهة اخرى، فيسمي الاول " الوجود لذاته "، اما الثاني فيدعوه الوجود في ذاته . إن الوجود لذاته هو الوجود الذي يختبره البشر . ويلعب العدم كما يقترح عنوان الكتاب دورا محوريا في عمل سارتر . حيث يعتبر الوعي البشري فجوة في صلب وجودنا، أي انه عدم، فالوعي هو دائما وعي شيء ما، فلا يكون ذاته ابدا .إنه ما يسمح لنا باسقاط انفسنا في المستقبل واعادة تقييم ماضينا . ان العدم يدخل في تركيبة الانسان، في تركيبة وعيه، لأن الانسان محكوم عليه بالعمل كل يوم، وبالتالي هو يتغير باستمرار، وبالتالي لا يعود كما كان سابقا، يقول سارتر ان " الانسان هو ما ليس هو، وهو ليس ما هو " وقد يعتقد البعض ان الجملة لعب من العاب الالفاظ، لكنها عند سارتر تعني ان الانسان هو ما ليس هو، يعني ان الانسان لا يُكونه ماضيه، عليه ان ينسى كل ما كان، كل ما فعله سابقا، عليه ان يعدم كل لجظة سابقة للحاضر، وينتزع نفسه من كل الماضي، وبالتالي الانسان لا يصبح على الاطلاق وجود بسبب تراكم الماضي، انه باستمرار يتخلص من الماضي، وينساه ويصبح قبل كل عمل يقوم به عبارة عن ورقة بيضاء جديدة، وبالتالي هو ما ليس، أي ما لم يقم به بعد .

ورغم ان سارتر مدين في عنوان كتابه " الوجود والعدم " الى كتاب هيدغر " الوجود والزمان " إلا ان سارتر اصر ان يؤدي التحية من خلال كتابه الى ديكارت بدلا من هايدغر .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم