قضايا

النزاع بين الغرائز الأخلاقية والعقل الواعي

هل كان عالم الأحياء جيرمي غريفيث في كتابه الحرية،  أول أكتشف التعارض بين الغريزة الفطرية والعقل الواعي؟ فكانت الحالة البشرية الفاسدة نتاج ذلك النزاع، منذ حوالى المليوني سنة، والذي لا نزال تحت وطأته المدمرة.

يجيب هو نفسه على هذا السؤال فيقول: أنا لست أول من حدد عناصر الغريزة مقابل العقل، المشاركة في إنتاج الحالة البشرية.

وقد كتب جيرمي غريفيث شرحا مفصلا في الفصلين 6:2  و 7:2  في كتابه الحرية؛ نهاية الحالة البشرية، يقول كان هناك العديد من المفكرين عبر التاريخ، بل والعديد من المفكرين العظماء المعترف بهم الذين أدركوا الأجابة على سؤالنا وهو؛ هل أن الحالة الأنسانية المضطربة؛ الغاضبة؛ ألأنانية والمغتربة، تكمن في فهم الصدام الذي يحدث بين غرائزنا الراسخة بالفعل والعقل الواعي الذي ظهر مؤخرا.

أن كل ما مطلوب لأنتاج حالة من الإضطراب النفسي لدى نوع ما هو أن يصبح واعيا؛ لأن هذه القدرة على التكيف الذاتي يجب أن تتحدى بطبيعة الحال غرائز غير متبصرة، متعصبة ومستبدة، لا يهم ما هو التوجه الخاص لغرائز النوع، فحقيقة ان الغرائز غير ذات بصيرة ثاقبة، يعني أنه لا مفر من حدوث صراع مزعج مع العقل الواعي القائم على البصيرة والذي يضبط نفسه بنفسه، لذلك بغض النظر عن التوجه الغريزي لكائن ما؛ إذا طور عقلا واعيا تماما فلابد ان تحدث معركة مزعجة بين تلك الغرائز والعقل الواعي؛ لكن الأهم من ذلك أن هذا  لا يعني أن التوجه الخاص لغرائز هذا النوع لا يمكن ان يكون له تأثير على اصدام مع العقل الواعي، يمكن أن يؤثر عليه بشكل كبير جدا؛ كما حدث عندما أصبحنا نحن البشر واعيين تماما، نحن البشر لدينا غرائز أخلاقية تعاونية؛ ونكرانية للذات ومحبة، وصوتها أو بالأحرى الضمير؛ التعبير عن هذا الصوت الداخلي.

أدرك دارون أن طبيعتنا الأخلاقية المميزة عندما كتب: "أن الحس الأخلاقي ربما يوفر أفضل وأعلى تمييز بين الإنسان والحيوانات الأدنى" الأمر المهم للغاية بشأن إمتلاك البشر لغرائز تعاونية ومحبة ونكران ذات، هو أننا عندما اصبحنا واعيين تماما، وبدأنا في تجربة الفهم؛ وتعرضنا للإنتقاد من غرائزنا وإستجبنا بشكل لا مفر منه بطريقة غاضبة وأنانية ومنعزلة، تسببت هذه الإستجابة المثيرة للخلاف في أنتقادات أكبر من غرائزنا، ثم مرة أخرى لردة فعلنا على تلك الإدانة بطريقة تتعارض وتسئ الى غرائزنا، وكان علينا أن نحتمل ضربة مزدوجة من النقد؛ عندما اصبحنا واعيين، هذا التأثير (الضربة المزدوجة) الناتج عن وجود غرائز اخلاقية ، وهي السبب الأساسي للإحباط والغضب الكامن في سلوكنا وايضا للذنب الهائل وإنعدام الأمن الذي استلزم ان نتبنى الغرائز الوحشية غير الحقيقة والصادقة، وبهذا تفاقم الصراع بين الغرائز والعقل في حالة جنسنا البشري الى حد كبير .

أريد أن أقدم إعترافا بهذا الصراع من قبل بعض المفكرين في العصور القديمة (وسنذكر لاحقا مفكرين مشابهين من العصر الحاضر).

كان الفيلسوف العظيم إفلاطون من بين أوائل من اكتشفوا (الحالة البشرية) طرح فكرة أن كل البشر يختبؤون في كهف (رمز جهلهم بفهم حالتهم البشرية الفاسدة) وتوجد نار تمنع الخروج من الكهف (رمز لضوء الحقيقة  الحارق والمسبب للألم عند محاولة الخروج) والخوف من رؤية عيوب الحالة البشرية التي لا تطاق، لذلك يختبئ البشر أعمق وأعمق في ظلام الكهف .

ولنأحذ النبي موسى الذي كان قادرا على التحدث مع الله*، وفهم المعنى التكاملي للحياة (التكامل وتجسيد لـ  الله).

آدم وحواء بعد أن أكلا الثمرة المحرمة (شجرة المعرفة) وصارا واعيان، حدث السلوك الإنقسامي أو الخطي.

يعني أن جنسنا البشري عاش ذات يوم بشكل تعاوني ومحب، ثم بعد أن أصبحنا واعين فقدنا تلك الحالة، وبالتالي صرنا خطاة  أشرار مذنبين؛  وعدوانيون نستحق الطرد من الجنة، أن كلمة عدن تعني باللغة العبرية البيت الأول.

بالطبع ما ينقص رواية النبي موسى هو التفسير النقدي التعويضي: لماذا البحث عن المعرفة يجعلنا غاضبين وانانين ومنعزلين، وهو الأمر الذي كما أكدت (المقصود بأكدت: جيرمي غريفيث)  في عرضي السابق؛ اصبح بإمكان العلم إكتشاف الطريقة المختلفة التي تعمل فيها  كل من الجينات والأعصاب، اي أنه بينما يمكن للجينات ان تحدد إتجاهات الأنواع، تحتاج الأعصاب الى فهم السبب والنتيجة من خلال العقل، وبما أن العلم لم يكتشف وجود الجينات والأعصاب وكيفية عملهما؛ إلا خلال الـ 160 عاما الماضية او نحو ذلك (الفترة منذ نشر دارون نظريته في الإنتقاء الطبيعي) فهذا مقدار مذهل من الوقت الذي قضيناه نحن البشر الواعون تماما، ان نعيش دون القدرة  على فهم انفسنا بصدق؛ طوال  حوالي المليوني سنة في الواقع، لذا يمكننا الآن أن نرى مدى  أهمية (حرمان اسلافنا من العيش بشكل تعاوني ومحب،  بدلا من ذلك نخدع انفسنا بأنهم كانوا بشرهمج ومتوحشون، يحاولون إنتاج جيناتهم مثل سائر الحيوانات الأدنى مرتبة في سلم التطور؛ لآنه بدون هذا الإنكار وهذا العذر لن نتمكن من ذلك لكي نتعايش مع انفسنا طوال ذلك الوقت، ويمكننا منذ الآن ايضا ان نرى كم هو مريح للغاية ان يكون لدينا الفهم السبب  الحقيقي  لحالتنا الفاسدة، وأن لا نضطر بعد الآن الإستتمرار في تمثيلية الإيمان بقدر كاذب .

***

صالح البياتي

.........................

الهامش

- كل ما ورد في المقاله هو للعالم الأحياء جيرمي غريفيث.

- النبي موسى كليم الله.

في المثقف اليوم