قراءة في كتاب

ما بعد الليبرالية.. عودة إلي العصور المظلمة

سجال فكري مع الليبرالية الغربية والإرهاب والتطرف والعنصرية!

في كتابه الجديد "الليبرالية والإرهاب" الصادر عن مركز الحضارة العربية للنشر والدراسات بالقاهرة، يتوقع باحث الفلسفة السياسية بجامعة عين شمس الدكتور أحمد فاروق" أن تدخل البشرية حقبة جديدة يطلق عليها اسم "ما بعد الليبرالية"، تري لماذا، يجادل الكاتب قائلا : إنه على المدى القريب، سوف نجد أن قوى العدمية، ذات الصوت الأعلى والأكثر وضوحا من صوت الديموقراطية الليبرالية وعدميتها، قد تهيمن على المستقبل القريب، لتحفر على وجه زماننا حكايات صغيرة عن المآسى المحلية وعمليات إبادة البشر الإقليمية، وتخلق مناخا من عدم الاستقرار يتميز بالحروب الصغيرة المتعددة الضارة بالتكامل الكونى، أما على المدى البعيد، فسوف نجد أن قوى الليبرالية الرأسمالية هى تلك القوى التى تشكل الأساس لقوة دفع الحضارة الغربية التى تتسم بالبطء والثبات، وهو ما يعنى أنه لا قبل لأحد بإيقافها،وبذلك سوف تحتل حروب العدمية الصغيرة عناوين الصحف فى القرن الحالى.

 وهو ما يجعلنا نتكهن مع المؤلف بأن نهاية التاريخ ستكون صامتة فى آخر المطاف، أما المجانسة التى يقوم بها عالم الليبرالية الرأسمالية، فقد تخلق سلاما عاما يؤيد انتصار التجارة وأسواقها، ويوفر لمن يسيطرون على المعلومات والاتصالات والترفيه سيطرة مطلقة على مصير البشر،وإذا لم نقدم بديلا للصراع بين العدمية (الثقافات الأخرى من المنظور الغربى المتمركز على الذات) وعالم الليبرالية الرأسمالية، فإن الحقبة التى نقف على أعتابها ـ وهى حقبة ما بعد الشيوعية،وما بعد التصنيع،وما بعد القومية، وإن كانت كذلك حقبة طائفية مخيفة ومتعصبة ـ قد تصنع فى نهاية الأمر حقبة ما بعد الليبرالية.

 ففي كتابه " الليبرالية والإرهاب "، يؤرخ الباحث أحمد فاروق في نحو ثلاثمائة صفحة للأسباب التي أدت إلي نشأة الليبرالية من رحم الحروب والنزاعات المسلحة بين الأمم والجماعات المختلفة،صحيح أن موضوع النزاعات قديم قدم البشرية ذاتها، لكننا مع الليبرالية دلفنا فصلا جديدا من فصول التطورالإنسانى، فمعها ظهرت إلي الوجود القدرة علي الابتكار في القتل،وكذلك القدرة على الابتكار في التبرير الفكري له.

ومن خلال تطور الفكر السياسي الليبرالي عبر موجاته المتلاحقة، أضيفت للبرنامج الليبرالي فكرة غزو الطبيعة من أجل السيطرة عليها وإخضاعها، وهو غزو من شأنه إذا ما تحقق أن يحسم معركة السيادة والتملك بالضربة القاضية.وسوف يغدو الإنسان بعد قرون طويلة من المعاناة والألم سيدا ومالكا للطبيعة،ولكن بشرط أن يتبع النصائح والتوصيات التى يقدمها له العقل الليبرالي.وبهذه الطريقة تشكلت العقيدة الليبرالية فى القرون الثلاثة السابقة علي الثورة الفرنسية.

ويؤكد الدكتور أحمد فاروق أن تلك الأفكار عبرت عن نفسها في الثورة الفرنسية وخلال حروبها من أجل نشر عقيدتها- وهي عقيدة علمانية وحداثية بطبيعة الحال- في الريع الأخير من القرن الثامن عشر.ومع أن الثورة الفرنسية قد هزمت وحوصرت أفكارها بعد هزيمة نابليون عام 1815م، إلا أن عقيدتها- الليبرالية الحداثية – وأسسها الفلسفية، ظلت حية في مذاهب وأفكار فلاسفة السياسة. وعندما لا تموت الأفكار أو حتي تطمر في الكهوف بعد هزيمة من يحملون لوائها، فإنها تنتقل بسهولة ويسر خارج حدودها حاملة معها حماسة المشاهد المتفرج الذي يجلس أمام الشاشة دون أن يتأثر فعليا بالمناخ المحيط بالأفكار والحروب، وكلفة ذلك كله الباهظة علي الحياة السياسية والاجتماعية، وهي كلفة باهظة لدرجة أنها قد تؤدى إلي اضطراب،وربما توقف الحياة الإنسانية برمتها.

وهكذا خسرت المجتمعات البشرية القديمة معاركها مع الليبرالية وضد عقيدتها عن السيادة والتملك طوال التاريخ الحديث، وعبر سحر الأفكار تغرق الحماسة بها المجتمع الذي تسيطر علي خياله في نزاع بين القديم والحديث بصورة تنتهي بالحسم لصالح الحديث حتي لو كان الثمن لذلك هو البناء الاجتماعي ذاته.

وأوضح أنه عندما أنجزت الليبرالية هذا التحول في المزاج الإنساني العام، أصبحت بمثابة القوة المحركة لحياة – العالم، على نحو مكنها من السيطرة علي الخيال الإنساني، ومكنها كذلك من القدرة علي الاختلاق: اختلاق الأصدقاء والأعداء. وفيما استولت الليبرالية علي قلوب وعقول النخب السياسية والثقافية التي صنعتها لم تجد من تحاربه، وقد اضطرها ذلك إلي اختلاق الأعداء مجددا. كما حكمت القدرة علي الاختلاق المعارك والحروب الليبرالية منذ بدايتها وحتى أخر معاركها الكبري في النصف الثاني من القرن العشرين، وأقصد بذلك معركتها ضد النموذج الشيوعي للتحديث وخاصة في الاتحاد السوفيتي السابق.ففي تلك المعركة بالتحديد قامت الليبرالية باختلاق هذا الوحش الغامض غير القابل للتعريف المسمي باسم الإرهاب.

كما استخدمت الليبرالية كل ما تملكه من قدرات مادية ومعنوية- من نقود ونفط وحتي أفلام هوليود- في خلق أو بالأحري إختلاق هذا الوحش الخرافي الجديد،فرانكشتاين عصرنا، واستطاعت بواسطته دفع المواجهة مع الاتحاد السوفيتي السابق إلي حافة الهاوية، فسقط،وتهاوت مع سقوطه تجربة التحديث الشيوعي بالكامل.

ويذهب الباحث إلي القول بإن هذا الوحش الأسطوري- المسمي بالإرهاب- ظل ينمو بالرغم من زعم الليبرالية بأنها في نزاع وجودي معه، وها هو يغدو بشكل يومي كما لو كان يحدد مصير العالم ومستقبله.ويمتلك هذا الوحش الآن جاذبية آسرة- مثله في ذلك مثل الفاشية والنازية- باعتباره المدافع عن الفقراء ضد قوي الهيمنة والإمبريالية، بعدما اتخذت هذه القوي أشكالها الجديدة في ظل الانفتاح الاقتصادي بحيث انتظمت عولمة الإرهاب مع عولمة الاقتصاد.

 ويؤكد أحمد فاروق أن نظرة فاحصة علي هذا السطح المضطرب لعالمنا ستخبرنا العكس: فالإرهاب الذي تجدد به الليبرلية نفسها هذه الأيام، أصبح رأس الحربة في الموجة الجديدة من موجات الليبرالية للسيطرة علي العالم! وهى سيطرة تتم انطلاقا من العقيدة الليبرالية في السيطرة علي الطبيعة، وبالتالي تنظر للعالم باعتباره جزءا من الطبيعة يجب غزوه والسيطرة عليه لإنجاز مشروع الحداثة الأصلي،كما شكلته الفلسفة السياسية الليبرالية بداية من ميكافيللي وحتي جون ستيورات مل في القرن التاسع عشر.

ويمضي قائلا : بهذه الطريقة يعمل الإرهاب المعولم جنبا إلي جنب مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمجتمع المدني العالمي والأمم المتحدة لفرض قواعد اللعبة الليبرالية علي العالم بدموية كاسحة،وخبث مدمر، يدفع المرء إلي التساؤل: هل تستحق الحماسة لنشر طريقة الحياة الليبرالية الحديثة، كل هذا الثمن الباهظ من أرواح بشرية ومقدراتهم الطبيعية؟ وهل البشرية حقا في حاجة ماسة إلي الديموقراطية الليبرالية كي تزدهر وتغدو قادرة علي الاستمرار والتطور؟ فعندما تنتصر الليبرالية وقيمها في عصر الإرهاب- في معركة القلوب والعقول- علي هذا النحو المذهل يجب علينا التوقف أمام هذه الحماسة التي تضحي بحياة ملايين البشر دون أن تذرف دمعة واحدة، لكي نعرف ما إذا كانت تستحق فعلا كل هذه التضحيات. ولعل سبيلنا للقيام بذلك هو البدء من البداية، بمعني أنه يجب علينا الانطلاق في تحليل نقدي واسع وكامل لليبرالية بداية من ميكافيللي حتي نتمكن من فهم طبيعة الحداثة السياسية،وكيف تشكلت، وما هي رهاناتها الإنسانية والغايات التي تسعي إليها من خلال المشروع الحديث.

من الطبيعي أن تكون قدرتنا علي التساؤل بشكل نقدي خافته، خاصة وأن كل الزخم الإنساني اليوم متمركز حول الليبرالية، لكن شخصا ما يجب عليه أن يبدأ هذا العمل، وأن يشرع في التناول النقدي لليبرالية كفلسفة سياسية عصرية في عصر الإرهاب. وأن يواصل العمل في هذا الطريق حتي نتمكن من الخروج الطوعي من الدائرة الليبرالية، الدائرة الليبرالية في عصر الإرهاب، لأن الخروج الطوعي أو الارادي من هذه الدائرة، ربما يكسبنا القدرة علي التعامل بعقلانية مع مستقبل يبدو فارغا ومجهولا الآن، خصوصا وأن الليبرالية مع الحماسة الملازمة لها مازالا يلقيان بظلالهما المقيتة علي قدرات البشر في استشراف المستقبل: مستقبل الاجتماع الإنساني وسياساته المدنية في عصر الإرهاب. ونحن وقد صرنا نعرف الآن ما يعوقنا عن القيام بعملنا: إنها الحماسة التي تثيرها في نفوسنا الليبرالية وحروبها من أجل السيادة والتملك. فها نحن نتحرر كل يوم من وضعية المشاهد والمتفرج علي هذه الصراعات والحروب ونعيشها بوصفها واقع يومي مرير من وقائع حياتنا وعالمنا في عصر الإرهاب.والذي يضربنا بعنف يكاد يكون مطلقا.

من هنا سيكون لزاما علينا أن نستوعب كل الدروس المعاشة داخل تجربة الحياة الليبرالية في عصر الإرهاب. فالإرهاب كما تدلنا كتب التاريخ الحديث والمعاصر،وخاصة تاريخ الفلسفة السياسية الحديثة، ولد مع الليبرالية ونشأ في حضن محاولاتها من أجل فرض الهيمنة والسيطرة علي البشرية عبر الحروب والنزاعات المسلحة.

ولعل كتاب الدكتور أحمد فاروق يعطينا الفرصة نحو قراءة هذا السفر الكبير لليبرالية دراسة نقدية، قد تمكننا من الخروج من دائرتها السحرية بأساطيرها الجديدة والقديمة. وبطبيعة الحال فإن السيبل الطبيعي للدراسة هو التعليم، فالتعليم هو المخرج من تلك الدائرة التي تعيد إنتاج نفسها عبر تحكمها في الخيال الإنساني.فالتعليم وحده هو القادر علي إعادة تشكيل الخيال الإنساني.،هذا لأنه الاكتشاف الإنساني الذي صنع القدرة علي تحدي الذات من أجل تهذيبها وصقلها لكي تتكيف وتتلائم مع الحياة السياسية، وذلك قبل أن تولد الحياة السياسية وتسود وتصبح جزءا أصيلا من الشروط الإنسانية العامة.

فالتعليم في هذا السياق،وليد الاهتمام بالذات، وشرط الاهتمام بالذات هو الاجتماع الإنساني: الاجتماع الإنساني بما هو اجتماع سياسي. وضرورة بوصفه اجتماعا سياسيا، واحد من المسلمات الكبري للحياة الإنسانية، وهي ضرورة لم تعد بحاجة للبرهنة عليها في عصر يمتلك الإنسان فيه كل مقومات الحياة الفردية التي من المفترض أن تغنيه عن الحياة السياسية والاجتماعية، لكنه لم يفعل وربما لن يفعل إلا إذا تحول ولم يعد انسانيا.

ولذلك تعاود قضية التعليم الصعود إلي مسرح الأحداث في وقت الأزمة، وهذا ببساطة يرجع إلي أن التعليم هو سيبل الإنسان للخروج من أزمته. هذا ما تخبرنا به الخبرة الإنسانية قديما وحديثا: عليك بالتعليم إذا أردت أن تتجاوز المحنة التي تتعرض لها الحياة السياسية والاجتماعية.

ولا يهم هنا مصدر المشكلات ولا طبيعتها ولا حجمها ولا حتي مدي عمقها وتجذرها في البنية السياسية والاجتماعية. فسوف تكون لدينا القدرة علي تشخيص حاضرنا- هكذا تدلنا الخبرة الإنسانية- ولكن بشرط واحد فقط وهو أن نبدأ في الحال التخطيط والتنفيذ الجاد لبرامج هدفها هو التعليم.خصوصا وأن التعليم هو السبيل الذي سلكته البشرية لكي تنتقل من الشفاهية إلى الكتابة: التعليم هو الذي أدخل البشرية حضارة الكتابة. وبذلك التحول أصبحت الكتابة هي المدخل لمناقشة وتسجيل كل أطياف الخيال الإنساني، تلك الخبرات التي نتجت عن انخراط الإنسان في تجربة الاجتماع السياسي.

ومن أبرز ما يسجله هذا الكتاب حول تجارب الاجتماع السياسي الإنساني هو أن الطغيان،إضافة إلي استغلال بعض المشاركين في هذه التجارب للحاجات المشروعة في تسويغ الطغيان والدفاع عنه بتبريرات مضحكة. وهكذا تأحذ الكتابة علي عاتقها منذ نشأتها وحتي اللحظة،مهمة تقويض الطغيان والاستبداد عن طريق فضح أكاذيبه من ناحية،وتقديم بدائل جديدة عن صور الحياة السياسية والاجتماعية التى بمقدورها مساعدة الإنسان في البحث عن الكمال وتحصيل السعادة داخل الاجتماع السياسي من ناحية أخري .فقد كانت الكتابة –ومازالت- منذ نشأتها هي السبيل إلي التنوير، والتنوير هو الطريق للحياة الكريمة.

وربما يكون البحث عن الكمال عن طريق التعليم هو سبيل البشرية نحو الخروج من الدائرة السحرية لليبرالية، الدائرة السحرية التي خرجت منها النزعات الظلامية المتعصبة، فالدائرة كظلها تكره الكتابة والقراءة والتنوير، وتكره كذلك بحث الإنسان عن الكمال .

وفي كل الأحوال يعتقد المفكر المصري أحمد فاروق أن أسباب هذه الكراهية تعود إلي الظن المخادع بأنها – أي الليبرالية الغربية - قد وجدت الكمال وحققته، وأنه علي البشر، كل البشر دون استثناء، إتباع البرنامج الليبرالي لكي يصلوا إليه، إنها تجربة تنتهي لتتحول إلي عقيدة جامدة لا تمتلك القدرة علي فعل أي شئ آخر غير أن تفرض كينونتها بالقوة والإرهاب علي جدول أعمال الاجتماع السياسي الإنساني.

 

بقلم: عبد السلام فاروق

مدير تحرير جريدة الأهرام المسائي

 

 

في المثقف اليوم