قضايا

مشتاق الحلو: لماذا الويل للساهين عن صلاتهم؟

يُعامل الإنسان الساهي بمرونة في العديد من الحالات لأن السهو لا يعتبر جريمة. ومع ذلك، نجد في القرآن آيات تتوعد الساهين عن صلاتهم بـ"الويل"، وهي كلمة تشير إلى شدة العقاب. هذا يثير الدهشة لدى البعض.

في الحقيقة الوعيد بالويل للساهين عن صلاتهم لم يأت في آية واحدة، بل آية تتوعد المصلين بالويل واخرى تذكر انهم ساهون عن صلاتهم، فالموضوع جاء في آيتين مجتمعتين مع اضافة صغيرة ولكنها هي المهمة هنا. فالنص هو: "فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)" بما أن الجملة تبدأ بحرف "فاء"، فهي بذلك ترتبط بما سبقها، مما يتطلب الرجوع إلى النص السابق لفهم السياق الكامل. عند التدبّر في الآيات ككل، نجد أن السورة تشكل وحدة متكاملة تناولت مجموعة معينة من الأشخاص. وهي كما يلي: (سورة الماعون) "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون(7)"

حرف الفاء في كلمة "فويل" يُستخدم كفاء عطف، وهو يعمل على التعقيب والربط بين الأحداث أو الأوامر والتوجيهات المذكورة في الآيات. بالتالي، هذا الاستخدام لحرف الفاء يسهم في توضيح العواقب أو النتائج التي تنجم عن سلوكيات أو حالات محددة، معززًا الصلة المعنوية والسببية بين الأفعال وتبعاتها ضمن النص القرآني. الآيات الثلاث الأولى والثلاث الأخيرة تصف صفات وسلوكيات فئة من الناس و هم الذين: يكذّبون بالدين، يدعّون اليتيم، لا يحضّون على طعام المسكين، ساهون عن الصلاة، مراءون ويمنعون تقديم اي معونة. الآية الوسطى تبين عقابهم المتمثل في "الويل". فالمصلي المذكور في هذا السياق هو نفسه المذكور بالصفات السلبية الستة الاخرى. 

عند التمعّن في وصف الأفعال، نجد أنها تتوافق بشكل واضح مع سلوك المنافقين أكثر من أي فئة أخرى. الاستخدام المتعمد لحرف "الفاء" يهدف إلى ربط أفعال الشخص المذكورة بالويل - الذي يرمز إلى الهلاك أو الشقاء الشديد - إشارة إلى أن الويل هو جزاء لمجموعة من الصفات والأفعال المذكورة، وليس للسهو عن الصلاة فقط. والمقصود بالسهو هنا ليس مجرد إغفال وقت الصلاة كما تشير إليه اغلب التفاسير، بل الإغفال عن جوهر العبادة ومعنى الصلاة نفسها. وقد ورد عن ابن عباس (رضوان الله تعالى عليه) في شأن نزولها: "هم المنافقون، يتركون الصلاة في السر و يصلون في العلانية" (وردت بصيغ مختلفة لكن بمضمون واحد). إذًا، الصلاة بالنسبة لهؤلاء تمثل أداة من أدوات النفاق. لذا، الويل موجه للمصلين الذين يؤدون صلاتهم برياء ونفاق، ساهون عن جوهرها وحقيقتها.

اضافة لأمر الرياء والنفاق، قضية إطعام المسكين مرتبطة بالايمان والصلاة ومن مقتضياتهما في القرآن. نرى أنّ آية عدم الحضّ على طعام المسكين، جاءت في سورة الحاقّة ايضا. حيث يقول النص: "إِنَّهُۥ كَانَ لَا يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ ٱلۡعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ (34)" فمرّة يذكره بأنه يكذّب بيوم الدين واخرى يصفه "لا يؤمن بالله" وهذا يدل على خطورة وأهمية هذا الفعل من المنظور القرآني.

الصلاة كما وردت في القرآن، تتضمن بعدًا اجتماعيًا، خاصةً عندما تُؤدى جماعيًا. كما أنها ترتبط بفعل الإنفاق في سبيل الله كوسيلة لتهذيب النفس وترويضها. لذلك، في بداية سورة البقرة، نقرأ: "الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)"، التي تذكر خصال المتقين: الإيمان بالرسالات والآخرة والغيب، إقامة الصلاة، والإنفاق من الرزق. إن الإنفاق في سبيل الله، خصوصًا على اليتيم والمسكين، يعتبر من مقتضيات الصلاة، وعدم السهو عن الصلاة يتطلب عدم السهو عن مقتضياتها. فمن ترك مقتضياتها في الحقيقة لم يقمها.

بعض المفسرين المعاصرين سعوا للتمييز بين مفهومي الصلاة كذكر عام لله وإقامة الصلاة كعبادة محددة، لكن في هذا السياق، لا تبدو هناك حاجة لمثل هذا التفكيك؛ الأمر واضح بما فيه الكفاية. كذلك، أشار أحد المستشرقين إلى أن العبارة الأصلية كانت "فويل للمضلّين" ولكنها تحولت بسبب سقوط نقطة، مما يثير تساؤلاً: إذا كان الأمر كذلك، فكيف لم ينتبه لهذا الخطأ أي من القرّاء و رواتهم، خاصة وأن هذا الشأن كان موضوع تساؤل واستفسار منذ العصور الأولى للإسلام، حتى إن الصحابي ابن عباس نفسه سُئل عن هذه الآية. فكيف لم يخطر ببال أحد من الصحابة أو التابعين أو القراء في احتمال سقوط نقطة، خاصة وأن الكتابة في ذلك الوقت غالبًا ما كانت بدون تنقيط (وان كان التنقيط موجودا من قبل الاسلام)، وكان من الممكن أن تُقرأ على أنها "ص" أو "ض" لأنها في الغالب تكتب بنفس الصورة. مع ذلك، الجميع قرأها "فويل للمصلين"، وهذا يدل على أنهم سمعوها بهذه القراءة.

***

مشتاق عبد مناف الحلو

في المثقف اليوم