قراءة في كتاب

ذاكرة القهر

علي المرهجعودة للدراسات العُليا في الكلية بعد مُعاناة من الخدمة في المُكلفية، وخلاصنا من الحرب ومسرحيات القتل المجاني في حرب الكويت، أو (أم المعارك) بالتسمية البعثية، أو (درع الصحراء)، أو (عاصفة الصحراء)، أو تصحر حياتنا، ولك أن تضع كل مرادفات التصحر في التعبير عن (ذاكرة القهر) كي تكون مُرادفة لما كُنَا ولا زلنا نعيش فيه من ألم وقهر وحرمان.

فنحن العراقيون نعيش القهر، ونصنع له ذاكرة من مُخيلتنا، يعشقها القارئ، فتبدو للمُتلقي وكأنها بقية من ذاكرة شجن جميل المحبة وأن لا مثيل لها في تلاقي القلوب المُحبة، ولكنها ذاكرة مُتخيلة تُصور الجمل لفظاً، ولا تتعجبوا إن وجدتم فيها من (طيحان الحظ) الكثير، وفيها من القهر ومن لذيذ الالم أيام (قادسية صدام) وما تلاها، ما يُظهر (الخيبة) وكأنها جماليات لعشق الشجن في مدونات قاص أو شاعر أو أديب لبيب، صوّر لنا حياتنا بألمها وبكل (ذاكرة القهر) التي فيها على أنها حنين للزمن الجميل، فالحياة ستكون وردية بعد خلاصنا من الحرب العراقية الإيرانية، ولكننا حصدنا ألم يتلوه ألم، و(أيام المزبن كضن، وأبشرك كضن أيام اللف، بس صرنا نلف ونلف، ونخاف من نديور لو نلف، خاف حزبي إمبدل علينا إو مختلف).

ولأننا كُنا في حينها طلَاباً في الكُلية، فلم تطلنا (القنابل العُنقودية)، ولا قصف طائرات (الشبح) التي أوقع الفلاح الهزيل (منكاش) طائرة منها!، صدام يقهقه، ويقول (عفية، وعفية، وعفية بمنكاش)! يا لسُخف القيادة، في طريقة قيادتها للجيش، وحُمقها وتجاهلها للشعب وللجيش وقادته الذين لا حول لهم ولا قوة، فمن يعترض على قرارات (القائد الضرورة) مصيره وضعه في قفص ينتظر إفتراس كلاب (دكتاتور) للحمه و(تفليس) البقية الباقية من لحمه.ج

ولأن كثيراً من أصدقائنا من الذين لم يستطيعوا إكمال الدراسة بسبب الفقر والقهر والحرمان، وطبقاً لقوانين البعث في التعليم، كان مصير أغلبهم الشهادة من أجل بقاء "مجد الأمة العربية" في نضالها الثوري!!.

لقد وضع نظام صدام قوانيناً قاسيةً، كان جُلَ هم من وضعوها عسكرة الشباب وتجنيدهم أو تجييشهم، فكان مصير الراسبين لأكثر من سنتين، السّوق لمعسكرات التدريب، كي يكونوا وقوداً للحرب، ونحن أصدقاؤهم فرحين بنجاتنا، ونعيش أيام وسنوات من القهر لأننا ودّعنا الكثير منهم، ونحن عشنا!، ألّا تجد في فرحنا هذا بنحاتتنا بعض من نسيان لإنسانيتنا، أو بعض من تأكيد لحيوانيتنا.

فكم من صديق فقدنا، ونحن نحسب الحياة وفق منطق الربح والخسارة، ونحن بقينا وهم ذهبوا، واليوم هم ضاحيا لحرب غير مُتكافئة بين جيش يتحكم به حاكم طائش أحمق مثل صدام، وجيش نظامي يحسب قادته خطوات جنودهم بالمسطرة، فكانت النتيجة هي شُهداء بالمئات إن لم يكونوا بالآلاف، وأسرى ومُعاقين ومفقودين، وأمهات وزوجات شهداء ثكلى، وأبناء يتامى لم يبلغون الحُلم، ولن يبلغوه، لأن هناك من سرق الأمل والحُلم معاً في بلاد الرافدين، فهي أرض (كربٌ) و (بلاء)، فكل (أرض كربلاء، وكل يوم عاشوراء)، ومصير البلاد النحيب.

بعد تخرجنا من الكُلية كانت هناك ما يُسمى بـ "المكلفية" والخدمة العسكرية لكل خريج لمدة سنة ونصف لتلقي التدريبات العسكرية.

بعد تخرجي من كلية الآداب، لا بُد لي ولأمثالي من الخريجين من الإلتحاق بمعسكرات التدريب، فكان مُعسكر تدريبي هو (مُعسكر المحاويل) القريب من مدينة بابل الأثرية، (الحلة) اليوم.

كان نظام العسكر آنذاك يُعاقب الجندي بعقوبة شديدة حينما تتجاوز غياباته التسعة أيام، وفي اليوم العاشر يُدون أسمه في سجل الهاربين، فأعجبتني (لعبة القط والفأر) هذه بين الجندي وبين الضابط، فكنت أنا بمثابة الفأر الذي يُجيد لعبة إحراج القط، فأغيب تسعة أيام خلت، فأرجع في اليوم التاسع، فأعاقب بأشد ما تكون عليه العقوبة في الهرولة والركض وكل الرياضات المؤذية من العقوبات العسكرية في الإمتهان من كرامة الإنسان، ولكني كُنت أحسبها بحسابات رياضية دقيقة، فمن كان من الجنود أو (العسكر) المواضبين على الدوام يومياً يُعاقبون يومياً على أبسط الأخطاء، فحسبتها (حساب عرب)، لماذا لا أغيب تسعة أيام وحين عودتي أعاقب لساعات، وكان هذا حالي طوال مدة تواجدي في (مُعسكر المحاويل)، وبعد عقوبات شديدة، وسجن بسبب الغياب بعد مسك (الإنضباط العسكري) = (الزنابير)، وهي التسمية الشائعة عنهم في نحتنا الدلالي للمدلول.

بعد أن إنتهت مُدة التدريب، حان موعد القطاف، أي توزيعنا كل على صنف عسكري، فكنَا في اليوم الأخير لنهاية الدورة، ننتظر نقلنا للوحدات العسكرية، وهو يوم شبيه ـ مع الفارق ليوم إنتظار الطالب أو التلميذ لنتيجته بعد إمتحانات "البكالوريا"، أو هو (يوم الحساب) في عراق الرافدين لمن عشقه ترابه من الفقراء والمساكين، وكنت أنا من فقراء هذه الأرض التي تنبذ أبنائها.

كان أحد الضباط مُمسكاً بالمذياع، يصرخ بقبيح الصوت لييُخبرنا بأمكنة تنقلاتنا، وبعدة مُدة إنتظار مُملة ذُكر إسمي ومكان نقلتي التي كانت دورة في (دائرة التوجيه السياسي) بباب المعظم في بغداد مُقابل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، قُرب بناية مُلاصقة لبناية (الموسيقى العسكري)، وكان قد صدر في ذلك الأوان أن يكون عناصر التوجيه السياسي من خريجي الإعلام والفلسفة وعلم النفس، لأنهم الأدرى بحكم تخصصاتهم في التعامل مع مُتغيرات الحدث والمواجهة، طبيعة النفس البشرية وعلاقاتها الاجتماعية طرح الرؤية النظرية والحلول العملية للتعامل مع الجنود في الحرب لشحذ هممهم!!.

كان في معسكر المحاويل رئيس عرفاء أسمه علي كأسمي، ولكنه يُطيق النظر لقاتل أبيه أو أخيه ولا يُطيق النظر ليَ، فكان يفرح حين مقدمي بعد غياب تسعة أيام كي يُشفي غليله مني بوصفه النايب ضابط (الحاروكه) المسؤول على فصيلنا ما أدري سريتنا، لأنه يعدَني ممن يستهينون بقيمة الحياة العسكرية والضبط الذي ينبغي أن يتوافر في الجُندي!!.

وحينما تم الإعلان عن تنقلاتنا وعلم أن (نقلتي) كانت للتدريب في مدرسة التوجيه السياسي بباب المعظم في بغداد إشتاط غضباً وقال: (الله وأكبر، اللي يداومون وملتزمين بالدورة ينقلون في الحرس الجمهوري، والمغاوير، وحرس الحدود، وهذا الما يداوم إمودينه لبغداد)، (هي الدنيا حظوظ)!، فقلت له لماذا أنت كثير الاستغراب، (أظن أن الكومبيوتر (الحاسبة) تعرف المحارب من غير المحارب، وأنت عرفتني آني لا أحارب ولا أعرف، فالحاسبة ذكية، فأعطت من يستحق ما يستحقه، فأنا لا أعرف التصويب وكيفية إطلاق النار، وغيري ممن استمر في التعلم والتدريب والمطاولة في تحمل البقاء هم الأجدر في الدفاع عن الحدود، فالكومبيوتر ذكي، (فلا إتضوج خويه).

وفعلاً استلمت كتاب نقلي لمدرسة التوجيه السياسي بباب المُعظم الذي إلتحقت للدوام به بعد يوم واحد من نقلي، وكان معي أصدقاء كُثر ممن تخرجوا من كُلية الآداب، وأذكر منهم (أحمد السامرائي) و (ذاكر محمود جبارة) من الرمادي، و (محمد بديوي) الذي حصل فيما بعد على الدكتوراه في الإعلام، وقُتل على أيدي حرس رئاسة الجمهورية من الأكراد، الذي نقلت حادثة قتله الشنيعة كل وسائل الإعلام أيام رئاسة المالكي لمجلس الوزراء، وحينها تناقلت وكالات الأنباء والقنوات الفضائية والصُحف تصريح المالكي: "إن دم الشهيد في عُنقي، وأنا ولي الدم"!!.

وبعد دورة لم تتجاوز الثلاثة أشهر في مدرسة (التوجيه السياسي) تم نقلنا للوحدات، وكانت نقلتي لمدرسة (التمريض العسكري) في مُعسكر الرشيد قُرب الزعفرانية، التي لم أستمر فيها سوى بضعة أشهر، بعدها تم قُبولي في الدراسات العُليا (الماجستير) في قسم الفلسفة بجامعة بغداد.

قدمت أوراقي وكل ما هو مطلوب للقبول بعد إجتيازي للإمتحان التنافسي، وبعد نجاحي في كل هذه الإختبارات، أكملت أوراقي فيما يُسمى بـ (الإنتداب)، وبدأت رحلة الدراسة، وبعد مُباشرتي لدراسة الماجستير، تعرفت على زملائي، وأذكر منهم (مها عيسى) هي اليوم أستاذة الفلسفة اليونانية في قسم الفلسفة/ جامعة البصرة، تتميز بقوة الشخصية، وذات عقلية واعية، ذات نفس تحرري، متأثرة بفكر وشخصية أستاذ علم الكلام والفلسفة الإسلامية في البصرة أ.د.محمد جواد الموسوي، وهي كما أسمع عنها لا زالت تلك التلميذة الوفية له، وهما والحق يُقال، نِعم الأستاذ ونِعم الطالب.

لي مع (ميثم الجصاني) علاقة مودة ومحبة، فقد زارني في يوم من أيام رمضان، فبات ليلته في بيتنا وكان صائماً، وأمي صائمة، ففرحت أمي بأن لي صديقاً يصوم، فاستيقضت قبل أوان طرق (المسحرجي) للطبل، كي تُهيء له من سحور يليق به لفرط إيمانه وتدينه. وهو اليوم مُدرس الفلسفة في قسم الفلسفة بجامعة واسط.

أما (عبدالناصر زاهر محمد بلال) الفلسطيني الذي نال حظه من المُعاناة في سجون الإحتلال الإسرائيلي، فقد كان من (المُناضلين) في حركة فتح، ولكنه لم ينل من نضاله سوى عمى العينين، إلَا أنه كان الأقوى والأشد منَا بصيرة بتحولات الحال وتغير الأحوال في جعل رجال النضال تحت سُلم التذكر لمن هم من أمثاله في عوالم الممانعة ورفض الإحتلال، فكان (محمد محسن) مممن تكفلوا بالتواصل معه وتقضية بعض حوائج له مما يحتاجه الرجال ساعة المحن حينما يتخلى عنهم الحزب والأهل من أعمام وأخوال.

معنا أيضاً (حم ولد أب) الطالب الموريتاني الذي كان حريصاً على التعلم من الذين كانوا راغبين في العلم وتعلم علوم العرب ممن يمتلكون الخُلق وفافوا به الغرب في الوصول لنهاية الإرب بتواضع جم ينم عن وعي بغاية الأدب، وهناك آخرون لم تُسعفني الذاكرة لتذكر محاسنهم وطيب التلاقي والمعرفة بهم.

ولكن الراسخ في ذاكرتي والمُحاصر لها هو (محمد محسن) الذي جاءنا من قسم (الهندسة الكيمياوية) ـ كما أتذكر ـ رافضاَ لها، شغوفاً بالفلسفة والشعر والمسرح والسينما والموسيقى، منه تعلمت بعض من تذوق لهذه الفنون.

عرفته ولازال مُتمرداً على الشائع السطحي في المعرفة، إنساني التوجه، يُذكرك بحنان تفتقده بين الأصدقاء، حينما يطل عليك، تشعر أن هناك نسائماً من عطر الطيبة والمحبة الأصيلة داعبت وجنات خدك التي كاد وريق شبابها يتساقط من كثر سنوات القهر والحرب والحصار، لكن مثل طيبة أمثال محمد تُعيد لها بعض من إخضرارها، فحتماً ولا بد أن تُخاطب نفسك لتمنحها الأمل حينما يطل عليك محمد محسن بنقائه ونفيس ما يمتلك من خُلق، قائلاً لماذا اليأس ومثل هذا الكائن الشفاف لا زال موجوداً في العراق رغم كل حماقات الدهر.

كان يُتقن محمداً الإنكليزية، وكان أحد دروسنا هو نص إنكليزي فلسفي، وبفعل ضغط العمل لم يكن لدي مُتسع من الوقت لقراءته، فكنت ألتقي بمحمد قبل بدء المحاضرة التي كانت تُدرسنا فيها (الأستاذة فاتنة حمدي) طيبة الذكر، فحين لقائنا يشرح ليَ محمد معاني النص الإنكليزي، وأنا سريع الحفظ، فندخل المحاضرة سوية، فأجيد الإجابة والترجمة للنص بفضل جهد محمد، وكان محمد فرح لأنه قدم ما يليق به كصديق وفي.

لكننا بعد دراسة الماجستير إفترقنا بفعل ضغط الحياة، ومحمد عمل مدرساً خصوصياً للغة الإنكليزية لطلبة السادس الثانوي، أسمع أخباره بين الفينة والأخرى، بأنه بخير، وأنا فضلت الاستمرار في الدراسة وإكمال دراسة الدكتوراه، وبعد أن مرت السنين، وحصلت على الدكتوراه، عرفت أن أحوال محمد ليست على ما يُرام، وبعد جهد جهيد من أصدقاء يُحبونه كما أحبه إن لم يكن أكثر، قدم محمد أوراقه للتعيين في قسم الفلسفة بكلية الآداب/ الجامعة المُستنصرية، ورغم عدم جديته في التعيين، ولكنه فعل ما فعل استجابة للمُحبيه من الأصدقاء، وفعلاً تم تعيينه في قسم الفلسفة، فصار زميلاً لي ولكثير من مُحبيه، والغريب المُثير والعجيب، أنه تحت ضغط أيضاً منَا نحن أصدقائه لثقتنا بقدراته الثقافية والعلمية، إستجاب لطلبنا في التقديم للدكتوراه، وفعلاً تم قبوله، وهنا الغرابة والتعجب، فقد صرت أنا زميله في دراسة الماجستير، أحد من درسوه، فكُنت خجلاً لمعرفتي بطاقته ودرايته، ولكنه كان إنساناً كعادته، فرح بيَ، أشعر بفرحه في التلميح تارة والتصريح تارة أخرى.

وكعادته بعد لأي وحرص شديد من مُشرفه (د.محمد الكبيسي) وزملائه ممن يثقون بقدراته، وفي الوقت الضائع من مباراة استكمال مُتطلبات الدكتوراه، ولأنه لا يروم خُسران ثقتنا ومحبتنا له، استطاع تكملة أطروحته للدكتوراه، وهي في طريقها للمُناقشة.

فتباً لسنوات القهر والحرمان، ولكن في تذكرنا لها نجد بعض من نبضات قلوب مُشعة بالإنسانية مثل قلب مُحمد الذي زرع محبة وإنسانية، فحصد حرصاً وتقديراً عند من عرفه وعاشره أو صاحبه أو صادقه. وليَ عن بعض من أصدقاء مُميزين عرفني عليهم حكاية، أو حكايات..

 

علي المرهج

 

 

في المثقف اليوم