قضايا

معاذ محمد رمضان: المتطفّلون على التاريخ

نسمعُ بين الحين والآخر من يتحدث بقضايا التاريخ وبثقة تامة! فنراه "مُحَلّلاً" و"مُفكِّكَاً" لحوادث كبيرة وخطيرة فيه:

كانت ثورة 14 تموز مجرد انقلاب بريطاني ضد النفوذ الأمريكي "الوافد الجديد" الى المنطقة!

سرق عبد الكريم قاسم خطط مجلس الإعمار الملكي ونفّذها ثم نسبها لنفسه!

لم يكن النظام الإقطاعي في العراق من صُنع النظام الملكي العراقي، بل كان "تركَةً عثمانية".

وهي كلمة حق يُراد بها باطل بكل تأكيد، اذ يتم التغاضي من خلالها على "الإدامة الملكية العراقية" لهذه التركة!!، والا فهل اطلّع صاحب هذه المقولة على الرؤية السعيدية ـ نسبة لنوري السعيد ـ للوضع الاجتماعي آنذاك؟ فقد ذكر السعيد وبكل صراحة أمام مجلس النواب في عام 1931، بأن المولود من أبٍ فقير سيبقى فقيراً، والمولود من أبٍ غني سيبقى غنياً، وهكذا تجري الأمور!! (1).

أتحدث هنا عن تاريخ العراق المعاصر، باعتباري مهتمٌ ومختصٌ به. لكني اليوم سأنتقل لتاريخ بلد آخر، ألا وهو "تاريخ ايران المعاصر".

يعلم القارىء المتابع لكتاباتي بأني لم أخض في تاريخ ايران أبداً، ويرجع هذا لعدم الاطلاع على تاريخ هذا البلد الكبير. لكن بعد ان بدأت بقراءة هذا التاريخ، سأسمح لنفسي أن أتحدث عن "المتطفلين" عليه، كما تحدثت عن أقرانهم في تاريخ العراق المعاصر.

يتحدثون كثيراً عن ايران البهلوية، وكيف تم التغيير فيها، من خلال ما يلي:

قامت المخابرات الأمريكية بتدريب وتجنيد آية الله الخميني في فرنسا، ثم جاءت به الى طهران وأزاحت النظام الشاهنشاهي!!!

ديباجة في غاية السهولة! فما أسهل أن يتحدث الشخص بعيداً عن التثبّت والتعَقّل! والأنكى من هذا أن هناك من "يقطع" برأي في التاريخ، وعندما تسأله: كيف وصلت لذلك؟ سيقول: من خلال التفكير العقلي!! وهذا يعني "الجهل" بعينه في التاريخ، إذ لا تاريخ بلا وثائق (2)، لكن أنّى لهؤلاء التحدث من خلال الوثائق والمصادر والمراجع! فلو تحدّثوا من خلالها، لما رأيناهم "يقطعون" بالرأي بهذه السهولة واليُسر! لكني لم أستغرب منها ـ هذه الديباجة ـ كثيراً، فقد خبرتها سابقاً في تاريخ العراق وثورة تموز كما أسلفت. وفي اطار الرد على هذا الزعم لا بُدّ من الآتي:

هل اطّلع هؤلاء على تاريخ الخميني؟ هل تعرّفوا على شخصيته؟ هل قرأوا خطابه الذي ألقاه في المدرسة الفيضية يوم 4 / 6 / 1963 عندما وصف الشاه محمد رضا بهلوي صراحة ب"الشقي البائس" (3)؟ هذه الشخصية الحدّية التي لا تعرف غير ما تؤمن به، وتقولها بشجاعة منقطعة النظير.

هل اطّلعوا على ما حدث بين رسول الرئيس العراقي أحمد حسن البكر ـ وهو زوج ابنة البكر ـ والخميني؟ فقد أرسله البكر في عام 1974 الى الخميني في النجف عندما كانت العلاقات متوترة بين العراق وايران، فطلب البكر تأييد الخميني في حملة يشنها العراق ضد الشاه، فرفض الخميني الطلب، إذ آثر على نفسه ان يختار وقت الهجوم والاّ يتعاون مع أحد (4).

وهل اطّلعوا على المؤتمر الصحفي لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية جيمي كارتر في 12 / 12 / 1978 عندما عَرّض فيه بالخميني ضمنياً واصفاً بياناته بالطائشة مع عدم الإشارة لإسمه؟ فعَلّقت صحيفة نيويورك تايمز قائلة: لقد تَعَمّد كارتر عدم الإشارة الى الاسم الذي كان في ذهنه وهو الخميني (5). وهل عرفوا برَدّ الخميني على كارتر عندما وصفه صراحة: أنت كذّاب؟! وكارتر أفسد شخص على وجه الكرة الأرضية عند الخميني!(6).

وهل يعلمون ب"فوضى" الإدارة الأمريكية في التعامل مع الأزمة الإيرانية بين: سوليفان وبرجينسكي وهايزر وفانس لدرجة أن يُصاب كارتر بالصداع كما ذكر شابور بختيار آخر رئيس وزراء بهلوي (7). فكلّ يُلقي اللوم على الآخر، برجينسكي يلوم فانس، وفانس يوجّه اللوم الى العسكريين، والعسكريون يوجهون اللوم لوكالة المخابرات المركزية، والوكالة تشكو من عدم اطلاق يديها (8). والنهاية أن الولايات المتحدة كانت ساذجة في تعاملها مع الشأن الإيراني (9).

ثم هل سأل هؤلاء أنفسهم سؤالاً قهرياً:

ما الذي ستجنيه الولايات المتحدة من اسقاط رجلها المطيع بل "شرطيها" في المنطقة، والمجيء بنظام اصولي قروسطي لا يعترف بالحداثة؟ فقد بدا الخميني لهيكل آنذاك وكأنه شخصية من شخصيات الفتنة الكبرى في الإسلام، رجل لا علاقة له بزماننا (10)؟؟

وأخيراً لا بُد من الآتي:

اعترف آية الله الخميني بجميل الولايات المتحدة التي أوصلته الى السلطة، بأن قام بمحاصرة سفارتها، واحتجز الأمريكيين فيها بحادثة الرهائن المشهورة!!!

النتيجة التي نروم لتسليط الضوء عليها:

لا يمكن لمن هَبّ ودَبّ أن يتحدث في التاريخ، فهو علم له أصول وضوابط لا بُد من مراعاتها قبل الدخول اليه والخوض فيه، أما من يَتَطَفّل ويتَدَخّل لمنطقة لا يُجيد السير فيها، فليس أمامه الا أن يكون "سخرية" للتاريخ.

تنبيه: لا بد من التأكيد هنا على أننا نقول بذلك بعيداً عن الاتفاق والاختلاف مع الاتجاه الإسلامي المتمثل بآية الله الخميني، فالفصل بين اتجاه الباحث ـ آيديولوجيته ـ وبين الموضوع الذي يتناوله، أي الفصل بين الذات والموضوع، ضرورة قاهرة للباحث الموضوعي.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

............................

الحواشي:

1ـ حيدر عطية كاظم: الفقراء في العراق والموقف الرسمي والشعبي منهم 1921 ـ 1945 دراسة تاريخية ج1، وزارة الثقافة والسياحة والآثار، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد 2023 ص63 و 64

2ـ المصدر السابق ص12

3ـ غلام رضا نجاتي: التاريخ الإيراني المعاصر ـ ايران في العصر البهلوي، نقله الى العربية: عبد الرحيم الحمراني، مؤسسة دار الكتاب الإسلامي قُم ط1 2008 ص234

4ـ محمد حسنين هيكل: مدافع آية الله ـ قصة ايران والثورة، دار الشروق القاهرة ط6 2002 ص185

5ـ غلام نجاتي: المصدر السابق ص625 و 626

6ـ المصدر السابق ص627 و 679

7ـ المصدر السابق ص670

8ـ هيكل: المصدر السابق ص220

9ـ غلام نجاتي: المصدر السابق ص747

10ـ هيكل: المصدر السابق ص8

 

في المثقف اليوم