قضايا

ثامر عباس: عقدة الهاجس الأمني لدى الشخصية العراقية !

يكاد يندر أن تجد إنسان عراقي يمتلك فضيلة (المطابقة) بين ما يقوله ويعلن عنه جهارا"من جهة، وبين ما يفكر فيه ويعتقد به باطنا"من جهة أخرى، بحيث يبدو كما لو أنه يعيش بين عالمين منفصلين ومتناقضين ؛ يظهر الجرأة والجسارة في الحالة الأولى، ويضمر الاستكانة والتقية في الحالة الثانية . ولهذا قلما نصادف في حياتنا اليومية وجود من يعبر عن ومضات عقله بصراحة وخلجات نفسه بوضوح ، وهو ما يعتبر بالنسبة لعلماء النفس والاجتماع حالة متقدمة من حالات (سايكوباثيا) الشخصية بحاجة الى تشخيص الأعراض وعلاج المسببات .

وكما في كل الظواهر الاجتماعية والإنسانية الشاذة والغريبة التي يمكن مصادفتها في حياتنا اليومية، لا يشكل الفرد العراقي - في هذا الإطار - حالة استثناء كما قد يوحي عنوان المقال لمن يستهويه هذا الأمر ويستمرئه، وإنما هي ظاهرة من جملة ظواهر عامة وشائعة يمكن رصدها وتشخيصها لدى أفراد وجماعات أخرى في بيئات اجتماعية وثقافية مختلفة . ولكن ما يتميز به الفرد العراقي عن سائر أفراد المجتمعات كونه (يتفوق) بأشواط على أقرانه في استبطان عقدة (الهاجس الأمني) واجتياف تبعاتها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، لا في إطار وعيه الظاهر (الشعور) وما يتمخض عنه من تصرفات وسلوكيات غالبا"ما تتسم بالفضاضة والخشونة، الأمر الذي يسبغ عليها طابع التطرف في المواقف والعنف في العلاقات فحسب، وإنما في مطمور لاوعيه الباطن أو (اللاشعور) وما يتوقع أن يترتب عليه من تمثلات وتصورات غالبا"ما كانت مشحونة بفائض من القلق إزاء المستقبل، والخوف من المجهول، والريبة من الغريب، التوجس من المختلف .

والحقيقة انه إذا ما حاولنا إيجاد تفسير مقنع يميط اللثام عن أسباب تمكن هذه الظاهرة من شخصية الإنسان العراقي المدجنة واستيطانها داخل شعاب سيكولوجيته المترجرجة، فلعلنا لا نجانب الصواب حين نزعم ان العلة الأساسية التي وسمت تفكيره وبرمجة وعيه بالشكل الذي ينم عن قلة حيلة وانعدام إرادة وفقدان مصير، إزاء سلاسل متواصلة من سياسات وإجراءات التجويع الاقتصادي والترويع النفسي والتركيع السياسي والتضييع الإنساني، التي لم تبخل أنظمة الحكم السياسية السابقة واللاحقة في جعلها طقوس متوارثة بين أجيال المجتمع طيلة عقود متقادمة وتواضعات متراكمة، حتى أضحت جزء حيوي من تكوينه الذهني والسيكولوجي .  

ولعله لو بحثنا في سيرورات وديناميات تاريخ المجتمع العراقي، لوجدنا من الأسباب والدوافع القاهرة ما لا يجعل فقط من شخصية الفرد العراقي عرضة لدوامات الخوف والقلق والتوتر فحسب، وإنما يحلها الى كتلة مضطربة تتلظى بجحيم لا يطاق من جنون الارتياب والهلع من كل ما له صلة بمؤسسات الدولة الأمنية وعناصر السلطة القمعية التي تحيط به من كل جانب . لاسيما وان هذا الإنسان المقهور في إرادته، والمهدور في إنسانيته، والمغدور في حقوقه، قلما عرف فترة من فترات تاريخه المخضب بدماء الأبرياء والبؤساء، والمعفر بدخان الحروب والصراعات . استشعر خلالها انه يعيش في ظل (دولة راعية) تحميه من غوائل الخوف والعنف من الآخر، مثلما يتمتع برعاية (مجتمع حاضن) يجنبه الوقوع بين براثن العزلة والاغتراب . ولهذا غالبا"ما نجد ان مشاعر (الثقة) المتبادلة بين رجل الأمن ونظيره المواطن العادي، كانت - على الدوام - ليست فقط ضعيفة وهزيلة وإنما ملغية ومعدومة بالكامل، هذا ان لم تكن ملغومة بالحقد والضغينة والكراهية، بحيث ان الحديث عن هذا الأمر يبدو أشبه ما يكون بثرثرة سمجة منه بتوصيف حالة واقعية معاشة . 

والمشكلة ان التربية البيتية (الأبوية) والتنشئة الاجتماعية (القبلية)، ساهمتا – كلا"في مجالها الخاص - في تكريس مثل هذه المخاوف وترسيخ مثل هذه الهواجس، سواء عبر سيرورات (المجايلة) الفاعلة في مثل بيئة المجتمع العراقي، حيث الروابط الأسرية والصلات القرابية والانتماءات العصبية لها اليد الطولى في تنميط وعي الفرد ونمذجة سلوكه، أو من خلال الممارسات والإجراءات البيداغوجية والإيديولوجية التي لا تفتأ السلطات السياسية من حمل مكونات المجتمع على الامتثال لتعاليمها والاجتياف لقيمها، بحيث لا تترك أي مجال أمام من يتجاسر على ردم الهوة بين من يرمز الى الدولة / السلطة، وبين من هو خارج وصايتها المستمرة ورقابتها المتواصلة ! . 

***

ثامر عباس

في المثقف اليوم