قراءة في كتاب

الشعر الشعبي في الأهواز.. قراءة في كتاب د. رسول بلاوي

saleh alrazukيعتبر الدكتور رسول بلاوي أن الشعر الشعبي ظاهرة، فهو له بلاغياته وأدواته. وأهم شيء فيه أنه يتبع القاعدة الذهبية في البلاغة، وهي مطابقة الكلام لمقتضى الأحوال. ص 11(1).

ويمكن قراءة ذلك بضوء عدة عناصر أساسية وهي غنائية الشعر الشعبي وتداوله. فهوقريب من المسائل الوجدانية التي تمس قلب ابن الشارع. وأعتقد أن هذه الميزة هي التي ضمنت له المكانة المرموقة بين مختلف أنواع الشعر. فأصبح يمثل جانب الكلام من الحساسية الفنية وليس جانب الكتابة. ص 12.

1075 resizedولا شك أن هذه الملاحظة الذكية تبني على فكرة الحداثة. فالفرق بين المكتوب والمنطوق مثل الفرق في المسرح بين المنظور والمقروء. ومن كل بد إن هذا الاختلاف يعكس استراتيجيات متباينة. فالكتابة لها أخلاق منفصلة عن الكلام. إن الكتابة تحتاج لنشاط فردي سواء من المؤلف أو القارئ. بينما الكلام له درجات. وتبدأ من الاتصال المباشر وتنتهي بالاتصال بالإنابة. بمعنى آخر إن الكلام تدخل فيه أدوات إضافية تساعد على توسيع مجال المجاز والاستعارة والكناية. أضف لذلك الإشارات ونبرة الصوت. والتي تدخل في عداد الكولاج، فهي ملصقات بجوار النص واستطراد عليه.

وتعتبر الدراسات الحديثة أن علم اجتماع الأدب المكتوب مختلف تماما عن الأدب الشفوي. وهناك نزاع حضاري بينهما. بمعنى أنه نزاع سوسيولوجي يتطور من فوق الظاهرة التاريخية. فالكتابة ذكورة والكلام أنوثة. ولا يفوتني هنا التذكير بنظرية إدوارد سعيد في تأثير الإمبريالية على الثقافة. حيث أن إيديولوجيا الاستعمار والتوسع تلعب دورا في توجيه طرق التعبير عن الأفكار.

ولا أدل على ذلك من ملاحظة الدكتور بلاوي في مقدمة كتابه: أن الشعر الشعبي هو نتيجة الفتوحات الإسلامية وانضمام شعوب جديدة إلى الإسلام. ومن جراء ذلك أصبحت الاستثناءات في اللغة أكثر من القاعدة. وانتشر اللحن في الكلام، وانطوت صفحة الفصاحة البدوية. ص12. وأنا أوافقه على هذا التفسير. فالشعر الفصيح المعاصر تأثر بأدب الجاليات التي تكتب بلغة عربية. ولنأخذ كمثال حالة الأرمن والأكراد في سوريا. فقد تركوا بصمة لا يستهان بها على أدوات التعبير عند الشباب. وقل نفس الشيء عن تأثير الترجمات، فقد أصبح لها دور تربوي يمكن أن تجده في استعمال أدوات الملك والضمائر وأساليب إدارة الحوار.

و كل روايات عبد النبي حجازي، الروائي السوري المتميز والمعروف، تعكس العلاقة بين الفاعل والمفعول به، وكذلك بين الكلام والمتكلم. ولا يصعب عليك أن ترى في أهم أعماله مثل (المتألق) و(قارب الزمن الثقيل) بنية نحوية عربية ضمن إطار من التراكيب الخاصة بالعقل الأنغلوساكسوني أو الجرماني.

وكما يقول جون ماكوري: إن وضع الإنسان في العالم هو بالتأكيد جزء من المعنى، علاوة على أن الشيء من وجهة نظر الاهتمام العملي نراه أساسا من زاوية عملية براجماتية. وعالم كل يوم بدوره نراه بوصفه عالم وسائل، ولذلك إن فكرة الشيء الجامد أصبحت معقدة وبعيدة عن اهتماماتنا (2).

يقسم الدكتور بلاوي كتابه إلى سبعة فصول هي على التوالي: الثيمات، دلالات الألوان، توظيف الرموز، توظيف التراث، دلالة التكرار، النص الموازي، وأخيرا التشكيل البصري ويعني به علامات التنقيط وتوزيع الكلمات على السطور.

ومن الواضح أن هذه البنود تتابع الشعر المنظوم باللهجة المحلية، وتعامله من ناحية عضوية، كأنه قالب أو إطار لنفس مضمون الشعر الرسمي. فمحبة الوطن والتضحية في سبيله، والرموز والصور التي تشير للشموخ والعزة والكبرياء هي هي، كما تابعها الدكتور بلاوي في شاعر ينتمي للكلاسيكية الجديدة هو يحيى السماوي. فالنخيل ترمز عند الطرفين للصمود ومقاومة عوادي الزمان، ناهيك عن المماهاة بين الحياض والنساء، حيث أن القتال في سبيل الأرض يتساوى مع مبدأ الدفاع عن الشرف. وعلى هذا الأساس تجد معنى الوطن عند شاعر أهوازي هو باسم الشموسي مثل معناه عند السماوي، كلاهما يغدقان عليه صفات إيروسية تدل على قوة الليبيدو، وقد حشد كلاهما مجموعة من المفردات الحسية التي أسقطاها على مشاعر إنسانية نبيلة، فالشموسي يستعمل كلمات مثل أرض سمراء وقاع وغيمة في إشارة مباشرة لتكامل الجذور مع النهايات غير الحسية أو عاطفة التسامي والتصعيد ص 22. أما السماوي فقد أسهب في إسقاط صفات عشقية على الأرض. فالرجل يحرث المرأة مثلما يحرق الفلاح أرضه وهو أيضا يشعر بالسعادة في أحضان النساء مثلما يشعر الإنسان بالراحة في خميلة أو بستان. ولا يوجد في ذاكرتنا الفنية مثال على هذا التكافؤ أفضل من رواية (القوة والمجد) لغراهام غرين، فقد فسر حب الوطن بالإيمان عند القسيس وبالماشيزمو عند الجنرال.

ولا يغيب عن الذهن أن شعر الحداثة عند العرب يرتهن لهذه الصورة المركبة. ولنأخذ حالة علي الجندي، فقد ربط النزاعات العسكرية بالدفاع عن الحياض وشرف نساء القبيلة، وجعل المثلث الأدويبي يتحرك على التناوب بين العاقل وغير العاقل، وبين ضمير الملكية ومفهوم المشاركة أو فيض الغرائز. كما فعل في مطولته المشهورة (طرفة في مدار السرطان). فقد وضع الإغارة على المضارب (البيوت أو المساكن) أمام الدفاع عن الحياض (الخفرات والكلأ).  وتجد مثل هذا المعنى أيضا في القرآن، فالمرأة مسكن للرجل. وحب النساء كما تقول وين جين أويان هو في أحد مستوياته حب للأمة، وبالتالي هو سجال لا ينتهي مع اللغة. والحديث عن الحب مصدر لا ينتهي من مصادر المعاناة الرومنسية، لأنها تضفي عليه طابع مجاز قومي وسياسي يمكن أن يسمو إلى مستوى الحب الإلهي النظيف من الشوائب والأدران (ص 36). والنرجسية العشقية عند نزار قباني لا تعرف الفرق بين أعضاء الجنوسة في المذكر والمؤنث وأشكال وأنواع الغرام الحسي ص 37.

وبمقارنة بقية المحاور كما وردت في شعر الأهوازيين وقصائد السماوي لا تجد أي فرق يذكر في المبنى والمعنى.

الألوان مثلا تعمل بنفس الاتجاه. الأسود يدل على الحزن والكارثة. والأبيض على نقاء السريرة، والأحمر على الدم والغضب. أما توظيف الرموز واستعمال التراث فكلاهما يبدي عشقا صوفيا للأرض واستعدادا للتضحية بالغالي والنفيس بصور تؤكد على قيمة الشهادة. وهنا يبرز الدور الموحد للدين. ولذلك إن أهم الرموز التراثية كانت إسلامية وكأن الأهواز لم تكن موجودة قبل الدخول في الإسلام.

فهل هذا يعني أن الشعر الشعبي هو رديف للشعر الرسمي؟؟..

لا أعتقد ذلك.

فالشعر هو تراكيب وليس كلمات، إنه حساسية أو فلسفة ورؤية، ومثلما في لغة الدواوين يوجد شعر غاضب، وأهم الأمثلة عليه نزار قباني وأمل دنقل، للشعر الشعبي نماذج ناقمة ومعارضة، ومنها الشاعر المعروف مظفر النواب .

إن النماذج التي انتقاها الدكتور بلاوي هي جزء من عقلية الشعر الرسمي. ولذلك أسباب معروفة، أنها تشارك في المسابقات، وتتعرض للغربلة على يد لجان يهمها التركيز على الجانب الإيجابي وليس السلبي. وإن أية مقارنة لهذه القصائد مع الأشعار المسكوت عنها توضح الفرق الواسع. فالعين تدل على التيقظ والمثابرة والسهر ولكن يمكن أن تدل في سياق آخر على الحسد والتجسس والرقابة. والخنازير كلمة لها معنى مشحون بالكراهية والعداء عند المسلمين، لكنها تعني العطف والرحمة والسعادة عند المسيحيين.

وكان الكلب في الشعر العربي الجاهلي يرمز للوفاء والاحتراس، كما في قول علي بن الجهم: أنت كالكلب في حفاظك للود/ وكالتيس في قراع الخطوب)، ولكنه في شعرنا المعاصر دليل على المنع والإقصاء، كما في قول نزار قباني: (كلابك المفترسات مزقت ردائي ،، عيونهم ورائي، أنوفهم ورائي)، وهكذا، في إشارة مباشرة إلى مخبري السلطان (سلطات القمع والمحاسبة في الدولة).

وكان ناصر عوفي الحيدري قد أشار في إحدى المناسبات إلى واقع الحصار والتغييب الذي تعاني منه شريحة من أدباء الأهواز(3)، ولا سيما من لديهم تساؤلات حول مسائل وقضايا وجودية كبيرة كالهوية والوعي الشخصي والانتماء، أمثال الشاعر الشعبي عبد النبي نيسي مؤلف أهزوجة (احنا جينا بغيرة عربية). والشاعر الشعبي عبد الستار أبو سرور مؤلف (احنة من أصل العروبة احنا مو مستعربين)(4).

وهذه نماذج شعبوية إن شئت الحقيقة و تلعب بالعاطفة العارية والمكشوفة بلا مواربة.

و أعتقد أن كل سلطات العالم الثالث تفرض القيود على اللعب بالعواطف. ولا تخلو الدول المتقدمة من ذلك. فقد منع الاتحاد السوفياتي باسترناك من استلام نوبل عن روايته المختلف حولها (الدكتور زيفاغو) مع أنها فنيا بمستوى (الدون الهادئ) لشولوخوف. وكان بول باولز يعيش في رعب دائم من سلطات بلاده، وهي الولايات المتحدة، حتى أنه هرب بمخطوطاته ونقوده إلى طنجة، وأمضى الهزيع الثاني من حياته لاجئا في المغرب. وقل نفس الشيء عن هنري ميلر، فقد رسمت له السلطات الأمريكية خطا أحمر.

إن أزمة الأدب جزء من المأساة العامة سواء في مستوى الحريات السياسية أو الانتاج السلعي، حيث أن حالة الطوارئ لها دور محدد في هذا المجال.

ولنكون منصفين إن معاناة أدباء الأهواز تأتي ضمن معاناة أدباء إيران ولا سيما من اختار أن يعيش في المنفى، ومنهم عيراج بيزشكزادة في الرواية من الرعيل الأول، ومسعود عالمي وميهرنوش مزارعي من الرعيل الثاني، إلى آخر هذه القائمة الطويلة التي تنتهي بأدباء شباب يبحثون عن طريقهم مثل جاهيلة جهانباري وغيرها، حيث يخيم على الأجواء الحزن وحالة السخط والشعور الدائم بالجرح الحضاري.

ولا يمكنني أن أنسى هنا الشاعر زوهراب سبيهري الذي تفشى الألم في شعره كما تفشى في دمه حتى مات في المستشفى من جراء مرضه العضال.

ولكن ما يدهشني في هذا المضمار الطبول التي تدق فوق رأس الإيرانيين، بدعوى التضييق على الحريات، دون أن نسمع صوتا واحدا يعترض على سحب السعودية لهوية واحد من أهم الكتاب العرب وهو عبد الرحمن منيف.

في كل الأحوال هذا ليس وقت مشاعر الغيرة على العروبة. فالأمة مدفونة في وحل النزاعات الداخلية. وتدفع ضريبة مضاعفة لأنها تتمسك بالقشور وتنسى الجوهر. لقد ماتت العاطفة القومية، وأصبحت شعاراتها القديمة نكتة للضحك واللهو. من يمكنه أن يتكلم عن وحدة عربية أو تحرير لطاقات الإنسان المقيد والمكبوت؟.

وفيما أرى إن تجزيء المجزأ هو النهاية الطبيعية لإيديولوجيا الهزيمة والتي من أبرز سماتها عنتريات لم تحرر شبرا واحدا من الأرض. بالعكس. الجسد الممزق يمعن في الذوبان. وإذا كانت البداية كما يقول محمد نجيب في مذكراته انفصال السودان عن مصر، فالنهاية هي انفصال جنوب السودان عن شماله، وهكذا دواليك.

إن علاقة الشعر الشعبي بعاطفة الضياع والتشرد النفسي ليست حكرا على أمة أو إقليم، بل هي تشمل كل من يكتب باللغة الدارجة.

وخذ اللبناني سعيد عقل على سبيل المثال، إنه لا يترك فرصة إلا ويتكلم عن أمجاد بلده التي يطويها النسيان، ويعتقد أن أسباب تخلفنا هو التفكير الشمولي، ومعظم قصائده ( المكتوبة بالعامية) تبدو لنا بشكل تساؤلات محيرة. لماذا لا نكون واقعيين ونعترف بعلاقة الأرض مع التاريخ النفسي للشعوب ونصر على تأسيس أساطير تعمل من فوق التاريخ الوجداني للإنسان. حتى أن حقائق الماضي أصبحت جزءا من الشخصية الواقعية التي نحلم بتحريرها من حفرة السقوط والهزيمة.

ومثله قصائد المصري صلاح جاهين، فهو ينحو باللائمة على عجز الواقع الاجتماعي، ولكن من زاوية صراع الغني مع الفقير، والحر مع مسلوب الإرادة، ويؤكد أن الرجولة شيء والفحولة التي ترتبط بالغرائز والتخلف وسقوط الحضارة شيء آخر. وكل رباعيات صلاح جاهين تدور حول هذه الفكرة..

أننا نبتز مشاعرنا ونعيش بعقلية الشعارات وليس العواطف، كما في قوله:

ضريح رخام فيه السعيد اندفن

وحفرة فيها الشريد من غير كفن

مريت عليهم،، قلت يا للعجب

لاتنين ريحتهم لها نفس العفن.

ولا شك أنه لدينا كل الأسباب التي تدعو الشاعر الأهوازي للتذمر إن لم نقل للغضب والرفض، وإذا كان الشعر الفصيح يدعو أحيانا للانفصال فمن باب أولى أن يرعى أدب الشارع هذا الاتجاه. ولا أقصد به إقامة كيانات وأقاليم مستقلة وإنما إنشاء كيانات ثقافية تهتم بحل النزاع القائم بين رأس الإنسان وقلبه، ومن الأمثلة الواقعية على ذلك دار التقدم في موسكو ورادوغا في طشقند، فقد كانتا مؤسستين لهما إدارة تنفيذية واحدة.

وربما لو أضاف الدكتور رسول بلاوي هذه التيارات المستقلة لدراسته لأغناها، فالإشارة إلى أعراض المرض هي أول الطريق لعلاجه.

 

صالح الرزوق

.................

هوامش:

1- إطلالات نقدية على الشعر الشعبي الأهوازي. دار قهوة. إيران. 2017.

2- الوجودية، ترجمة امام عبد الفتاح امام. عالم المعرفة، 1982. ص 118-121.

3- جريدة العرب بتاريخ 21-5-2014

4- محمد هليل الرويلي. حين يقول دم الاحواز كلمته، إخبارية طبرجل الإلكترونية، 12 فبراير 2017.

 

 

في المثقف اليوم