قضايا

علاء البغداديّ: البحثُ عن المُثقَّف الحُرّ

إنَّ من أهمّ الخصائص التي ينبغي أن يتميّز بها المثقّف عن غيره، أنّه كائنٌ مُتَمرّدٌ على السُّلطات في أغلبِ الأحيان، وهذه الخاصيّة متأتية من كونه يمتلك هوساً نقديّاً كبيراً يجبره دائماً إلى أن يكون توّاقاً إلى بلوغ الحقّيقة من جهة، ومن جهةٍ أخرى النّظرة الإزدرائيّة التي ينظر من خلالها أصحاب السُّلطة إلى المثقّف في أغلب الأحيان، ومن هنا فلا يُمكن له - أيّ المثقّف - الانصياع أو الانحياز لغير سلطة المعرفة والإصلاح والتّغيير نحو الأفضل.

فهل هناك نهاية لهذه القطيعة الجدليّة وردم هذه الهوّة بین المثقّف والسُّلطة، وإمكانيّة البحث عن منطقة اشتغال مشتركة؟ وكيف يتأتّى ذلك؟

فالمثقّف يعتبر نفسه مجبولاً على الانفلات من كلّ قيود السُّلطة وسلوكيّاتها ومناطق فاعليّتها، معتقداً أنّ الحِسّ النّقديّ الذي ينماز به لا يسمح له مُطلقاُ بالمواءمة والتّحالف معها. والسُّلطات من جانبها تستشعر فوقيّة كبيرة - ومقيتة - وهي تتناول الشّأن الثّقافيّ، تجبرها على عدم الظّهور إلّا بصورة السّلطان الذي ينبغي أن ينصاع الجميع لأوامره ويؤدّي فروض الولاء والطّاعة أمام هيبته وسطوته، وأنّ محاولة تجسير العلاقة مع المثقّف قد تُفَسّر على أنّها شكلٌ من أشكال التّنازل والانهزام!!

وتأسيساً على ما تقدَّم، ينبغي الخلوص إلى منطقةٍ وسطی تجمع الطّرفين وتحثّهم على العمل المشترك، من أجل تحقيق الكثير من الغايات النّبيلة، وذلك من خلال إصغاء السُّلطات إلى صوت المثقّف والاكتراث بمشاريعه وتطلّعاته، فضلاً عن التّركيز على أهمّيّة حضوره النّقديّ بعيداً عن ممارسات الاحتواء والالتفاف البغيضة، التي تُمارسها بعض الجهات وهي تستهدف تجيير المثقّف وأدلجته، بل وتسييره للعمل في مناطقٍ محدّدة سلفاً بما يتوافق مع مصالحها.

لذا، فمن الضّروريّ جداً أن ينتبه المثقّف إلى أهمّيّة احتفاظه بميّزاته النّقديّة المُتمرّدة أثناء تعاطيه مع السُّلطة، وهذا ما يُحتّمهُ عليه الضّابط الأخلاقيّ والثّقافيّ. ومن الضّروريّ أيضاً أن تعمل السّلطة جاهدة على أن يحتفظ المثقّف بكلّ خصائصه ومَلَكاته ونَزَعاته، وأن تدرك جيّداً بأنَّ الحاجة إلى المثقّف لا تستقيم في حالة تجريده من نزعة النّقد والتّمرُّد، لأنّها محور الأداء والعطاء فيه.

وكذلك لا بدّ أن يُدرك المثقّف بأنّ من أهمّ مصاديق الفكر، أو لنقل تَمَثّلاته، هو أنّه من أهمّ الفنون التي تُسهم في صناعة العقل، وهنا سيكون المُفَكّر ممن يَتَحكّمون بالمصائر، شَريطة أن لا يُمارس التّفكير نيابةً عن الآخرين ولا يؤمن بذلك أبداً..

بمعنى آخر، عليه عدم الإيمان بأنّ النّاس مُجرّد أدوات استهلاكيّة لأفكاره أو للأفكار التي يطرحها عليهم بُغية التّرويج لها، ويجب على المُفكّر الخروج من عُقدة التّعالي على النّاس، وأن يزرع الثّقة فيهم، ولا بدّ أن يؤمن ويُدرك بأنّهم ليسوا الأتباع الذين عليهم السّمع والطّاعة دائماً، وأنّ مَن يودّ أن يكون مُفكّراً بين النّاس، عليه أن يهبهم القدرة ليس فقط على تقبُّل أفكاره وتداولها، بل لا بدّ أن يسمح لهم بالتمرُّد عليها، فضلاً عن مناقشتها وتصويبها، وكذلك من يسعى لتحرير النّاس فكريّاً، عليه أن يؤمن بضرورة أنّهم قد يكونوا يوماً ما، ندّاً له ولأفكاره.

***

علاء البغدادي - باحثٌ وكاتبٌ عراقيّ

في المثقف اليوم