قضايا

عبد الجبار العبيدي: بين الدولة والدين والإنسان.. جدلية

نحن لا نهاجم الاديان ولا نرفضها، لكننا نرفض ان يُحتكر الدين لصالح مؤسساته الباطلة والتي لم يعترف بها النص المقدس، لتتحكم به ضد البشر حتى جاز لها شرعية التصرف باموال الدولة وانسانها لخدمتها دون خوف من الله والناس، بعد ان غلفت كل باطل بغلاف الدين.فالدين ليس سلعة تباع وتشترى كما عند اصحاب المذاهب الباطلة حين جعلوا موارد الدولة مُلك سائب لهم دون قانون، فكذبوا على الله والدين بعد ان سرقوا الدولة والمواطنين، بل هو قيم وعدل بين البشرلا خيانة وتدليس، نحن نحترم شجاعة من يقول الحقيقة او بعضها، ولا نحترم من اتخذ من الدين وسيلة لقتل الوطن ككل وبيعه للأخرين.

الدين، أي دين جاء نتيجة طبيعية لوعي الأنسان لتنظيم حياته الضائعة بين الغابة والصحراء، وبين القوة والضعف، وبين الحق والباطل، أدركها الأنسان منذ ان كان هائما على وجههة لا يلوي على شيء ولا نصير له في محنة التيه، في مواجهة من يهاجمه او يقتله او يستولي على حقوقه، من هنا بدأ يفكر بقانون يحميه، ولأن القانون لا وجود له في تصوره وواقعه في ذلك الزمن البعيد، ألتجأ الى المقدس الذي لايُخرق، فكانت النار المقدسة عنده عقيدة دين ثم تطورعبر الزمن، الى دين مشخص، للطاعة والتنفيذ.

أما الدولة، فهي تختلف عن مفهوم الدين كونها تنظيم سياسي يمثل مؤسسة أنسانية لتأمين الامن العام والنظام والسلطة، تقوم على القانون والقوة معأ، ولها جمهورها المختلف في العادة والتقليد والمعتقدات الدينية والتقاليد، وكيانها أعتباري تعاوني، اركانها الأرض، والدستور والقانون والقضاء لتأمين العدالة فيها، ولكل دولة نظامها الخاص بها، هنا الدولة تتناقض مع مفهوم الدين في توجهاته العقائدية وتطبيقاته الالزامية كون النص الديني ثابت وقانون الدولة متحرك، لان لكل دولة فلسفتها الخاصة بها، من هنا تبدا الجدلية بين الدين والدولة لصالح الانسان، وليس لصالح سلطة الدولة ومؤسسة الدين.

من هذا المنطلق بدأت تختمر في ذهن الأنسان الرؤية المفهومية بأطارها المرجعي فكان معيارها جملة مفاهيم ُيتفق عليها لا يجوز اختراقها، اساسها الحرية وحق الحياة والاختيار وحقوق الانسان، وبعد تجربة لعشرات الألوف من السنين بدأ الانسان يكتشف عقله ليصقله وترهف ملكاته ليصبح قادرا على عقل الأشياء أي ربطها بعضها ببعض حتى بدأ يدرك الظواهرالطبيعية وربطها ببعض حين بدأ يفكر في النجوم والشمس والقمر والمطر، من هنا خطا الانسان أولى خطواته في طريق الحضارة والتقدم، لذا يقول العلماء: "ان العقل نفسه أول مخترعات الانسان".

وبمرور الزمن استطاع الانسان ان يتصرف بعقله فتغلب على الظروف غير المواتية بدلا من الرضوخ اليها وتركها تشكله كيف شاءت، حتى استطاع ان يزيد من ادراكه العقلي والفكري ليصل الى ما وصل اليه اليوم، فبدأت النظريات تتحدث عن الانسان والبيئة والقوى المؤثرة عليه في اختلاف الطبائع والاختلافات البدنية حين عزتها الى الظروف المناخية والجغرافية، لكن يبدو ان بعض النظريات قد ذكرت بأن البيئة وحدها لا تكفي أيضاً دون المحرك الاساس هو العقل لربط الظواهر وتجسيدها في حقائق ملموسة، كما في نظرية أرنولد توينبي"العقل والانسان" ومقارناته لمفردات الحضارات المختلفة.

و بتطور العقل ووصوله الى مرحلة النضوج الفكري تهيأ لأستقبال أول الديانات، - فرق بين العقل والفكر، فالعقل هو ادراك الاشياء وفهمها والربط بين الظواهر، اما الفكر فهو استخدام الذهن العقلي استخداماً منظماً، بينما المخ هو عضو عضلي يشترك فيه الانسان والحيوان، ولا علاقة له بالتحديد العقلي في اتخاذ القرار- فكانت اولى الديانات هي ادعاءات الأنبياء والرسل كما حدثتنا عنها القصص القرآنية الواقعية كما ذكرت في القرآن " نحن نقص عليك نبأهم بالحق، الكهف 13". هذه القصص التي اعطتنا خط تطور التاريخ الانساني بالمعرفة والتشريع والسلوك.

وعندما خلق الله البشر منحه الحرية والأمان والسلطة العادلة على نفسه والأخرين ووصاه ان لا يخترقها "أعدلوا ولو كان ذا قربى" شرط قرآني مقدس لم يلتزم به المسلمون، وبأختراقه حدث الخلل، هذا النمط من العلاقة مَثلها النبي ابراهيم والتضحية بأبنه أسماعيل من اجل العهد والوفاء، ولكن بما يؤمر"أفعل بما تؤمر" وليس بأرادتك، فحياة الانسان مُلك له وليس لأبيه او الاخرين، هذه الظاهرة الآلهية الطبيعية الفريدة انهت تحكم الأنسا ن بالأنسان فأنهت أضاحي البشرية التي كانت متبعة آنذاك للبشر، واستبدلتها بالأضاحي الحيوانية، كما كانت عند المصريين الذين يقدمون أجمل فتاة للنيل غرقا كل رأس سنة.

افرزت هذ الظاهرة ظواهر أخرى كظاهرة طوفان نوح وغرق ابنه دون قبول نجدته لكونه كان ظالماً "دعه يا نوح يغرق لأنه ليس من أهلك، هود 46، "لذا كان لابد من الخلاص من الظلم والخطأ بما يعتقد مثل: الحقد والغضب والفوضى والعذاب والموت والتجربة والقلق، هذه الاوامر الآلهية التي لم تلتزم بها مؤسسة الدين الى اليوم، وتحدثت القصص عن الصداقة والوفاء، والخيانة والتوبة والغفران، بأن لها معايير أنسانية يجب ان لا تُخرق ولا تُخان، قيم ومعانٍ نقلت من التوراة الى مزاميرداوود، ومن الأنجيل الى القرآن، لذا اوصى الله محمد ألنبي ان يقرأ تلك الوصايا ويتعلمها لينقلها للناس بأمانة النص ليكون منها وحدة الدولة والدين يقول القرآن: " ويعلمهُ الكتابَ والحكمةَ والتوراةَ والاأنجيل، آل عمران 48".اذن اين الاختلاف في الانتماء الديني الذي اعتدناعليه.هذا مسلم وذاك كافر، واين التطبيق في مجال الحق والعدل، ؟ ولاشيء.

هذه الوصايا المتماسكة جاءت لسد الفراغ الكبير في حقل المعرفة الانسانية التي اوردها قانون حمورابي والوثائق الاشورية حتى ان بعضٍ من نصوص حمورابي جاءت في القرآن (السن بالسن والعين بالعين والجروح قصاص)، لذا جاء هذا التوجه الطبيعي بوضوح العبارة، ورشاقة الصياغة الادبية والأمانة لروح النصوص الاساس، ودقة المعاني، وحسن الأداء، لذا فالقدسية جاءت فيها أعتبارااتوجهات آلهية يؤمر الأنسان بأتباعها من أجل حياة العدالة الأجتماعية دون أكراه وليست جبرية "لا أكراه في الدين"، اذن كم كانت الحرية مقدسة عند عظماء الانسان وخالقهم الآله، او طبيعة الكون التي حرصت على العدل والحقوق لتعظيم الاديان في مجتمع الانسان، لكن الانسان عبر الزمن قد خان الامانة ولم يلتزم بقيم الخالق العظيم.فلا تقل هذا مقدس وذاك ناكر لقرار الرب العظيم.

هذه التوجهات بحاجة الى تطبيقات فلسفية معرفية قائمة على التشريع والاخلاق والتاريخ تقدمها نظرية التطور حيث تكمن عقيدة التوحيد، وقانون تغير الاشياء، من هذا التوجه الرباني وضع منهج جديد في اصول التشريع والواجبات الانسانية وحتمية عدم تجاوزها في حكم الناس، لذا كانت حرية التعبير عن الرأي وحرية الاختيار في العقيدة الدينية هما اساس الحياة الانسانية على الارض وليس الأكراه، ولا غفران لمن يخترقها أو يتجاوزها بالمطلق، فالسلطة والقانون يحميان العدالة ولا يحصنان الحاكم من الخطأ كما هي اليوم.من هنا فأن الدولة والدين يقعان ضمن ثنائية الارتباط وجدليتها. فكيف الحل، ؟

الحل يكمن بضرورة دراسة التراث دراسة رأسية حقيقية لا وهمية، لمعرفة الاديان وقيمها، والانسان وحقوقه والابتعاد عن محتكريها (مؤسسة الدين والفقهاء المزورين للنص والمفسرين له واصحاب الحجيث الذي رفض الرسول تدوينه كي لا يختلط بكلام القرآن.على منهجهم الناقص في معرفة اساسيات اللغة العربية قبل أكتمال تجريداتها )التي شوهت قيمها بأحتكارهم لها، وأحتكارالسلطة والمال واعتبارهما ملك سائب لهم دون قانون، وفي الاخرة جنة وحور عين لهم ايضا ويبقى الخالق هو الذي يظلم الانسان، ولاندري من رأى بعينه التطبيق، في وقت يقول القرآن على لسان الأنبياء: "لوكنت اعلم الغيب لأستكثرت من الخير وما مسني السوء، الأعراف 188

اراد الدين ان يضمن للانسان مزاياه التي تؤهله لقيادة الانسان في الحياة ليمتاز بخلق متين وصدق وصفاء نية وبعد عن الخداع وليس لهلمة التقديس، التي فرضتها الدولتان الاموية والعباسية وجعلت نظرية الملك العضوض قاعدة القوانين عندهما.فكم كان الالتزام بها رخيصاً، بعض الشعوب التزمت بها وانشأت القانون والدستور (شعوب القانون نموذجاً) والبعض الاخر في غالبيتها حولته الى تخريف لحية وسبحة وعمامة دين فأستحقت بامتياز بُعدها عن التطبيق، ونحن منها بعد ان حولنا الدين الى سلعة تباع وتشترى بيد ولي الامر دون الناس او الجماهير حين جعلنا ولي الامر بمثابة الله والرسول "أطيعوا الله والرسول وآلوا الامر منكم "وآلوا ليس جمعا لولي ولا من مادته.حتى وصلنا الى الدرك الاسفل في الانحطاط والتخريب في قيادة الدولة وتطبيق القانون حينما زورنا حتى النص في القراءة والتطبيق.

واخير نقول لن ننجوا من كارثة استغلال الدين من قبل سلطة الدولة ومرجعياتها الا بالانتباه الى وظيفة الكلام في صنع الفكر، ومعرفة النجدين في التطبيق، اي معرفة الخير من الشر لتحصين النفس من خطأ الاقدار ليبلغ الانسان اقصى نموه العقلي في الحد العام، لذا فالاهتمام يبدأ من الصغر لينمو مع الاستقامة وهنا يلعب المنهج المدرسي دور المرشد العام في التكوين، بعدها سيصل الانسان منذ الطفولة الى سعة الخيال وعدم معرفة الحد الفاصل بين الخيال والحقيقة فينمو الذهن وتتجسد مَلكة الحقيقة عنده، حتى يصبح التخيل منظما ومرتبطا بالواقع المدرك حين يبدأ العقل بربط الظواهر للاكتشافات العلمية التي يتحول صاحبها الى اصحاب التطور والدعوات الى حقوق الانسان بالقانون، هنا تظهر رجالات القيادة المرتبطة بالحقوق وبناء الدولة والانسان جراء عدم المبالات بالمكاسب الشخصية بالاستعداد للتضحية في سبيل الوطن والاخرين، لا تخريفات المتدينيين، في الافضلية والمعصومية وغيرها من اساليب التخريف.فلا معصوم حتى الانبياء لقوله تعالى: "يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك فان لم تفعل فمابلغت رسالته والله يعصمك من الناس المائدة 67".فالعصمة هنا في الرسالة وليس في شخصه الكريم.

وتبقى البيئة الجغرافية التي ينشأ فيها هذا الوعي من الانسان لها اثر كبير في الشكل الحضاري الذي ينِشأه.لأن الانسان يأخذ مادته الحضارية مما حوله، اي مما ورثه من بيئته التي ربت له عقله، حتى يستطيع التغلب على الظروف غير المواتية بدلا من الرضوخ اليها، لذا شق الانسان الواعي صعوبات العصور وتحول الى الوعي التطوري الكبير.

يقول حكيم: " من التوثيق حفظ التجربة للتغيير نحو الاحسن فالحياة وفق صيرورة الزمن تتغير للاحسن ولا نص يبقى ثابتا، ومن لا يقبل بنظرية التاريخ يبقى ملتحفاً بعباءة التخلف بين البشر، لذا نرى ان الفاشلين في التطور يصنعون من انفسهم رجال دين.

***

د.عبد الجبار العبيدي

في المثقف اليوم