قضايا

طه جزاع: خاتمة الأدب الرفيع

في حديث عابر مع زميل جامعي سألني حول مكانة علي الوردي في علم الاجتماع وأهميته في الأوساط العلميَّة، بعد قراءته لكتابات متفرقة تشكك في قيمة بعض استنتاجاته وآرائه الاجتماعية المعروفة، وبالأخص ما يتعلق منها بسمات الشخصية العراقية، وتدعو إلى رفض المصطلحات الوردية في هذا الشأن لأسباب علميَّة ومنهجيّة وموضوعيّة، وهو نقاش يدور عادة في أروقة الجامعات وبين عدد من المهتمين بعلم الاجتماع، الذين يحاولون الخروج من عباءة الوردي وسلطته الأبوية، وتقديم آراء جديدة حول المجتمع العراقي، تؤكد أو تنفي أو تصحح النظريات الوردية - إن صحت التسمية -. وكان رأيي بأن أثر الوردي على علم الاجتماع سيبقى طويلاً من دون منافس، وأن الذي فعله يشبه ما فعله سقراط بإنزاله الفلسفة من السماء إلى الأرض. وقد أنزل الوردي النظريات الاجتماعية من برجها العاجي الأكاديمي، مثلما درسها في جامعة تكساس، وجعلها تمشي مع الناس في شوارع بغداد وأزقتها ومقاهيها ومنتدياتها ومجالسها الثقافية، وهذا عمل جبار لا يقدر عليه إلا من امتلك الجرأة والحماسة والمعرفة وسعة الاطلاع وروح السخرية، والأهم من ذلك كله الأسلوب الواضح الذي ينتزع الجفاف من العبارات والمصطلحات العلمية، ويجعلها لينة سهلة يتقبلها رجل الشارع مثلما يتقبلها العالِم.

كان الوردي يكرر القول بأن أفكاره المطروحة في هذا الكتاب أو ذاك ليست مقدسة، فربما غير وبدل بعضها وأعتذر عن بعضها الآخر، وفي ذلك رد احترازي مبكر يُحسب له على كل رأي مخالف قد يظهر مستقبلاً تجاه أي من آرائه وقناعاته واستنتاجاته، ومنها ما يخص أحكامه التي قد تبدو قاطعة تجاه الشخصية العراقية. ولم يكن يخطر في باله أن أفكاره وكتبه سينظر إليها بعض المحبين والقراء المتطرفين بعد سنوات على أنها أفكار لا يأتيها الباطل من خلفها أو بين يديها. ولو كان الوردي حياً لما تردد لحظة في " إدخالهم التاريخ " على طريقته الخاصة حالهم حال السياسيين والأثرياء والأدعياء. لكن ما حكاية " دخول التاريخ " هذه ؟ . في كتابه " مئة عام مع الوردي " يذكر محمد الخاقاني بأن الوردي يقصد بإدخال الشخص إلى التاريخ إضافة اسمه إلى سجل مذكراته التي اسماها "سينما بغداد"، وبأنه سيقول رأيه الصريح بهذا الشخص ويفضحه علمياً واجتماعياَ وربما سياسياً، وبذلك سيدخل الشخص المعني إلى التاريخ من أوسع أبوابه في سينما الوردي!. ومن حسن حظ الذين " أدخلهم الوردي التاريخ " من باب سخريته، بأن تلك المذكرات قد اختفت بعد وفاته ولم يظهر لها أثر.

قبل الإطاحة بالنظام الملكي في العراق العام 1958 بأقل من شهر، كتب في خاتمة كتابه " اسطورة الأدب الرفيع " الصادر في حزيران من ذلك العام: " لن يسكت عنهم الشعب حتى يراهم ممرغين في التراب". وقد عاتبه بعد ذلك احد أركان النظام الملكي على هذه الجملة المؤلمة، فقال له الوردي " بعد ما رأيناه من الأنظمة الجمهورية التي جاءت بعدكم، أثبتم إنكم أفضل منهم بكثير، حيث لم يستدع شخص طلب من الشعب أن يمرغكم في التراب إلى مباني مديرية الأمن العامة، في حين من جاؤوا بعدكم كانوا يحاسبون الناس على أنفاسهم ". وقد ندم الوردي على خاتمة كتابه هذه، مثلما تحدث بذلك إلى الخاقاني.

في ندم الوردي، وسخريته اللاذعة، وتأكيده على أن أفكاره قابلة للتغيير والتبديل، وأنه مستعد للاعتذار عن بعضها، ما يجعله من الشخصيات العلمية الفريدة المتواضعة، خفيفة الظل والروح والدرس الأكاديمي.

***

د. طه جزاع – كاتب أكاديمي

 

في المثقف اليوم