قراءة في كتاب

الرواية في فضائها العربي والسعودي .. قراءة في كتابات محمد العباس

saleh alrazukيرى الناقد محمد العباس أن الرواية في السعودية هي نتاج لثلاث محطات هامة في تاريخ المملكة.

أولا هي مؤشر على نهاية عصر السير والملاحم وبداية مجتمع التدوين أو العقل المكتوب. ويبني هذا الافتراض على أساس تغليب عناصر الوصف وبناء وتحليل الشخصيات واتساع الفجوات الغامضة في المعنى التي تعكس قلق الذات والانحياز للفضاء النفسي من وجدان المجتمع لو صحت العبارة.

لأنها كما يقول فضاء تعبيري يتلخص دوره في إعادة بناء الحياة الشخصية حول قوانين المجتمع وتوجهاته ص 19*. ولها هدف واحد هو الخروج من العماء السابق لمرحلة التدوين وإيجاد رابط جوهري، فني وموضوعي، بين ذات الكاتب وبيئته ص 21.

وعلى الأغلب وراء هذه الملاحظة أسباب فنية خاصة.

لقد تأخرت الرواية السعودية بالمقارنة مع مثيلاتها في الفضاء الخليجي. ويوجد فاصل بحوالي 25 عاما بين بدايات أمين صالح وعبدالله خليفة (من البحرين) وبدايات عبده خال وعبدالله بن بخيت (في السعودية). وخلال هذه الفترة طرأت تحولات على رواية الستينات التي بدأ منها الخيال الفني في المملكة. فقد انتقلت من فوضى الحداثة بمطلق المعنى إلى تحديث له استراتيجية أو سياسة منضبطة (لو استعملنا مفردات وين جين أويان). وتحول الصوت الفردي والساخط إلى مواقف تأملية قوامها الشك والنقد الذاتي. وهذا ساعد على توضيح معالم البناء الفني ومن ورائه ذات الكاتب. وأصبح بمقدوره أن يميز بين الآخر وبين صوره الممسوخة التي لا تعرف جذورها بالضبط.

ويمكن توضيح ذلك بمقارنة بسيطة بين أعمال أمين صالح في السبعينات وأعماله الراهنة. فالمحور العمودي الذي يغلب عليه المجاز والاستعارة والإبهام في العلاقات تحول إلى تصورات معقدة عن ذات تواجه نفسها. وقاده ذلك إلى مواجهة مزدوجة، إنكار نفسه والاختلاف مع الآخر.

وترافق هذا التحول مع زيادة ملحوظة في درجة السطوع. فالأفكار الضائعة بين طبقات الفضاء النفسي أصبح لها شكل وصورة. بمعنى أنها انتقلت من نشاط الإحساس إلى الإدراك. وهو ما يرتبط مباشرة بنضوج إستراتيجية المجتمع في الخليج. فقد تخلص من إمبريالية بلدان الجوار ودخل في مرحلة توسيع فضائه الخاص.

لقد أصبح للرواية في السعودية تصورات تعكس فجوات وعيها الحضاري، الارتقاء بالنوع في أعمال عبده خال. والصراع بين الذاكرة والأجيال في أعمال ابن بخيت. وتجد ذلك في تصميم البنية النفسية التي تنمو مع توسيع المشاهد. فالمعاني كانت تتطور بنفس درجة تطوير الإدراك بالمكان.

ولنأخذ أعمال عبده خال على سبيل الذكر.

لقد كانت بداياته لا تخلو من آثار تراكيب واستعارات زكريا تامر. وهي تراكيب تعكس الفلسفة الجبرية. أو ما أسميه بالفعل المنعكس غير الشرطي. فالشخصيات لا ترتكب الحماقات فقط. ولكن تبدو غير مؤهلة ولا مستعدة لما تفعل كما في كتابه (الأوغاد يضحكون)، فقط قبل أن يحول لاوعي الأفراد إلى علاقات ملحمية مع المجتمع كما في (ترمي بشرر).

إن الأعمال الفنية بشكل من الأشكال جزء من البروباغاندا. وهو ما يمكن أن نفهمه بالعودة لتاريخ الرواية في بلاد الشام ومصر. فقد كانت تتطور كلما ازداد وعي المجتمع بإرادته. ورواية الخمسينات والستينات محاولة لفهم الواقع الشخصي في عالم راكد يعاني من السقوط. بعكس الرواية في السبعينات والتي اهتمت بمشكلات إيديولوجية هامة كالتحرير وبناء دولة قوية وترسيم حدود الهوية بالمعنى الأنطولوجي، هوية العقل المنتج لإدراك خاص بحساسياته.

ولذلك أعتقد أن ما يسميه محمد العباس تطورا من المشافهة إلى التدوين هو في الحقيقة تعبير عن الانتقال من فلسفة المكان المجرد إلى الفضاء. أو بتعبير مباشر: هو تعبير عن بداية لصيغة تبشيرية لا يدرك فيها العقل نفسه فقط ولكن يعمل على توسيع منطقته.

الافتراض الثاني أن الرواية مؤشر على انتشار الحواضر والمدن ولا سيما مدينة الرياض. ويضرب عدة أمثلة ليؤكد أن الرواية والمدينة شيء واحد. فهي تغري الكائن وتحرضه على كتابة الرواية كما ورد في افتتاحية كتابه (نهاية التاريخ الشفوي) ص 7.

إن الرواية برأيه هي المدينة المكتوبة ص 8. وضرورة فنية وموضوعية ليس كفضاء مكاني متخيل وحسب ولكن كحاضن حياتي .. لاختبار كفاءة الذات على حافة المعنى الأحدث للثقافة ص 10.

وهو ما يقوده ليستنتج بعبارة جازمة: الرواية بنت للمدينة ص9، والتي تصادف في السعودية أنها الرياض. رمز كل المدن والحواضر. فهي خلاصة للمدونة حتى قبل تسجيلها واضطراب لصيرورة الكائنات المؤجلة ص 9.

ولكن منذ الأزل أنظر لهذه المقولة بشيء من الارتياب. فالمدينة برأيي جزء من جبل الجليد. إنها وعي الإنسان بظرفه الوجودي. ولكن وراء ذلك تقف شروط اللاوعي. حيث تتداخل الأفكار مع الصور وتترك المجال مفتوحا أمام التصورات الطفولية لتتحول إلى رموز معقدة.

إن المدينة، في هذه الحالة، هي رمز للمجتمع والعالم والإدراك أو لمعرفتنا بشرط الوعي ذاته. ولو أعدت النظر بأدب المدينة في المملكة ستلاحظ بصمات المتيروبول الأوروبي. ونادرا ما تشعر بروح أو رؤيا المكان. فهي مدينة افتراضية. صنعها الكاتب بخياله. وأتحدى أن تجد فيها ولو علامة فارقة واحدة مثل "قاهرة" نجيب محفوظ أو "حلب" فاضل السباعي. حتى أن كل فصول رواية (بنات الرياض) لرجاء الصانع تبدأ باقتباس من غادة السمان ونزار قباني. كأن الحديث عن دمشق وعن الخطيئة الأصلية لمجتمع الآباء المهزومين.

وقل نفس الشيء عن (سقف الكفاية) لمحمد حسن علوان. فقد لاحظ فيها محمد العباس استشهادات وإشارات متكررة تشبه إقحام المعلومات عن الجواهري والسياب والبياتي وكأنها عمل عن بغداد وليس الرياض ص 55.

إن مدينة الرياض في الرواية هي مثل "البحر" في أدب حنا مينة. لها وجود نفسي. وربما هي تفسير لحالة الشك الذي نضع به حواسنا موضع الاختبار. هل هي مزيفة أم أنها نتاج الضلال السياسي؟..

ولكن هذا لا يلغي محاولات النهوض بخصوصية الفضاء الأدبي عند عبده خال ورجاء العالم. فهو فضاء غير محسوس، إدراكنا به لا يكون بالمشاهدة ولكن بالتكهن كأته نشاط معنى.

لقد وظف عبده خال صورة الإنسان التائه في الفراغ النفسي ليدل بذلك على أزمة طبقية لها معنى حضاري. بينما اختارت رجاء العالم إطار المرويات أو الحكاية الشعبية للتعبير عن أزمة فنية لوجدان متحول. فقد تجاورت في أعمالها الخوارق مع شخصيات من عالم الإنس والجن. ناهيك عن إشارات لماضي المملكة مع الصحراء والبداوة. وهذا فرض علينا مواجهة مزدوجة: حل الرموز وترتيب الأحداث. ثم الربط بين الصور الغامضة والمعاني.

إن علاقة الرواية بالمدينة مجرد أسطورة. لقد وفرت الحواضر الأساسية مكانا لا بد منه لخبرات الكاتب. مثلما قدمت القرية أرضا مناسبة لتصوير صعود وتشكيل الإيديولوجيات الكبرى. وفي الذهن (يوميات نائب في الأرياف) للحكيم و(الأرض) للشرقاوي و(الحرام) ليوسف إدريس. حتى أن أول رواية فنية هي (زينب) لهيكل المعروفة بعنوانها الفرعي: (أخلاق ومناظر ريفية).

ولا توجد ضرورة للتذكير أن أهم روايات مطلع القرن العشرين كانت لها حدود استشراقية. فقد كان الروائي الغربي يكتب وهو يفكر بسحر المشرق وألغازه. والمدخل للرواية الناضجة في أوروبا كما نعلم هو رواية (ممر إلى الهند) لفوستر. وأشهر الأعمال الروائية عبر التاريخ المدون هي (روبنسون كروزو) لدانييل ديفو مؤلف رواية البيكاريسك المعروفة أيضا (موللي فلانديرز) التي لا تترك شاردة ولاواردة عن حياة التشرد والضياع بحثا عن وهم الاستقرار والهوية. كانت بطلة الرواية لا تفكر إلا بشيء واحد: أن تنفصل عن الأرض وأن تغسل ذاكرتها. وشكلت مطلعا لا بد منه لفهم معنى الاغتراب الشيزوفراني والذي عاد إليه لاحقا غراهام غرين في رائعته (المنسينيور كيشوت) حينما وضع راهبا وملحدا في سيارة جابت بهما كل طرقات أوروبا. وكان كل واحد منهما يبحث عن دليل يثبت به أنه موجود، وأن للأفكار قوة مثل الطاقة الروحية التي يسميها الراهب الإيمان ويسميها الملحد العقل.

وربما تندرج في هذا الإطار تجربة عبدالرحمن منيف عن موت الصحراء، الرمز الموضوعي للإنسان البسيط في العالم الثالث، وضياعه في متاهات الأنظمة القمعية والأسواق ورؤوس الأموال المتفرعة عنها.

إن الرواية هي بنت مخيلة عقل رؤيا. يتحول بها الواقع إلى ذات موجودة خارج الوعي بالحدود. وهذه هي فكرة الرواية، توسيع إطار الواقع الجامد. ولذلك رأى إدوارد سعيد أنها فن رديف لخطط الإمبريالية بالتوسع والاحتلال.

الإفتراض الأخير أن الرواية نتاج لمخيلة تعيد تركيب سيرة الكاتب من خلال خبراته بعصره وبالمكان الذي يعيش فيه.

فهي غالبا تأكيد للأنا وإن تراوحت بين إعادة أسطرة اللغة خارج نفسها وبين الشهادة الشخصية الحية المنذورة لتسمية الأشياء ص 18، كما قال خلال كلامه عن تجربة علي الدميني.

وهذا يرشح الرواية لإعادة تركيب أناها، وإنتاج بنية مجازية لشخص لا نعرفه تماما ولكنه يشبهنا.

فالذاكرة مكان نستعيره من العالم الذي لا نعيش فيه ولكن نشعر به.  وهو زمن لحكاية كانت موجودة قبل ما أسميه "عزم النشوء". وهو ما يدعوه محمد العباس "زمن الرواية" ص81. فالخطاب الروائي يتألف من بنية على مستويين: حكائي وسردي. أو مضمون بلا مغزى وحكمة تصنع لنفسها أسلوبها الخاص، الواقعي ولكن الذي لا يحاكي شيئا غير النسق أو الذات.

وأعتقد أن محمد العباس يتفق في هذا الشأن مع سعد محمد رحيم الذي يعتقد أن الأدب والرواية بشكل أساسي تدعوك للشك بالتاريخ. إنها لا تدونه إلا بعد اختيار حجم المساحة أو الفاصل. بمعنى أنها تنظر للواقع من خلف الحاجز النفسي وهو التأويل أو فلتات اللسان المهذب الذي يخضع لسلسلة معقدة من الرقابة والحذر والمكبوت والتشديب. فالرواية تستمد قوتها من عدم وجود اتفاق بين منتجي النص.. وهم الكاتب والقارئ والمجتمع كما ورد في مستهل كتابه (السرد مشككا بالتاريخ)**.

يقرأ محمد العباس الرواية على أنها تعبير مجازي يترك مسافة تفصل المنطق عن حساسياته أو أسلوبه في مقاربة المشاكل والتفاصيل. ويسميها (المسافة المجازية بين العقل وأدوات التعبير) ص36.

ولذلك يعتقد أنها كائن له قوانينه. وذات مستقلة تجسد خلفياتها في الواقع بشكل تجريدي داخل النص ص 42.

إن محمد العباس كما يبدو لي ينظر للرواية وكأنها إنسان الطبيعة، وهذا التعبير أصلا لمحمود تراوري الذي يضيف: هي إنسان حسي متفتح الحواس، لا يقبل الوساطة بين الذات والموضوع، ولكنه يقبل بكل شيء آخر، ويستند في فهمه لإدراك الأشياء المجردة أو الدوال. فهو يحس بالأشياء ولايراها. ص 64.

ونجد عدة أدلة على هذا الفهم لحدود النوع حين يقول في مكان آخر: اللغة عند إبراهيم خضير لها طابع تشخيصي ص 67. والأسلوب عند علي الدميني مفاوضة مع الأشخاص والأماكن ص 80. والنص ضحية لخيانة الكاتب أو الواقع ص 81 ، أما النصوص المتعددة فتشترك لتنسج امرأة ص 82، وهكذا.

إن أنسنة العمل الأدبي لا يلغي الفكرة التقليدية: أن الكتابة تابعة للكاتب فقط ولكنه يساوي بينهما، وهذه بداية لمعاناة طويلة مع علاقة التراث بالحداثة. الأمر الذي يعيدنا إلى المربع الأول: هل الرواية نتاج المدينة أم الحضارة؟..

إن الجواب ليس سهلا لعدة أسباب.

فالرواية لدينا نتيجة من نتائج عصر النهضة، بوعيه المأزوم وقلة وضوحه، وأهم النماذج المعروفة تعكس وعيا مزدوجا بالذات الفنية، الاقتباس والتعريب. وفي الذهن كتابات فرنسيس المراش ومن بعده المنفلوطي. وحتى الحداثة لها مقاييس مستوردة.وهذا ينسحب على النص والواقع.فرواياتنا الحديثة لا تدين بشيء للبلاغة العربية، وكذلك المدينة. إنها تحمل علامات الاستعمار، سواء في البناء أو في توزيع الفراغ والكتلة. والجهود التي بذلها بعض الرواد في الستينات ذهبت أدراج الرياح لأنها أصلا مشروع هدفه إحياء أساليب من عصر الانحطاط كـ (ألف ليلة وليلة) و(مقامات الهمذاني) أو أساليب ديوان المماليك.

إن الحداثة العربية بكل اتجاهاتها، مثل الفكر القومي، لا علاقة لها بالتراث ولا العقل العربي. وبالعكس هي نسخة متحولة من إيديولوجيا استعمارية عن مجتمع مدني مبسط.  فالسيف الذي تحارب به رواياتنا المعاصرة لا يختلف عن عتادنا الحربي.. صناعة مستوردة.

 

صالح الرزوق

.........................

*أرقام الصفحات تحيل لكتابه (نهاية التاريخ الشفوي)، منشورات الانتشار العربي ونادي حائل الأدبي، 2008. وصدر بطبعة ثانية عن دار نينوى بدمشق، 2015.

**منشورات دار نينوى، دمشق، 2016.

في المثقف اليوم