قراءة في كتاب

قراءة في كتاب روسي عن تشيخوف صادر عام 1939

اقتنيت هذا الكتاب في سبعينيات القرن العشرين بموسكو في مخزن الكتب القديمة، وذهبت به مع مجموعة من كتب اخرى الى دائرة البريد السوفيتي آنذاك لارسالها برزمة الى العراق، ولكن رقابة البريد لم تسمح بارسال ذلك الكتاب بالذات لانه صادر قبل عام 1945، وبالتالي فانه يعد  ثروة قومية لا يسمحون باخراجها من الاتحاد السوفيتي حسب تعليمات ذلك الزمان، وهكذا اضطررت ان اعيده معي، وابقيته في موسكو وسافرت، ونسيته طبعا، وعندما عدت الى موسكو بعد حوالي الاربعين سنة، وجدت هذا الكتاب امامي، وكم شكرت – في اعماقي - الرقابة السوفيتية الصارمة آنذاك التي لم تسمح لي بارساله عندها، اذ ان ذلك كان يعني ضياعه ضمن مكتبتي الروسية في بغداد، والتي فقدتها مع الاسف الشديد.

بدأت أتصفح هذا الكتاب، وأقرأ فصوله، وقررت ان أقدم سطورا مختارة منه للقراء تعريفا به لأنه - من وجهة نظري -  يستحق ذلك فعلا.

الكتاب من تأليف الباحث السوفيتي المعروف ديرمان، وعنوانه – (انطون بافلوفيتش تشيخوف) وتحت العنوان – عنوان ثانوي هو – (صورة قلمية بيبلوغرافية – نقدية)، واصدرته دار نشر (الادب الفني) الحكومية السوفيتية عام 1939 في موسكو، ويقع الكتاب في 212 صفحة من القطع الصغير، وقد تم طبع 25 ألف نسخة منه. اوراقة اصبحت صفراء اللون، وتفوح منها رائحة (كدت أقول عطر) الورق العتيق، ويقتضي ذلك بالطبع تصفحه باعتناء دقيق وحذرشديد وحب عميق . اقدم للقارئ اولا فهرس الكتاب، وهو الآتي-

الاصول . العائلة / المدرسة الاغريقية والثانوية / الصبا والشباب / سنوات الدراسة الجامعية / بداية النشاط الادبي / تشيخوف – طبيبا / سنوات العمل الخالية من الهموم / سنوات الانعطاف / تألق الابداع / مرحلة ميلوخوفا /  تشيخوف – مسرحيا / مرحلة يالطا. موت تشيخوف / ردود الفعل /استاذيته ومهارته الفنية/ تشيخوف وعصرنا. وكما هو واضح من الفهرس، فان الكتاب يتناول مسيرة حياة تشيخوف وابداعه منذ ولادته الى وفاته، ويبدو من الوهلة الاولى انه كتاب اعتيادي يكرر المعلومات المعروفة عن الكاتب ليس الا، ولكن القراءة الدقيقة للكتاب تشير الى غير ذلك، اذ ان الباحث يستخدم مقاطع مختارة ومنتقاة من رسائل تشيخوف ونتاجاته ويربطها بمسيرة حياته بشكل ذكي ومنسجم جدا، ويبدو هذا واضحا من الصفحة الاولى للكتاب، عندما يتحدث الباحث عن مدينة تاغنروغ التي ولد فيها الكاتب، اذ يبتدأ الجملة بمقطع من رسالة تشيخوف الى اخته عام 1887 والتي يصف تلك المدينة كما يأتي – (انها مدينة وسخة وفارغة وكسولة وجاهلة ومملة)، ثم يتوقف الباحث عند افراد عائلته،ويبتدأ من الجد الذي كان قنٌا واستطاع ان يشتري حريته ويعتق نفسه، ويتحدث عن عائلة تشيخوف الكبيرة، والعوز المادي لرب العائلة، وكيف ان كل ذلك لم يمنع تشيخوف من اصدار مجلته الفكاهية العائلية عام 1875 ومتابعته للادب المسرحي (شكسبير وغوغول وغريبويديف وأستروفسكي وغيرهم) ومساهماته في النشاط المسرحي للمدرسة، ويعزز كل ذلك بمقاطع من رسائله او رسائل اقاربه واصدقائه، وبودي ان أشير الى مقطع من رسالة تشيخوف الى الكاتب بليشييف عام  1888، والتي يوردها الباحث في نهاية فصل (سنوات الدراسة الجامعية)، وهي رسالة مهمة تحدد سبب عدم ارتباط تشيخوف باي حزب سياسي او حركة سياسية او فكرية محددة في زمانه العاصف آنذاك واحتفاظه باستقلاليته وموقفه المتفرد والمتميز،اذ يكتب تشيخوف ما يأتي – (اني أكره الكذب والاكراه في كل اشكالهما .. ان الغباء والتعسف يسودان ليس فقط في بيوتات التجار، بل اني اراها في العلم والادب وبين اوساط الشباب .. ولهذا فان اقدس المقدسات هي – الجسم الانساني والصحة والعقل والعبقرية والالهام والحب والحرية المطلقة من القسر والكذب .. هذا هو منهجي فيما لو كنت فنانا كبيرا)، وينتقل الباحث للحديث عن بداية النشاط الادبي لتشيخوف ويطرح موضوعا لا زال يمتلك اهميته لحد الان وهو – متى بدأ تشيخوف بالنشر، اذ ان من المعروف انه بدأ عام 1880 ولكن المؤلف يقول ان هناك رأي يشير الى انه نشر اول محاولاته عام 1878، وان هذا الموضوع سيجيب عنه (باحث المستقبل) والذي يبدو اننا لا زلنا ننتظره لحد الآن، ويطرح الباحث هنا ايضا وجهة نظر شخصية تقول ان سنة 1882 هي اول سنة حقيقية في مسيرة تشيخوف الابداعية، وهي مسألة لا زالت تثير النقاشات في اوساط مؤرخي الادب الروسي بشكل عام والمتخصصين في دراسة ابداع تشيخوف بشكل خاص، وقد حاول الباحث اثبات ذلك الرأي الشخصي، وربط بين افكار ومضامين قصصه القصيرة في تلك السنة وسمات وبنية قصصه لاحقا، ولا مجال هنا بالطبع للتوقف عند تفصيلات هذه الاراء المهمة والعميقة، وعندما ينتقل الباحث الى فصل (تشيخوف طبيبا) يثير نقاطا في غاية الاهمية ترتبط بانعكاس مهنة الطب على طبيعة نتاجات تشيخوف الابداعية، ويستشهد بما قاله تشيخوف نفسه عام 1899 حول ذلك – (ان دراستي للعلوم الطبية قد امتلكت تأثيرا جدٌيا على نشاطي الادبي، لانها وسٌعت مجال ملاحظاتي وأغنتني بالمعرفة .. وانني بفضل العلوم الطبية استطعت ان أتجنب الكثير من الاخطاء ..)، ويتوقف الباحث عند نقطة مهمة في تاريخ دراسة العلاقات المتبادلة بين العلوم الانسانية والعلوم الصرفة، ويشير الى ان تشيخوف قد سخر من الرأي الذي يؤكد ان العلوم الصرفة تعرقل خيال الكاتب وتعيق انطلاقاته الفنتازية، وكتب بهذا الخصوص ان الانسان الذي يفهم الدورة الدموية يصبح أغنى وأعمق، تماما مثلما يصبح أغنى وأعمق عندما يفهم تاريخ الاديان او قصيدة بوشكين المشهورة – (أتذكر اللحظة المدهشة ..)، ويختتم الباحث هذه الافكار بالاشارة الى قول تشيخوف حول هذا النقاش – (ان معرفتي بالعلوم الطبية قد جعلتني معتمدا على الوقائع العلمية، وانني أفضل الصمت وعدم الكتابة عندما لم تكن هناك امكانية ذلك ..)، مستشهدا بمثال غوته الشاعر، الذي يجسٌد في الوقت نفسه - وبشكل هارموني رائع -غوته المتخصص بعلوم الطبيعة. ان الفصل الخاص ب- تشيخوف طبيبا في هذا الكتاب بحد ذاته يصلح ان يكون موضوعا مستقلا ومتميزا في مجال دراسة العلاقة المتبادلة بين العلم والادب بشكل عام، وهو موضوع كبير ومهم في مسيرة البحث العلمي في العالم.

لا يمكن اختصار الفصول الاخيرة للكتاب او التعبير عنها بكلمات وجيزة لاهميتها وعمقها، ولا تتحمل طبيعة هذه المقالة ذلك، اذ كيف يمكن ان  نختصر سنوات الابداع والتألق وخصائص مسرح تشيخوف ووفاته وردود الفعل تجاه ذلك في الصحافة الروسية آنذاك وسمات ابداعه وموقعه الآن في اطار عصرنا الحديث؟؟؟ ولكن – مع هذا – يجب القول ان النقد الادبي الروسي عندها لم يستطع استيعاب الروح التجديدية لابداع تشيخوف، ولم يستطع ان يتفهم ان تشيخوف هو كلمة جديدة في مسيرة الادب الروسي والعالمي، وهذا موضوع يتطلب الدراسة العميقة والمتأنية طبعا، ويمكن لهذا الكتاب ان يكون أحد تلك المصادر في هذه الدراسات .الشئ الوحيد الذي يمكن ان نختصره هنا – هو ان هذا الكتاب لا زال مهما وحيويا في الدراسات النقدية حول تشيخوف رغم انه صادر عام 1939 .

 

في المثقف اليوم