قراءة في كتاب

(حي بن يقظان) في طبعته الروسية الحديثة

ميثم الجنابيطبع قبل اسابيع كتاب (حي بن يقظان) باللغة الروسية من قبل دار صدره للنشر والتوزيع. وهي الدار التابعة والممولة من قبل المركز الايراني للثقافة الاسلامية. ولهذا الكتاب تاريخه الخاص. فقد عمل على ترجمته الباحث السوفيتي – الروسي الكبير ارتور فلاديميروفتش سعدييف ضمن سلسلة الاعمال الفلسفية التي صرف عليها اغلب حياته العلمية. اذ ترجم الكثير من المؤلفات الفلسفية لفلاسفة الاسلام ومفكريه الكبار مثل الفارابي وابن سينا وابن رشد والغزالي وغيرهم. وكتب عدد من الكتب القيمة (ويمن اعتبارها من افضل ما كتب بهذا الصدد بالروسية مثل كتابه عن ابن سينا، وكذلك كتابه عن ابن رشد، اضافة الى عشرات الابحاث الفلسفية العميقة حول مختلف جوانب الثقافة العربية الاسلامية.

وقد طبعنا انا والبروفيسور نور كيراباييف هذه الاعمال قبل سنوات في مجلدين كبيرين (دار المرجاني – موسكو). وبقيت جملة من الاعمال التي ترجمها لكنها ظلت في ادراج اعماله التي لم يستطع نشرها في حياته. ومن بين هذه الاعمال قصص (حي بن يقظان) لكل من ابن سينا والسهروردي المقتول وابن طفيل. وقد جمعنا انا والبروفيسور كيرابايف من جديد هذه التراجم وتوحيدها في كتاب واحد (ولهذا الجمع تقاليده في العربية الذي سبق وان قام به الباحث والعلامة المصري الكبير احمد امين). وقمت انا بترتيبه واعادة النظر بالترجمة على اساس مقارنتها بالنصوص العربية، ليس لاختبار وتدقيق ترجمة البروفيسور سعدييف، بل لتلافي امكانية الاخطاء المعنوية الممكنة في النصوص لأنه تركها بعد موته. اذ يحتمل وجود اخطاء مطبعية او ما شابه ذلك بعد اعادة طبعها على الالة الكاتبة (والان على الكومبيوتر).

وتحتوي ترجمة الكتاب على شروح وتعليقات وضعها المترجم. وتتجاوز هذه الشروح المئات، التي تشكل بحد ذاتها جهدا علميا اكاديميا كبيرا لكي يكون بامكان القارئ الروسي ادراك مغزاها ومعناها الحقيقي.

يحتوي الكتاب على ترجمة لقصة حي بن يقظان لكل من ابن سينا والسهروردي وابن طفيل، أي على ثلاثة نصوص. كما جرى دمج ملحق في اخر الكتاب لبحثين كتبهما كل من كريم مجتهدي وتوفيق فائزي. اما المقدمة العامة فقد كتبتها خاصة لهذا الكتاب وهي بحدود 25 صفحة (بالروسية).

وعدد صفحات الكتاب 208 صفحة.

نص المقدمة

اليقظة الفلسفية ومغامرة المعرفة الحية في (حي بن يقظان)

354  ميثم الجنابيإن الترنيمة الأبدية للوجود لا علاقة لها بأصوات البشر! لكننا نعثر فيها على ما يمكن دعوته بمحاولات الإنسان الحثيثة لإبداع النسب المثلى في موسيقى العقل والروح والجسد. فهي الترنيمة الوحيدة القادرة على الارتقاء إلى مصاف المعرفة الحدسية.

فالمعرفة الحدسية تعكس تجارب الأمم بمعايير التاريخ، وتجارب الثقافات بمعايير الحقيقة. من هنا يمكن رؤية البحث عن ترنيمة الوجود وأنغامه في إن- يان الصينية ومساعي التاوية (داو) في بلوغ الانسجام مع الطبيعة. كما يمكننا رؤيتها في مساعي الفلسفة البوذية لتأسيس قيمة ومعنى النرفانا بالنسبة للروح والجسد. وكذلك في مساعي الإغريق لتأسيس ماهية الفلسفة، بوصفها حبا للحكمة. من هنا مرجعية التناسق الضروري بين الروح والجسد وشعارها عن (العقل السليم في الجسم السليم). كل ذلك يعطي لنا إمكانية القول، بأن موسيقى العقل هي التي أنتجت رياضيات الفيثاغورسيين، تماما بالقدر الذي أنتجت رياضيات الفيثاغورسيين رياضة النفس والجسد، بوصفها احد النماذج الإغريقية لبلوغ الحكمة. والشيء نفسه يمكن قوله عن الثقافة الإسلامية التي أبدعت من وحي تجاربها الذاتية المتنوعة نظمها الخاصة عن الحكمة. وحصيلة القول، تقوم في أن تاريخ الأمم والثقافات يبدع صيغا وأشكالا ومستويات متنوعة للحكمة، لكنها جميعا تسعى لتأسيس النسبة الخفية بين الوجدان والعقل، أي كل ما يؤدي إلى إبداع موسيقى العقل ونغماته المختلفة. وفي هذا يكمن سر الإبداع وطاقته الخفية. ولا حدود لهذه العملية بمعايير المنطق، لكنها محدودة بمعايير الحدس. وفي هذا تكمن مفارقة المعرفة الحدسية وألغازها.

فمعرفة الحقيقة تبدو جلية حالما نضعها بمعايير المنطق والذوق السليم وتقاليد التحليل العلمي، بوصفها المكونات الضرورية لكل معرفة متراكمة. لكنها تنحلّ في حالة الانبهار والاندهاش والارتقاء إلى مصاف الحدس. إذ عادة ما يجعل هذا الارتقاء من حلّ الغاز الوجود لغزا معرفيا. وفي هذا تكمن بقدر واحد مفارقة المعرفة العميقة، ومضمون الفلسفة الحية، والعيش بمعايير الحكمة وقيمها. وذلك لان بلوغ حالة الحدس يجعل النتائج سهلة وجلية، عصية وغامضة، ظاهرية وباطنية، فردية وعامة، قومية وعالمية، أخلاقية وإنسانية. وفي كلها مجرد مظاهر ومستويات متنوعة ومختلفة للبحث عن اليقين. 

فحالة الحدس سهلة وصعبة بسبب ما فيها من إثارة لفرح الوجدان الذائب في الاندهاش والانبهار، وحزن العقل في مواجهة صعوبة التعبير عنها بمفردات اللغة المنطقية. كما أنها جلية وغامضة بسبب وحدة الانكشاف والغموض فيها. وهي ظاهرية وباطنية لأنها تتمثل التجارب التاريخية للأفراد والجماعات والأمم. كما أنها فردية وعامة، لأنها تجربة ذاتية خاصة، لكنها ترتقي في نموذجيتها إلى مصاف العام بسبب ما فيها من فردانية متسامية. وهي قومية وعالمية، بسبب خروجها الجميل على حدود التجارب العقلية التاريخية للأمم، والبقاء ضمن حكمة الثقافة الإنسانية. كما أنها أخلاقية وإنسانية، بسبب ما فيها من نزوع لتوحيد وتحقيق تجارب العقل النظري والعملي بمعايير وقيم الروح المتسامي. فالتجارب العقلية ليست إنسانية بالضرورة، كما أن العقلانية ليست أخلاقية بالضرورة. أما الحكمة بوصفها خروجا على العقل بمعاييره، فإنها الوحيدة القادرة على تأسيس الطريق الفعلي للرؤية الإنسانية المتحررة مما دعته المتصوفة برق الاغيار، أي التحرر من كل ما لا صلة له بالحق والحقيقة[1]. وليس مصادفة أن تتطابق الحكمة مع فكرة العمل، ومن ثم توحيد العلم والعمل في كل واحد. فهو الأسلوب الوحيد لبلوغ حقيقة اليقين. حينذاك يصبح اليقين من جديد أسلوب العمل، بوصفه معيار الاختبار الدائم للإرادة عبر تهذيب وتشذيب مكوناتها ووضعها على الدوام أمام التاريخ الفعلي للثقافة. وحالما يبلغ الإبداع الفلسفي هذه الحالة عندها تصبح رسائله المدونة "كتاب الطاولة"، أو "خير أنيس وجليس" كما أطلقت عليه الثقافة العربية الإسلامية، أي كتاب الروح والجسد الإنساني. بمعنى قدرته على أن يكون مرافقا وموافقا لأذواق وهواجس وهموم الأجيال المتجددة وتنوع الثقافات.

إن هذه الموافقة والمرافقة لا يمكنها الاستمرار دون بلوغ درجة الحكمة، بوصفها خروجا خروج على العقل التاريخي للأمم والحضارات والارتقاء إلى مصاف الثقافة الإنسانية الكونية. لكنه خروج متنوع المظاهر مهمته البحث عن المعنى في صيرورة الوجود والعدم. مما يجعل منه تعويضا وحيدا للحكمة حالما تعجز عن أن تكون حاكم الوجود، مع أنها بذاتها حاملة قيم التجانس. غير أن تحقيق هذه القيم وتجسيدها يبقى على الدوام جزء من تأسيس منظومة المثال والواجب. وتقف هذه المنظومة على الدوام ما وراء التاريخ الواقعي وتتمثله في الوقت نفسه من خلال نفي سفسطات العقل واللسان، مثل قولنا بان الإنسان يحب الفن لأنه اصطناعي! وهي سفسطة لها مذاقها الخاص في الثقافة الإسلامية، كما زاولتها مختلف فرق الكلام. وقد كانت قضية الطبيعة والتطبع من بين أكثرها إثارة للجدل. فقد سعت المعتزلة، على سبيل المثال، للبرهنة على أهمية التطبع وضرورته الإنسانية من اجل إخراج الإنسان من حيز القيود القاسية للغريزة، انطلاقا من فكرتهم عن حرية الإرادة. بينما أستعمل المناوئون مختلف الحجج بما في ذلك "سفسطة الطبيعة" من اجل دحض آراء المعتزلة. إذ تروى نادرة كيف أن احد مناوئ المعتزلة دخل وفي جيبه فأرة. وانتظر حدوث الجدل حول قضية الطبيعة والتطبع. عندها اخرج الفأرة ودحرجها على السجادة، فانطلق هر (قطة) الخليفة المتطبع على سماع مالكه في مطاردتها. عندها قال: إن الطبيعة تغلب التطبع على عكس ما تقول المعتزلة! وهي حجة لها مذاقها بالنسبة لجدل "الطبيعة السيئة" والعقل المخاتل. وذلك لأن معقول المعتزلة هو البحث عن نظام أرقى للوجود يحتكم للعقل ويقر بوحدته الأخلاقية القائمة في التوحيد والعدل. وقد وضعوا هذه الفكرة قبل هيغل بقرون عديدة عندما قالوا بان كل ما هو موجود هو معقول. بينما رد عليهم الاشاعرة بفكرة، إن كل ما هو واجب هو معقول. والوجود والوجوب ليس شيئا واحدا. وهي إشكالية لا يحلها عقل ولا يذلل طابعها المتناقض (ديخاتوميا) شيئا غير تجاوزها إلى مصاف الحكمة. بمعنى رؤية وحدة المتناقضات بعيون المطلق. كما قال احد المتصوفة، إنني عرفت الله بجمعه بين الضدين!

وهي فكرة متسامية! لكنها الأشد تعقيدا وصعوبة بالنسبة للتحقق حالما يجري نقلها إلى واقع الحياة الخشن والتاريخ المليء بالخطأ والخطيئة. إذ لا يمكنها أن تكون من نصيب الفكر المتعجرف والصفوة (النخبة) المترنحة بين قواعد المنطق المدرسي والتقليد الأجوف لتجارب الأسلاف. وذلك لأن ميدانها الوحيد هو الامتحان الدائم للوجدان، كما أن أسلوبها الأمثل يقوم في الرجوع إلى حقيقة الإنسان وطبيعته الأولى باعتبارها هوية كونية[2]. ومن الممكن تلمس هذا الرجوع وتحسسه في مختلف الصيغ البسيطة والطبيعية للوجود القائمة في ضحك الأمهات ونحيبهن، وغنج الصبايا وحنينهن، وفي تحول اليأس إلى أمل والبؤس إلى بأس (المعدومين إلى أبطال)، وكذلك في كل مظاهر الحياة المثيرة للحس والعقل والضمير. وليس مصادفة أن يكون الرمز القائم في تناسق زهرة اللوتس أكثر إثارة من أهرامات مصر، وان تكون عبارة "يا وردتي الصغيرة!" النابعة من القلب والمنعكسة في عيون المحبين أكثر إثارة للحس والعقل والغريزة من ناطحات السحاب. ففي الأولى تنعكس مغامرات الزمن الخالد في البحث عن نسب مثلى للرائحة واللون، بوصفها الصيغة الأكثر نموذجية لموسيقى الوجود، التي قال إخوان الصفا عنها بأنه الشيء الذي لا يشبه الأشياء. بينما الثانية هي إعجاب ظاهري لا يتحسس فيه القلب النبيل عذاب العبيد واغتراب المنتجين! لكنها تبقى مع ذلك جزء من إشكالية الصيرورة المتناقضة لوجود البشر، بوصفها مفارقة الوجود والعدم أو الحياة والموت. وهي إشكالية الحس والعقل، والجسد والروح بقدر واحد. كما أنها في نفس الوقت الإشكالية التي أثارت وما تزال تثير الرغبة الصادقة في البحث عما يمكنه تذليل هذه الهوة التي تبتلع الوجود الزمني للأفراد وتبقي للتاريخ مهمة تأملها بوصفها معاناة لا تنتهي. وفي هذا يكمن أيضا مصدر اللذة الأبدية المثيرة للخيال والإبداع، أي لكل ما نعثر عليه في حاجة البحث عن قيمة أبدية أو يقظة تنظر إلى عالم الفساد والخراب بعيون دامعة وقلوب فرحة. ومن خلالها تأسيس الأبعاد العقلية والأخلاقية للحكمة.

وضمن هذا السياق كانت رسائل (حي بن يقظان) وما تزال تمثل هذا النمط من معاناة تأسيس الأبعاد العقلية والأخلاقية للحكمة، أي محاولات تأسيس قيمة ومعنى اليقظة الأبدية بوصفها حقيقة الحكمة. إذ ليس المقصود باليقظة الأبدية سوى الحياة الأبدية. ولا معيار حقيقي لها غير الحكمة، بوصفها صانعة المعنى. فالأبد معنى! ولا وجود له إلا بوجده والمعاناة من اجله وتمثل حقائقه الكبرى! وشأن كل معاناة من هذا القبيل، فإنها تحتوي بقدر واحد على توازي وتشابك المعاناة الفردية للمبدعين والثقافة العامة.

فقد كانت "قصة" (حي بن يقظان) وما تزال من بين أكثر "القصص" إثارة وطرافة وديمومة. فهو العنوان الوحيد الذي الهم شخصيات مختلفة ومتباينة من حيث ظروفها الحياتية والتاريخية والجغرافية. لكنها كانت جميعا مهمومة بهاجس الحكمة. وقد تكون هذه الحالة إحدى الحالة الفريدة التي لم تتكرر لاحقا. وليس لها سوابق في الثقافة الإسلامية. وهو الأمر الذي يعطي لنا إمكانية الحديث عن نماذج متنوعة وتواريخ خاصة وفردية في تأسيس احد النماذج المغرية لليقظة الفلسفية. ولهذه اليقظة مقدماتها في صيرورة الثقافة الإسلامية. أما أشكالها الخارجية فإنها كانت تتمثل مختلف ثقافات العصور السالفة، والإغريقية بشكل خاص. فمن الناحية الشكلية كانت قصة حي بن يقظان في شكلها الذي رسمه ابن طفيل تحتوي دون شك على صدى أصول يونانية كما نراها في قصة (الصنم والملك وابنته)[3] بوصفها إحدى الأساطير القديمة عن الكسندر المقدوني. وكذلك قصة (سلامان وابسال)[4]،التي نقلها حنين بن اسحق من اليونانية إلى العربية.

بعبارة أخرى، إن بعض مكونات القصة والأساطير في (حي بن يقظان) يشير إلى دوران الإبداع التاريخي للخيال والأساطير المتنقلة في حوض المتوسط (البحر الأبيض المتوسط). ولهذه الصورة أشباهها الواسعة الانتشار مثل أسطورة رمي موسى في البحر والتقاطه من فراعنة مصر وأمثالها العديدة في (ألف ليلة وليلة) وغيرها من قصص الخيال الشعبي الجميل. أما صيغتها المتكاملة الفنية والفلسفية عند ابن طفيل فهي نتاج تاريخ ثقافي حدد معالمه الفلسفية ابن سينا عندما جعل من "حي بن يقظان" عنوانا لليقظة الفلسفية، بوصفها حكمة متسامية.

لقد جسد عنوان وقصة (حي بن يقظان) أولا وقبل كل شيء وحدة التاريخ والثقافة الإسلامية في بحثهما عن الحكمة. وهو عنوان تجمعت مكوناته من تكرار وتراكم التأمل التاريخي لصيرورة الوجود والعدم، بوصفها الإشكالية الجوهرية لكل تفكير فلسفي عميق وأصيل. فقد تراكمت الرؤية الإسلامية في الموقف من الحياة والموت تحت مرجعية الآية القرآنية التي يرددها المسلمون عندما يدفنون موتاهم :"لا اله إلا هو الحي القيوم، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم". بمعنى بروز وظهور "الحي القيوم"، أي الساهر واليقظ في رؤيته لنهاية الجسد ومواراته في ارض الخراب! وتعكس هذه الصيغة علاقة الطبيعي بالماوراطبيعي وأهمتها بالنسبة للمعنى واليقين. فالموت يقين! بل اليقين الأكبر والأوحد! ومع ذلك أكثره إثارة للشك! وهي المفارقة التي تجعل من الحياة ميدانا للشك المعذب وتأسيس اليقين أيضا. وفي هذا المفارقة المثيرة للعقل والضمير كانت وما تزال تكمن مختلف المحاولات المغرية التي حاكت وتحيك بخيوطها الخفية انس الثقافة وجنونها!

فقد كتب ابن سينا رسالة حي بن يقظان، بعد أن قطعت الثقافة الإسلامية أشواطا هائلة في ميدان صيرورتها وكينونتها العالمية، بحيث لم تعد تفكر في الواقع إلا بمعاييرها الخاصة. وهي معايير كونية. من هنا اندماج مختلف الثقافات فيها (من يونانية وفارسية وهندية وصينية، إضافة إلى ارثها الخاص من تاريخ مصر القديمة وما بين النهرين). غير انه اندماج كان يذوب في بوتقة الرؤية الإسلامية ومرجعياتها الروحية في تأمل معنى الوجود وقيمة الحكمة. وعادة ما يضع هذا التأمل الفيلسوف أمام مظاهر الموت المتناثرة في السلطة والتقليد والعبودية والرذيلة والجهل والانحطاط. من هنا هموم "الحياة اليقظة" في مواجهة مختلف مظاهر الموت!

إن قصة (حي بن يقظان) هي قصة التأمل الفلسفي المتفاءل وحدس الحكمة النظرية والعملية، الذي نعثر عليه في التاريخ الشخصي لكل من ابن سينا وابن طفيل والسهروردي المقتول، أي لكل أولئك الذين انعكست في حياتهم ومصيرهم التاريخي روح الثقافة ومساعيها الحية من اجل تأسيس الحكمة. 

ابن سينا-  حكمة الشفاء والنجاة!

ابن سينا هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن علي (370-427 للهجرة). كان أبوه من أهل بلخ وأمه من قرى بخارى. ونشأ في عائلة محبة للمعرفة والعلم والرياسة، وتعتنق الفكرة الإسماعيلية. ورغم اعتراف ابن سينا نفسه بعدم استساغته لما كان يقوله أباه وإخوته عن أفضلية الفكرة الإسماعيلية، إلا انه تأثر بنزوعها العقلي الصارم وروحانيتها الباطنية ونزوعها العملي السياسي. ومن ثم لم يكن المقصود بعدم قبوله ما يقولونه معارضة للفكرة الإسماعيلية بحد ذاتها، بقدر ما هو مؤشر على استقلاله الفكري المبكر وفطرته الحرة في البحث عن الحقيقة، كما نعثر عليه في مجرى حياته ككل. إذ استطاع أن يتجرد للبحث الفلسفي في وقت مبكر بعد اطلاعه على أوليات المعارف (اللغة العربية والقرآن والفقه والأدب). ومنهما تراكمت معالم شخصيته، بوصفها احد النماذج الرفيعة للفردية المتسامية في البحث عن الحقيقة وتأسيس الأفكار.

وقد أشار هو في معرض حديثه عن نفسه بولعه المبكر في الفلسفة وإتقانه مختلف علومها. وكتب بهذا الصدد عن إحدى سنواته المبكرة عندما اختلى لدراسة الفلسفة قبل الثامنة عشر يقول:"ثم توفرت على العلم والقراءة سنة ونصف، فأعدت قراءة المنطق وجميع أجزاء الفلسفة. وفي هذه المدة ما نمت ليلة واحدة بطولها، ولا اشتغلت النهار بغيره. فكل حجة كنت انظر فيها اثبت مقدمات قياسية، ورتبتها في تلك الظهور. ثم نظرت فيما عساها أن تنتج، وراعيت شروط مقدماتها حتى تحقق لي حقيقة الحق في تلك المسالة. وكنت كلما أتحير في مسألة ولم أكن اظفر بالحد الأوسط في قياس ترددت إلى الجامع، وصليت وابتهلت إلى مبدع الكلّ، حتى فتح لي المنغلق وتيسر المتعسر".[5] وتشير هذه الحالة إلى هموم البحث والحيرة والاكتشاف التي لازمته مدى الحياة. فنراه يكتب عن مرحلة متأخرة من حياته يقول فيها "كنت ارجع بالليل إلى داري واضع السراج بين يدي، واشتغل بالقراءة والكتابة. فمهما غلبني النوم أو شعرت بضعف، عدت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إلي قوتي. ثم ارجع إلى القراءة. ومهما أخذني أدنى نوم احلم بتلك المسائل بعينها، حتى أن كثيرا من المسائل اتضح لي وجوهها في المنام"[6].

بعبارة أخرى، لقد كانت حياة ابن سينا إبداع في اليقظة والمنام. إذ تلازم هذه الدورة هموم البحث عن الحق والحقيقة ما لم تبلغ حالة اليقين. وقد تكون علاقته المتقلبة الأولى بالفلسفة، وبالأخص في عذاب وعذوبة اللقاء بأرسطو إحدى الصور الرمزية لذلك. إذ يروي لنا ابن سينا كيف انه كان يقرأ كتاب (ما بعد الطبيعة) لأرسطو دون أن يستطيع فك رموزه. بحيث قرأه حولي أربعين مرة ولكن دون جدوى. مما جعله ييأس من إمكانية إتقان العلم الفلسفي، قبل أن يحصل عن طريق الصدفة على شرح الفارابي له. وهي قصة طريفة يرويها ابن سينا بالشكل التالي "في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوراقين، وبيد دلال مجلد ينادي عليه. فعرضه عليه فرددته رد متبرم، معتقد أن لا فائدة من هذا العلم. فقال لي:اشتر مني هذا فانه رخيص ابيعكه بثلاث دراهم وصاحبه محتاج إلى ثمنه! واشتريته منه فهو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة. ورجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته. فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب انه كان لي محفوظا على ظهر قلب". أما حياته اللاحقة فقد كانت سريان بين الطبيعة وما وراء الطبيعة. حيث اشتغل في مختلف ميادين العلوم الفلسفية والطبيعية وكذلك في خدمة الأمراء والملوك والسلاطين. بل وشغل مرة وظيفة وزير في بلاط الأمير شمس الدولة، تعرض بأثر تمرد الجند عليه إلى السجن ومصادرة كل ما يمتلكه ومطالبة الجند بقتله. غير أن استبدال القتل بالنفي قد مدد ما أسميته بسريان حياته بين الطبيعة وما وراء الطبيعة. فقد عاد بقدر واحد إلى مزاولة مختلف العلوم والأعمال، وبالقدر ذاته التمتع بحياته الشخصية على قدر ما فيه من قوى الروح والجسد. فقد صوره تلميذه الشهرزوري بالعبارة التالية: "كان الشيخ قوي القوى كلها. وكانت قوة المجامعة من قواه الشهوانية أقوى واغلب. وكان كثيرا ما يشتغل بها فأثر في مزاجه. وكان الشيخ يعتمد على قوة مزاجه" في الحياة والعمل. وهي صورة دقيقة عن شخصيته وحياته، بمعنى العمل المتفاني في مختلف ميادين الحياة والعلوم، والتنقل بين الأمراء والعامة، والمزاوجة بين الطبيعة وما وراء الطبيعة بوصفه طبيب الروح والجسد. ووجدت هذه المزاوجة تعبيرها الخاص في أشهر مؤلفاته - (الشفاء) و(النجاة)، دون أن تحرره من أمراض الجسد ولحظات الهلاك القاتلة للروح. وواجه هذه الحالة أواخر حياته وانتهت بمماته. فقد أصيب آخر حياته بالقولنج. وكان يعالج نفسه بنفسه دون كلل. غير انه وقف في نهاية المطاف أمام خاتمته بقوته المعهودة. إذ تروي لنا ككتب التاريخ والسير عن أن مدينة (همدان كانت آخر محطة من حياته، بعد أن أحس بانهيار قوته وأنها لا تفي بدفع المرض عنه. عندها أهمل مداواة نفسه واخذ يقول:"المدبر الذي كان يدبر بدني قد عجز عن التدبير. والآن فلا تنفع المعالجة". ويقال أن سبب موته هو وضع كمية من الأفيون كبيرة في مأكله من جانب الخدم بسبب خيانتهم إياه في سرقة أمواله من اجل التخلص منه! ومهما يكن من آمر هذه الخاتمة، فإنها ظلت تأرجح في ذاكرة الثقافة وذكرى الأعداء بقدر واحد. بمعنى رؤية كل منهما على قدر ما فيه. فقد قال عنه البعض:

رأيت ابن سينا يعادي الرجـال     وبالحبس مات أخس الممـات

فلم يشـف مــا ناله بالشفـا         ولـم ينج من مـوته بالمنجيات

ويقصد بذلك كتاب (الشفاء) و(النجاة). وهي صيغة التشفي المعهودة لصغار العقول وموت القلوب. أما حقيقة ابن سينا فإنها تتضافر في وحدة شخصيته وإبداعه العلمي والعملي من اجل تأسيس مهمات شفاء الجسد ونجاة الروح، بوصفها مهمات بلوغ الحكمة الإنسانية. وليس رسالة (حي بن يقظان) سوى إحدى الصيغ الرمزية لأحد نماذج الحوار الأبدي بين العقل والغريزة، في سعيه لتأسيس مهمة الشفاء والنجاة بسيادة العقل، بوصفه المدبر الأول لكل شيء.

 فقد كتب ابن سينا رسالته الرمزية الصغيرة هذه وهو في السجن، يتأمل من كوة المعتقل في القلعة خيوط الأمل المغرية التي تلازم العقول الجريئة في منعطفات الحياة ودهاليزها. وليس مصادفة أن يتوصل ابن سينا إلى إحدى الأفكار العميقة التي وضعها في صلب مواقفه الحياتية والعلمية عندما قال، بان كل ما يصعب البرهان عليه يمكن رميه في حيز الإمكان! عندها يصبح العمل والأمل شيئا واحدا، أي يقظة أبدية وجدت تعبيرها في رسالة (حي بن يقظان).

يقظة السهروردي-  حكمة المتمرد!

السهروردي هو أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك ولد عام 549 للهجرة في قرية سهرورد في أعالي جبال فارس، وقتل عام 587 للهجرة في مدينة حلب. تتلمذ في بدايته على يد الشيخ مجد الدين الجيلي (وكان أستاذ فخر الدين الرازي). وأثارت الفلسفة اهتمامه الشديد، كما تأثر منذ وقت مبكر بكتب ابن سينا، والمتصوفة إضافة إلى مختلف المدارس الفلسفية والأديان. مما يعكس مستوى انفتاحه العقلي والروحي. ووجد هذا الانفتاح تعبيره أيضا في حبه للسفر، أي للخروج من حدود الجغرافيا والبيئة التقليدية، بحيث تحولت حياته إلى رحلة دائمة من اجل المعرفة ومواجهة مصيره فيها. وقد أشار هو في إحدى رسائله على ذلك عندما كتب يقول، بأنه بلغ الثلاثين سنة وأكثر عمره في الأسفار والاستخبار والفحص عن مشارك مطلع على العلوم. وصنعت هذه الأسفار شخصيته الحرة وآفاقها المتفتحة، مع ما فيها من استعداد لما دعته التقاليد المحافظة بالتهور والاستهتار. بحيث قال عنه احدهم "ما أذكى هذا الشاب وافحصه. إلا إني أخشى عليه لكثرة تهوره واستهتاره وقلة تحفظه، أن يكون ذلك سببا لتلفه". بينما قال عنه ابن أبي اصيبعة:"كان أوحد زمانه في العلوم الحكمية، جامعا للفنون الفلسفية، بارع في الأصول الفقهية، مفرط الذكاء، جيد الفطرة، فصيح العبارة، وكان علمه اكبر من عقله!". غير أنه تقييم لم يكتمل بسبب انقطاع حياة السهروردي المبكر.

فقد كانت هواجس السهروردي وسلوكه ومواقفه ومساعيه محكومة بهموم البحث عن الحكمة. وهو الأمر الذي جعله غريبا متغربا. وليس مصادفة فيما يبدو أن يطلق على رسالته المتعلقة بشرح قصة (حي بن يقظان) اسم (الغربة الغربية). فالعقول الكبيرة تحس على الدوام بغربة. لكنها غربة بلا اغتراب! من هنا استغراب الآخرين منها، وذلك بسبب طبيعة الميول المختلفة بين غربة الكبار بوصفها أسلوبا للتكامل الذاتي، واستغراب الآخرين إياها بسبب مظهرها "المتهور". فقد وصفه تلميذه الشهرزوري في كتابه (نزهة الأرواح)، قائلا، بان السهروردي كان مستوي القامة، يضرب شعره ولحيته إلى الشقرة. وانه كان يميل إلى السماع (الموسيقى). وكان يبدي احتقارا شديدا لكل مظاهر السلطان والأبهة. كما كان يغير ملابسه بطريقة مثيرة. وقد روى بعضهم عنه حادثة طريفة تروي كيف انه كان يماشيه في جامع ميافارقين، والسهروردي لابس جبة قصيرة مضربة زرقاء، وعلى رأسه فوطة طويلة وفي رجله زربول (نعال). وعندما رآه صديق له اقترب منه قائلا:

جئت تماشي إلا هذا الخربندا؟![7]

اسكت! هذا سيد الوقت شهاب الدين السهروردي!

فتعاظم الرجل هذا القول وتعجب منه وانصرف! بينما نراه مرة أخرى موشحا بالسواد. وعندما اقترب منه احدهم يكلمه بينما كان السهروردي سارح في عالم آخر:

لبست شيئا غير هذا اللباد الأسود!

يتوسخ.

تغسله!

يتوسخ.

تغسله!

ما حييت لغسل الثياب! لي شغل أهم من ذلك[8].

ولا علاقة لهذه الصورة بالمظهر والمظاهر بقدر ما انه تعكس تمرده الشامل وتوحده الذاتي. كما أنها تعكس تكامله العلمي والعملي في الظاهر والباطن، الذي وجد تعبيره في فكرته عما اسماه بالحكيم المتأله. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن "الحكيم المتأله هو الذي يصير بدنه كقميص يخلعه تارة ويلبسه تارة أخرى. ولا يعد الإنسان في الحكماء ما لم يطلع على الخميرة المقدسة. وما لم يخلع ويلبس. فإن شاء عرج إلى النور، وان شاء ظهر في أي صورة أراد. وأما القدرة فإنها تحصل عليه بالنور الشارق عليه. ألم تر أن الحديدة الحامية إذ أثرت فيها النار تتشبه بالنار وتستضيء وتحترق؟ فالنفس من جوهر القدس، إذا انفعلت بالنور واكتست لباس الشروق أثرت وفعلت، فتومئ فيحصل الشيء بإيمائها. وتتصور فيقع على حسب تصورها. فالدجالون يحتالون بالمخارق، والمستنير الفاضل المحب للنظام البريء من الشر، يؤثر بتأييد النور لأنه وليد المقدس"[9].

لقد وضعته فكرة الحكيم المتأله في حالة غريبة وغربة تامة عن تقاليد الفقهاء والمدارس التقليدية. من هنا اختلاف الناس فيه بين مصدق ومزندق! والأخير من نصيب الفقهاء، الذين كان "الاجتهاد" الفقهي بالنسبة لهم هراوة السلطة. وقد عملوا كل ما باستطاعتهم من اجل جر هذا "المتهور"، الذي "كان عقله اكبر من علمه" إلى خديعة الجدل اللاهوتي. إذ استطاعوا جره إلى "الزندقة" من خلال الجدل حول القدرة الإلهية. لقد نظر الفقهاء إليها بمعايير النص، بينما نظر إليها هو بمعايير العقل المجرد. وهو خلاف يعكس الاغتراب الجوهري بين تيار القدرة الإنسانية الفاعلة والحرة وتيار تحجيرها. واستجابت السلطة بشخصية صديقه الملك الظاهر (568-613)) إلى الموافقة على قتله "تلافيا للفتنة"[10]. ويقال انه ندم لاحقا على ذلك واقتص ممن أوقع السهروردي في القتل. وهو أمر محتمل لكن اليقين فيه هو أن رجل السلطة لا يمكنه أن يكون وفيا وأمينا للعلاقة بالمفكر الحر.

ومن الصعب الآن القول، فيما إذا كان السهروردي قد أدرك هذه الحقيقة أم لا، إلا انه لم يفكر بها. وذلك لان همومه الجوهرية بوصفها روافد صيرورته العلمية والعملية كانت تسير صوب بلوغ الحكمة وهدوءها المضطرب في"بحار المعرفة"! وليس مصادفة أن يطلق السهروردي لقب الحكيم على من له "مشاهدة الأمور العلوية". وهي درجة يمكن للمرء أن يبلغها في حال توحيد العلم والعمل في دورة لا تنتهي مما دعاه السهروردي بالانسلاخ عن الدنيا، ومشاهدة الأنوار الإلهية، والسير فيها إلى ما لانهاية[11]. من هنا قوله في تقديمه لكتابه (حكمة الإشراق) إلى أن ما يكتبه هو "لطالبي التأله والبحث، وليس للباحث الذي لم يتأله ولم يطلب التأله فيه نصيب. ولا نباحث في هذا الكتاب ورموزه إلا مع المجتهد المتأله، أو الطالب للتأله. فمن أراد البحث وحده فعليه بطريقة المشّائين"[12]. من هنا تصنيف السهروردي الحكماء إلى ثلاثة أصناف كبرى. الأول وهو حكيم الهي متوغل في التأله عديم البحث (مثل الأنبياء وشيوخ المتصوفة أمثال البسطامي الحلاج والتستري)، والثاني حكيم بحاث عديم التأله (مثل الأرسطيين القدماء والفارابي وابن سينا من المتأخرين)، وأخيرا حكيم الهي متوغل في التأله والبحث. والأخير يطوي في ذاته مراحل الحس والعقل والحدس في كل واحد، كما وضعها في لوحته الرمزية عن المعنى العميق في شخصية "حي بن يقظان". 

***

يقظة ابن طفيل-  حكمة التجانس والاعتدال!

ولد أبو يكر محمد بن عبد الملك الأندلسي قبل عام 506 وتوفي عام 581 للهجرة في وادي آش. وعمل طبيبا في غرناطة. ويقال انه كان تلميذا لابن رشد. رغم انعدام الدلائل على ذلك. أما المؤكد عنه فانه عمل كاتبا لأحد أبناء عبد المؤمن ثم ترقى في مناصبه إلى أن أصبح طبيبا لأبي يعقوب يوسف المنصور خليفة الموحدين. وصنف كتبا في الطب والفلك والفلسفة. لكن شهرته ارتبطت بكتاب (حي بن يقظان)، الذي ترجم منذ زمن طويل إلى مختلف اللغات الحية.

وقد ارتبط اسم (حي بن يقظان) بشخصية ابن طفيل. والسبب الرئيس لذلك هو أصالة الكتاب وغرابته الجميلة. إذ استطاع أن يولف بصورة خلابة حبكة الخيال الشعبي، والتأثير التاريخي المتبادل بين الثقافات، وتراث الفكر الفلسفي بمختلف مدارسه، والارتقاء بهم جميعا إلى صورة أخاذة تستجيب لروح التصوف الإسلامي. فقد استكمل فكرة ابن سينا عن الارتقاء بالعقل إلى مصاف الحكمة، وفكرة السهروردي عن الحكيم المتأله من خلال رسم إحدى أجمل الصور الفنية عن ارتقاء المعرفة التلقائية صوب الحدس المتسامي بوصفها المهمة الكبرى للروح والجسد. وقدم في قصة (حي بن يقظان) نموذجا لتأمل بحر الوجود وهو يرمي بكل ما فيه، كما لو انه أراد القول، بأن مد البحر وجزره (المد والجزر) هي الحركة الحية التي تنتج بقدر واحد مدّ الثقافة وجزرها. وفيها ومن خلالها (الحركة) يتبين زبد الوجود من درره وجواهره، بوصفها المكونات الضرورية للحياة، ولكل منها دوره وقيمته، وظيفته ومهمته، وسيلته وغايته. ولم يكن هذا الموقف معزولا عما يمكن دعوته بفلسفة الاعتدال الواقعية التي ميزت مواقفه ورؤيته للوجود كما هو والغاية الكبرى منه. من هنا تعايش الصورة النقدية والمبجلة في نفس الوقت لإبداع ابن سينا والغزالي، والكمون الساري لتقاليد التفلسف والتصوف الأندلسي، وبالأخص لآراء وشخصية ابن باجة وفكرته عن شخصية (تدبير المتوّحد)، التي تتماسك بنبتتها بين صخور الوجود عرى الألفة الجميلة للشمس وظلالها، والأمطار وسيولها، وكل أشكال الوحدة الضرورية لسمو الطبيعي والماوراطبيعي في الإنسان.

ومن الممكن رؤية الألوان النقية والمثيرة لهذه اللمحات في حبكة القصة ومضمونها كما بلورها وقدمها ابن طفيل في (حي بن يقظان). ففيها نستطيع رؤية فسلجة الروح، ومن ثم نمو المعرفة النظرية والعملية بوصفها تأملا عقليا تلقائيا. إذ نقف فيها أمام صيغ متنوعة لتناول طبيعة الولادة. وهو شيء ليس جوهريا لأنه جزء أو نموذج لأوجه الصيرورة الملازمة للوجود. وسواء كان ظهور الإنسان طبيعيا خالصا أو إنسانيا، فأنهما يتمثلان حقيقة واحدة وهو ترابطهما في الحس والعقل والحدس. وقد تتبع ابن طفيل هذا الترابط من خلال تأمل حركة العقل ووقوفه المحتوم أمام "الأسئلة الخالدة" بوصفها أسئلة المنطق ومفارقاته المرهقة. لكنه وقوف يحتوي في ذاته أيضا على إمكانية كسر جدار الصمت المتراكم في قواعد المنطق الشكلي. وهي العملية التي تصنع ركام الحدس الأول، ومن خلاله يمكن بناء صرح البدائل! وحالما يبلغ العقل حالة الحدس، عندها يصبح الاعتدال والنزوع الإنساني مصير الروح والجسد. ويغض النظر عن تنوع أشكال ومستويات هذا المصير، لكنه يتمثل من حيث الجوهر معنى وقيمة الحكمة، بوصفها خروجا على أحكام العقل بمعاييره، والبقاء في نفس الوقت ضمن حيز النزعة الإنسانية. وذلك لأنه يدرك بوضوح اقرب إلى اليقين الحقيقة القائلة، بأن  الإنسان يولد حيا واليقظة جوهرها. مما يجعل من جوهر الإنسان شيئا يعادل معنى الحياة بوصفها يقظة معرفية دائمة. حينذاك يصبح الرجوع إلى حقائق النفس الأولى بوصفها ذات أبدية غاية الوجود الإنساني. مع ما يترتب عليه من مساعي لصنع الذات المتوحدة بذاتها والموحدة لذاتها بالمطلق (الله). وهو شيء واحد، لأنه باق وما عداه عرضة للتغير والفساد والزوال. وفي هذا يكمن السبب القائم وراء طرح ابن طفيل فكرة البقاء والخلود. فهو السقف الذي يكشف عن حدود الإنسان ووجوده، أي اكتشاف حقيقة الحكمة بوصفها اكتشاف حدود النفس وقدرتها وإرادتها. ومن ثم العيش بمعايير هذا الوعي الأخلاقي المتسامي. انه أفق الحكمة العملية. ومن ثم أفق المصير التاريخي للشخصية المبدعة، باعتباره التعويض المعرفي الذي يفرضه إدراك حتمية اندثار الجزئي والعابر والجسد. وبالتالي تحويل الاندثار إلى جزء من قلق البحث عن الخلود بوصفه التعويض الضروري لإسباغ المعنى على دورة الحياة والموت الأبدية.

***

إننا نقف أمام ثلاثة نماذج متوحدة في مساعيها المختلفة لتأسيس قيمة الحكمة بالنسبة للفرد والأمة والتاريخ والروح. لقد أراد ابن سينا والسهروردي وابن طفيل، كل بطريقته الخاصة نفي الأنا العادية، ونزع حراشف الجسد، والتحرر من لذة الاستمتاع الرتيب بعبارة الماضي الميتة! ومن ثم إشراك الجميع في توسيع مدى اليقظة الفلسفية. ولم يكن هذا الموقف معزولا عن ملامح الصعود والسقوط في تاريخ الحضارة الإسلامية. ففي مواقفهم يمكن أن نلمح ديناميكية الحكمة في صعودها الملازم لصعود إمبراطورية الثقافة (ابن سينا)، ومواجهة جمودها بتمرد الأنا (السهروردي) وبحثها عن قيم الاعتدال والسمو الروحي (ابن طفيل). ولم تفقد هذه المواقف قيمتها بالنسبة للمعاصرة. على العكس! إن إشكالية الشفاء والنجاة ما زالت هي هي، لأن العالم المعاصر ما زال يعاني من عدم تناسب العقل والمعرفة. إذ أن معارفه اكبر وأكثر من عقوله. من هنا خطورة التهور الكامنة في سيادة القوة والقهر والعنف المنظم. وهي الخطورة التي تدفع، كما كان الحال في زمن ابن طفيل مهمة البحث عن قيم الاعتدال وتأسيسها العملي، إي مهمة البحث عن المعنى وتأسيسه في مبادئ التجانس والاعتدال لكي تبلغ البشرية الحد الضروري من الحكمة. وليس المقصود بذلك استعادة دورة التاريخ والثقافة، بقدر ما تعني السير بخطى حثيثة وواعية لما اسماه ابن عربي بالحقيقة المحمدية، وما أطلق عليه هيغل عبارة العقل المطلق. وبدون ذلك فان الإنسان سوف يقف أمام مهمة امتلاك نفسه من جديد عبر مروره مرة أخرى بطريق الآلام المبرحة للصراع من اجل البقاء للأحسن!! فالحكمة تفترض ألا يكرر المرء حتى أفضل وأنبل الأفعال! 

***   ***   ***

 

ا. د. ميثم الجنابي

...........................

[1] من هذا الكلّ تتراكم تجارب اليقين بوصفه الغاية النهائية للمعرفة. ولا تخلو هذه الغاية من الشكوك، بقدر ما أنها تتراكم من خلالها. بمعنى تراكمها من خلال تفعيل وحدة الشك واليقين، بوصفها العملية الدائبة للمعرفة.

[2] تفترض هذه العملية نفي الاصطناع المفتعل للشخصية الفردية والاجتماعية والقومية من خلال إرجاع حقيقة الإنسان إلى ما يمكن دعوته بهويته الكونية، باعتبارها طبيعته الأولى. وهو إرجاع يعادل معنى ما أطلقت عليه تقاليد الإسلام عبارة السير صوب الغيب. ويعادل الغيب هنا معنى المستقبل. مما يعطي لنا ذلك إمكانية القول، بان "السير صوب الغيب" يعادل معنى المغامرة الإنسانية في السير صوب المجهول من اجل إدراك اليقين.

[3] القصة تروي كيف أن الكسندر الأكبر وصل مرة إلى إحدى الجزر فوجد صنما فيها وعليه كتابة. فطلب فك رموزها. فإذا هي قصة الصنم التي تشبه في بعض مكوناتها قصة حي بن يقظان. إذ يجري لحديث فيها عن كيف ألقت ابنة الملك بابنها في البحر فحملته الأمواج إلى جزيرة نائية فتبنته غزال ونما في رعايتها وجعل يتفكر ويتدبر أموره. ثم يقبل إلى الجزيرة رجل يعلمه المعارف، التي يتوصل إليها حي بن يقظان.  وقد كان هذا الأخير أبوه، أي ابن الوزير الذي أحب أمه وحملته منه. وقد نفاه الملك إليها أيضا. ثم يمر مركب يحملهما من الجزيرة دون أن يعرف احدهما حقيقة الآخر.

[4] قصة سلامان وأبسال يونانية الأصل نقلها حنين بن اسحق إلى العربية. وهي قصة تحكي عن اخوين هما سلامان وأبسال. وكان ابسال أصغرهما سنا. وقد تربى في حجر أخيه فنشأ جميل الصورة عاقلا متأدبا عالما عفيفا شجاعا. فعشقته امرأة سلامان، وقالت لزوجها:"اخلطه بأهلك ليتعلم منه أولادك"! فقبل سلامان ذلك وقال لأخيه "أن امرأتي بمنزلة أمك". فرضي أبسال. وأكرمته زوجة سلامان. فلما اختلت به أظهرت له عشقها. فانقبض أبسال من ذلك. ولما رأت زوجة سلامان ذلك قالت لزوجها: "زوّج أخاك بأختي"! ثم قالت لأختها: "إني ما أزوجك بابسال ليكون لك زوجا وحدك، بل لأشاركك فيه"! وفي ليلة الزفاف جاءت امرأة سلامان بدلا من أختها، وأخذت تعانق ابسالا، وتضم صدره إلى صدرها، فلاح برق في السماء أبصر بضوئه وجهها، فخرج من عندها وطلب من أخيه أن يجنّده. فولاه قيادة جيشه، وحارب حتى فتح كثيرا من البلاد. ثم رجع إلى وطنه مكللا بالظفر. وهو يحسب أن امرأة أخيه قد نسيته. لكنها عاودت حبها له ورجعت إلى مغازلته. فأبى ذلك. فتوجه للحرب ثانيا. ولكن امرأة سلامان لما يئست من حبها أوعزت إلى رؤساء الجيش أن يخذلوه، ففعلوا وظفر به الأعداء. وتركوه طريحا. فعطفت عليه مرضعة من حيوانات الوحش إلى أن انتعش وتعافى ورجع إلى سلامان فعطف عليه. وعاقب رؤساء الجيش الذين خذلوه. ثم اتفقت زوجة سلامان مع الطباخ والطاعم فدسا إليه السم حتى مات. فاغتم سلامان لذلك واعتزل الملك. واخذ في عبادة ربه. فأطلعه الله على حقيقة الأمر. ففعل بالمرأة والطابخ والطاعم ما فعلوا بأخيه. وهي قصة كونت المادة المناسبة للتأويل الفلسفي من خلال البحث فيها عن رمزية الرؤية القائلة بتنوع مستويات ووحدة النفس الناطقة والعقل النظري في إدراك مخاطر ورذائل الغريزة والنفس الغضبية. وقد استعمل ابن سينا في بعض كتاباته هذه الصيغة الرمزية، وبالأخص في رسائله عن حي بن يقظان وقصة سلامان وأبسال ورسالة الطير.

[5] ابن أبي اصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، در الثقافة، بيروت (ب-ت) ج3، ص4-5.

[6] ابن أبي اصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ج3، ص5.

[7] تعني مكاري (سائس) الحمير.

[8] القزويني: آثار البلاد وأخبار العباد، ص394.

[9] السهروردي: المشاعر والمطارحات، ضمن (الحكمة الإلهية) ص504.

[10] الملك الظاهر الأيوبي. ابن السلطان صلاح الدين الأيوبي. ولد في القاهرة. وتسلم مملكة حلب عام 582. واستمر في ولايتها إلى أن توفي ودفن فيها.

[11] السهروردي: المشارع والمطارحات، ضمن (الحكمة الإلهية) ص195-196.

[12] السهروردي: المشارع والمطارح، ضمن (الحكمة الإلهية)  ص504.

 

 

في المثقف اليوم