قضايا

علاء اللامي: عن الفرق بين الباحث والإعلامي وأنواع الصحافة في عصرنا

قبل أكثر من عشرين عاماً سألت كاتباً سويسرياً صديقاً جمعتني به ظروف العمل، وكنت أظنه آثاريا "أركيولوجيا" أو إناسيا "انثربولوجيا" نظراً لاهتماماته ومعلوماته الموسوعية في هذه العلوم، وكان قد نشر ثلاثة كتب، كتابان منها عن الحضارة المصرية القديمة وثالث عن حضارة المايا في أميركا الوسطى إلى جانب عشرات وربما مئات مقالات، سألته قائلا: بوصفك أنثروبولوجيا، ما معلوماتك عن الخلاف بين العلماء الأنثروبولوجيين حول القضية الفلانية وأي الجانبين تؤيد؟ فرد عليِّ مستغرباً وضاحكا: مهلا، مهلا، ولكن من قال لك أنني أركيولوجي؟ قلت له: مقالاتك وكتبك الثلاثة عن الحضارات القديمة هي التي قالت لي ذلك! وحينها قال لي: لا يا عزيزي، أنا لست أركيولوجيا ولا أنثروبولوجيا ولا مؤرخا محترفا بل مجرد كاتب صحافي متخصص في هذه العلوم والمجالات، والفرق كبير بين الباحث العالم والكاتب الصحافي الإعلامي المتخصص! ألا تعرف أن الصحافة والإعلام أنواع مختلفة؟

بصراحة، لم أكن أعرف الفرق بين هذه الأنواع والتخصصات الصحافية، وحتى حين عرفتُ وبدأتُ البحث عما يؤكد وجودها في المشهد الثقافي العربي لم أجد سوى الفوضى الهائلة والتدخل البدائي الشديد. فباستثناء "الصحافة الاستقصائية" ربما، والتي انتشرت في العقدين الأخيرين في العراق، لا نكاد نجد شيئاً يروي الغليل، أما الصحافة الميدانية فهي تابعة للصحافة الإخبارية وفرع مكمل منها، يقوم به المراسلون الميدانيون، الحربيون وغير الحربيين.

ولهذا، أقدم هذه البسطة السريعة في أنواع الصحافة المعاصرة حتى لا نخلط بين الصحافي والإعلامي المتخصص في ميدان علمي أو حياتي معين وبين العلماء المتخصصين فيها فليس من الصحيح أن يطلق كل من نشر بضع مقالات أو بضعة كتب في التاريخ العام أصبح مؤرخاً أو عالماً متخصصاً رغم أنه لا يحمل شهادة علمية رفيعة من جهة علمية معترف بها، وتجربة في التنقيب الآثاري ذات حصاد حقلي جيد وإتقان للغة قديمة أو أكثر، وخصوصا اللغة الأكدية أو السومرية أو الآرامية وغيرها. وإذا كانت الشهادة ليست كل شيء، ويمكن التعويض عنها بالتعلم والدراسة الذاتية، وأعرف شخصيا باحثين عصاميين عرب محترمين لا يحملون شهادات علمية رسمية ولكنهم يتقون أكثر من لغة قديمة منقرضة أو شبه منقرضة وعملوا في فرق للتنقيب في بلدانهم أو خارجها وقد أصدروا كتباً ودراسات مهمة تنبئ عن قدرات علمية مرموقة. وللأسف فأنا لستُ من هؤلاء ولا أسمح لنفسي بالتبجح بصفة الباحث المتخصص وأعتز بكوني إعلامياً وصحافياً متخصصاً هاوياً وليس محترفاً وقد أكون باحثاً في التراث العرب إسلامي واللغة العربية ولهجاتها وهذا أمر لا يهمني كثيرا سواء كنتُ أحوزه فعلا أم لا!

أما كلمة "مُفَكِّر" فهي فضيحة اصطلاحية كاملة، كيف ذلك؟ إنَّ هذه الكلمة التي أطلقت في عصرنا على كل من هبَّ ودبَّ حتى إنها أطلقت على بعض الحكام المستبدين في بلداننا والذين أصدر بعضهم كراسات وكتيبات تحوي بعض خواطرهم وأفكارهم الإنشائية الفارغة.

فهذه الكلمة "مفكر" وهي صيغة اسم الفاعل من الفعل الثلاثي المزيد بالتضعيف "فكَّر"، ليس لها مقابل استعمالي في اللغات الأجنبية المهيمنة إمبرياليا، ولو أنك فكرت باستعمالها في حديثك وقلت ما يرادفها حرفياً في اللغة الإنكليزية (THINKER) أو بالفرنسية (PENSEUR) لضحك منك السامعون من أهل هاتين اللغتين. ومع  ذلك، فقد تأتي الكلمة بمعنى مثقف أو مثير للتفكير أو سوفسطائي ...إلخ، ولكنها لا تعني ما تعنيه في اللغة العربية فهي لا تستخدم بالشكل والمعنى الاستعمالي الذي تستعمل به في اللغة العربية، وتحديدا بمعنى يحايث وبشكل تقريبي معنى كلمة الفيلسوف والعالم والباحث الكبير، تخلو من أي محمول محدد إلا بما يوحي بالفخفخة والوجاهة المضافة إلى صفة الباحث. أما كلمة (علّامة) فهي كلمة عربية لا مقابل لها في اللغات الحية الأكثر هيمنة انتشارا، ولا تبتعد كثيرا عن كلمة "مفكر" ويكاد استعمالها يقتصر على اللغة العربية وتعني العالم الكبير وهي صيغة مبالغة من عالم وتعني "واسع العلم والمعرفة"، ويمكن لنا استعمال كلمة "باحث" أو عالِم" مطرح مفكر أو (علًامة) دون أن يختل المعنى أو تقوم القيامة.

ولا أدري أي نوع من المفكرين هذا الذي لا يفرق أحد الموصوفين به بين شمال وجنوب البحر المتوسط وشرقه وغربه فيستبدل مصطلحات جيوسياسية راسخة بأخرى من ابتكاره ولا وجود له هو في الجغرافيا من قبيل "شعوب شرق وغرب المتوسط"! نترك هذا المفكر بسلام ونستعرض أدناه أنواع الصحافة المعاصرة بشيء من الاختصار:

1- الصحافة الاستقصائية:

يقول تعريفها الأكاديمي؛ هي الصحافة التي تتولى التحقيق في موضوع معين مثل الجرائم الخطيرة أو الفساد السياسي أو مخالفات الشركات...إلخ. وقد يقضي الصحافي الاستقصائي شهورا أو سنوات في البحث وإعداد التقرير. تعد الصحافة الاستقصائية مصدرا رئيسيا للمعلومات. معظم الصحافة الاستقصائية يقوم بها صحفيون يعملون لدى صحيفة أو وكالة أنباء أو عامل حر.

ويقوم العمل الصحافي الاستقصائي على مبادئ من أهمها:

* الحياد في جمع وتقديم المعلومات الموثقة والمعلومات المعاكسة إنْ وجدت.

* السرية في كتابة التقرير الصحافي الاستقصائي حتى يوم النشر وعدم السماح باستغلاله لأغراض سياسية أو غيرها بهدف الابتزاز.

* سبر أغوار الموضوع من كافة الجوانب وتسليط الضوء على خلفياته وجوانبه غير المعروفة.

2- الصحافة الميدانية:

وهي الصحافة التي يشكل المراسلون والمراسلات في ميدان الحدث عمادها الرئيس، وينبغي أن يكون هؤلاء صحافيين ميدانيين بشكل خاص فليس كل صحافي مكتبي يمكن أن يخرج من مكتبه ويكون مراسلا ميدانيا.

في هذا الصدد يقول أستاذ الإعلام في الجامعة اللبنانية راغب جابر الذي اختبر العمل الصحفي خلال عقود، إن "الصحفي المكتبي لا يستطيع أن يصنع حكاية من الحدث، بينما المراسل الميداني يمكنه فعل ذلك". ويرى أن مستقبل التغطيات الميدانية هو "للكتابة الانطباعية وحركة الكاميرا التي يجب ألا تصور تصويرا جافا"، لافتا إلى أن التغطية التقليدية "لم تعد جاذبة للمشاهد، وبالتالي أصبح دور الصحفي أكبر، وهو ما يستوجب تدريبا مستمرا"، وكذلك وجود "سقف حرية مرتفع على المؤسسات توفيره لصحفييها الميدانيين".

ويجزم جابر بأن هناك صحفيين أو مراسلين لا يملكون متطلبات الحد الأدنى المطلوب للقيام بتغطيات ميدانية، وأن أخبارهم تؤشر على "سياسات تحرير مقررة سلفا، تطبع عملهم إرضاءً لمؤسساتهم فيفقدون جزءا من حريتهم".

3- صحافة المواطن:

وعنها نقرأ "صحافة المواطن هو شكل جديد من أشكال الممارسات الصحافية غير المهنية. ومع تطور هذه الممارسات، بدأت صحافة ‏المواطن تأخذ حصتها من النقاشات والأبحاث في البلدان المتقدمة على المستوى الإعلامي.‏

وقد كان ومازال يشار إلى هذه الظاهرة الإعلامية باستعمال مصطلحات متنوعة من قبيل (الصحافة التشاركية)، ‏و(الإعلام مفتوح المصادر)، و(الإعلام الديمقراطي)، و(صحافة الشارع)، و(الإعلام البديل)، و(الصحافة ‏الشعبية) إلى غير ذلك من التسميات والمصطلحات التي كانت قد طُورت من طرف الباحثين في هذه الظاهرة ‏الإعلامية والمنظرين لها مثل: كليمينسيا رودريغيز صاحبة مصطلح (إعلام المواطن)، وبومان ويليس صاحبي ‏مصطلح (الصحافة التشاركية)، ودان جيلمور صاحب مصطلح (الصحافة الشعبية)، وهاكيت وكارول صاحبي ‏مصطلح (الإعلام الديمقراطي). وعلى الرغم من وجود اختلافات بسيطة بين هذه التسميات إلا أن تصوراتها ‏تصب في نفس الاتجاه كما سوف نرى. مقالة بعنوان " صحافة المواطن وتجريد المفهوم/ مجلة العربية عدد العدد (567) كانون الأول - ديسمبر 2023 م".

4- الصحافة المتخصصة "الإعلام التخصصي" ويسمى أيضا الصحافة العلمية في العلوم:

هناك أكثر من تعريف للصحافة المتخصصة؛ هي الصحافة التي تمثلها صحيفة أو مجلة أو دورية تعطي أكبر قدر من الاهتمام لفرع واحد من فروع التخصصات العلمية التي يهتم بها نوع واحد من القراء.

التعريف الثاني: الصحافة التخصصية أو المتخصصة هي التي تُعنى بجانب واحد من اهتمامات القراء في التطلع والاستزادة منها وهي ليست صحافة للعامة أو المجتمع كله وإنما مقتصرة على قطاع معين من القراء.

وربما كان هذا النوع من الصحافة من أعقد الأنواع وأكثرها دقة ويتطلب مهارة خاصة وثقافة علمية في التخصص المعني دون ان يكون الإعلامي بعد كل هذا باحثا أو عالما فللباحث صفاته ومهاراته وشهاداته العلمية وطريقة عمله.

من أنواع الإعلام التخصصي نجد الصحافة المتخصصة بعلوم الفضاء والفلك أو الفيزياء أو الرياضات المختلفة أو في علوم الاجتماع والتاريخ وغيرها من العلوم الإنسانية أو تلك التي تدمج بين العلوم الإنسانية والتجريبية كالأركيولوجيا والانثروبولوجيا وفروع التأريخ المتعددة وهذه العلوم كما هو معروف سائرة نحو المزيد من التفرع إلى تخصصات أدق وأضيق ميدانا.

وعلى المتصدين للعمل البحثي والإعلامي والصحافي أن يتبينوا ويفهموا الفروق الكبيرة والدقيقة بين هذه الأنواع من الإعلام والصحافة على الأقل للخروج من الأمية المعلوماتية في هذا الباب ومغادرة الفوضى الهائلة التي تسم المشهد الثقافي والإعلامي في بلداننا.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

في المثقف اليوم