قضايا

درصاف بندحر: أنت لا تنقذ من أحببت

"إن كُنْتُ أعز عليك فخذ بيدي

...

إن كُنْتَ قويا

أخرجني من هذا اليمّ

فانا لا أعرف، لا أعرف، فن العوم.."

***

هذا ما قاله الشاعر نزار قباني في قصيدته المُعنونة "بِرسالة من تحت الماء" التي لحنها الموسيقار محمد الموجي وغناها العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ.

يطلب الشاعر ممن يعز عليه أن يأخذ بيده، أن ينقذه ويخرجه من بحر لا يدرك قعره خاصة أنه لا يعرف فن العوم وعلى الأرجح، إن لم يمد له أحد يد المساعدة فإنه سيغرق.

تطلق كلمة اليمّ في اللغة على البحر وتعني كلمة اليمّ بقعة من الأرض تكون ذات ماء مالح، أو عذب، وتكون أصغر حجما من المحيط. ويقال إنّ اليمّ بحر لا يمكن للإنسان أن يدرك قعره.

وردت كلمة (اليمّ) في القرآن الكريم مرتبطة بمعاني الهلاك والعذاب، كما في قوله تعالى (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ) بمعنى طرحناهم في اليمّ وهو البحر.

كما جاء في قوله تعالى (فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) أي أغرقناهم في البحر الواسع.

همُوم كثيرة قد نغرق في غورها أو قد يغرق فيها أحبتنا. لعل أكثرها تهديدا للحياة هي تلك المقترنة بالطفولة إذ ترتبط حياة الإنسان بمختلف أوجهها، بما في ذلك اختياراته وعلاقاته، بفترة طفولته.

تخبرنا "ليز بوربو" وهي معالجة كندية أسست في كتابها الأكثر مبيعًا على مستوى العالم "الجروح الخمس التي تمنعك أن تكون على طبيعتك"، رابطا بين الجروح الداخلية والمظهر الخارجي للفرد.

وفقا لما تقوله "ليز" فإن هذه الجروح تؤثر علينا وعلى علاقاتنا.

تتمثل هذه الجروح في خمسة جروح.

أولها جرح الرفض وهو الجرح الأكثر إيلاما..هو يؤثر على الأشخاص الذين تم التعامل معهم في طفولتهم على أن وجودهم أوعدم وجودهم سيان.

كذلك جرح الهجر وهو ثاني أعمق أذى بعد الرفض، لأن كليهما يلامسان عمق الذات الإنسانية. أولئك الذين يعانون من الهجر لا يشعرون بالإشباع العاطفي الكافي. هم في حاجة دائمة إلى الاعتراف والدعم.

أما جرح الذل فيعاني منه من نشأ خلال فترة طفولته في بيئة جعلته يحس بأنه قليل الشأن.

ويرتبط جرح الخيانة بالتخلي. إن الشخص الذي عانى من الخيانة يريد إظهار قوته و يريد السيطرة. كما أنه يجد صعوبة كبيرة في التعامل مع الكذب لأن من يكذب عليه لا يمكن أن يكون من وجهة نظره إلا خائنا ومتخليا.

الجرح الخامس هو جرح الظلم وهو يتمثل في إصابة مرتبطة بالرفض. الشخص الذي يعاني منه يسعى إلى أن يكون كاملا وتبعا لذلك يفضل هؤلاء الأشخاص عزل أنفسهم عن مشاعرهم استباقا لمخاطرة التعرض إلى الرفض.

في بعض الأحيان نحن لا نفهم ردود أفعالنا أو تصرفاتنا مع الآخرين كما أننا قد نعجز عن فهم تصرفات هؤلاء، تجاهنا.

تبين لنا المعالجة "ليز بوربو" أن كل إصابة أو جرح ترتبط بما يطلق عليه القناع.

والقناع هو رد الفعل الدفاعي الذي يتبناه الشخص المصاب بجرح أو بجروح الطفولة في مواجهة بعض المواقف أثناء تعامله مع الآخرين.

تشرح الكاتبة أنّ "الرغبة في إخفاء هذه الجروح عن الذات أو عن الآخرين، تجعل كلّ واحد منا يرتدي قناعا ما، حسب جرحه الخاصّ".

نلاحظ أن الشخص الذي عاني في طفولته من جرح الرفض.. رفضه أهله.. يرتدي قناع الهارب. هو يهرب من الاهتمام.. يهرب من الحب.

أما الذي يعاني من جرح التخلّي فهو يرتدي قناع المتعلّق بالآخرين بشكل مرضيّ ليصبح الٱخر هو المصدر الوحيد لسعادته.

كذا من عانى من جرح الإذلال فهو يرتدي قناع المازوشي أي أنه لايرتاح إلا في الوضعيات أو مع الأشخاص الذين يشعر معهم أنه أقل بالمقارنة معهم ويفرحه أنه في خدمتهم وتحت أمرهم وأنهم راضون عنه.

أما الذي يعاني من جرح الخيانة فهو يرتدي قناع المتحكّم.

ومن يعاني من جرح الظلم فإنه يرتدي قناع الصلابة.

تقول الكاتبة إن ارتداء هذه الأقنعة يصبح ضروريا لحماية النفس من أن يضع أحدهم يده على مكان الألم.

إن التخلص من هذه الجروح المتربطة بالطفولة لا يبدأ إلا بنزع الأقنعة التي تغطيها. فالجرح لا تنفع تغطيته بل الطريق الوحيد لشفائه هو كشفه ومداواته.

كل من يريد التشافي من جروح الطفولة عليه أن يعي جرحه و يسامح نفسه ويسامح الآخرين.. عليه أن يخرج جرحه الأساسي إلى الوعي.. أن يواجه ذاته التي تعاني .. أن يسقط القناع الذي يغطيه.. أن يكاشف نفسه.. أن يكون على طبيعته دون خجل أو مواربة.

ربما لا نستطيع أن ننقذ من يعاني من جروح الطفولة على حبنا له فكل روح ترزح تحت حمل أثقالها.. مهما فعلنا ومهما قدمنا له، قد لا يجديه نفعا أن نكون أقوياء لإمساك يده وإخراجه من اليمّ على حد قول الشاعر نزار قباني لأنه لا يمكن لأحد أن ينقذه من نفسه إلا نفسه.

***

درصاف بندحر - تونس

..................

المرجع:

كتاب “الجروح الخمس التي تمنعك أن تكون أنت” للكاتبة أستاذة علم النفس في جامعة السوربون "ليز بوربو". يهتم الكتاب بشرح وتفسير الأزمات النفسية الكبيرة التي قد يتعرض لها الإنسان وتحرمه من العيش بطريقة سعيدة.

في المثقف اليوم