قراءة في كتاب

علاء البغداديّ: الفلسفةُ بوصفها علاجاً.. قراءةٌ في كتاب (التّداوي بالفلسفة)

توطئة: قبل الحديث عن كتاب (التّداوي بالفلسفة) للكاتب المغربيّ "سعيد ناشيد" (1969)، لا ضير من الحديث عن الفلسفة بصورةٍ عامّة، ونبدأ من تعريف الفلسفة وأبرز اشتغالاتها، على الرّغم من أنّها – أيّ الفلسفة – تنوّعت وتباينت تعريفاتها.

لكن إجمالاً نستطيع القول أن الفلسفة من أهمّ علوم المبادئ العامّة كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف الفرنسيّ (رينيه ديكارت) (1596/ 1650)، وهي دراسة المفاهيم التي تُفضي إلى الحكمة، وهي الفكر المُدرك لذاته والذي يشتغل في إدراك شموليّة الوجود.

ويُمكن القول أيضاً أنّ الفلسفة كمعنى مُبسّط هي مجموعة المشكلات والمحاولة لمعالجتها، وهذه المشكلات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالقضايا الكبرى، والمفاهيم الأساسيّة، وهو ما ذهب إليه (برندان ولسون 1953).

ويقول الفارابي (874/ 950م) بأنّ الفلسفة هي (العلم بالموجودات بما هي موجودة)، أمّا الكنديّ (805/ 873م) فيقول أنّ الفلسفة هي: (علم الأشياء بحقائقها الكُلّيّة)، ويؤكّد أن الحقائق الكُلّيّة هي إحدى خصائص الفلسفة الجوهريّة التي تُميّزها عن غيرها من العلوم الإنسانيّة، بينما يرى ابن رُشد (1182/ 1198م) أنّ التّفكير في الموجودات يكون على اعتبار أنّها من المصنوعات، و(كلّما كانت المعرفة بالمصنوعات أتمّ كانت المعرفة بالصّانع أتمّ)، ويذهب "إيمانويل كانت" (1724 / 1804م) فيقول أنّ الفلسفة هي من المعارف التي تصدر من العقل. وبالتالي، فإنّ الفلسفة لابدَّ أن تكون من توليفات الحكمة، بل هي التّوليفة الأساس لذلك، وكُلّ العلوم تبدأ من الفلسفة وتنتهي إليها، تبدأ من نشوء الفرضيّات وتدفّق منها الإنجازات.

نعود الآن إلى كتاب (التّداوي بالفلسفة) للكاتب "سعيد ناشيد" فهو من الكتب المهمّة والمُثمرة في بابه، حيث يشتغل على توظيف الفلسفة كأسلوبٍ مهمٍّ في معالجة المشكلات الكبرى التي تتعلّق بالفرد والمجتمع، لأنّه يؤكِّد على ضرورة أن تكون الفلسفة من الأمور الأساسيّة التي يستطيع الفرد بها ومن خلالها أن يواجه أشدّ صعوبات الحياة. ويذهب "سعيد ناشيد" إلى أنّ الفلسفة تُرشد إلى إعمال الفكر والفهم العميق والمُعمّق للنفس الإنسانية، ويؤكّد في مقدّمة كتابه (التّداوي بالفلسفة) إلى أنّ الكتاب هو استذكار لبعض البداهات المنسيّة ومحاولة لإنصاف الفلسفة من أهلها أنفسهم. وهو أيضاً هو محاولة للدّفاع عن الفلسفة في صناعة الحياة.

ويذهب "سعيد ناشيد" إلى أنّ الفلسفة يُمكنها تحقيق مقوّمات الحياة الأساسية، ومن خصائصها المهمّة، وهي أن تكون حياة يعيشها الفرد بأقلّ ما يُمكن من الشّقاء والمعاناة، وأن يكون الفرد مُتصالحاً مع أقداره الخاصّة ويتقبّلها ولا يرهق نفسه بمقارنتها مع الآخرين، وأن يكون الفرد في حياته كما هو لا يكون غيره، وأن تكون حياةً يصنع الفرد فيها المتعة بأقلّ ما يُمكن.

في بداية الكتاب يتساءل "ناشيد" ما هو الدّور الذي لعبه الفلاسفة في صناعة وإنتاج الحضارة، لاسيّما في زمننا المعاصر وهل يا تُرى هل كان لهؤلاء الفلاسفة دور مهمّ فيما وصلت إليه البشريّة من منتجات حضاريّة مادّيّة؟ أم أنّ مجهودات هؤلاء المفكّرين المعرفيّة والبحثيّة لم تكن أكثر من كلام لا جدوى منه وفارغ من أيّ مضمونٍ عمليّ حقّيقيّ؟

في معرض الإجابة عن هذا السّؤال يعترف "سعيد ناشيد" بأنّ الفلسفة ليست بالضّرورة أن تكون من الشّروط الحتميّة لبناء الحضارات، وأنّ هناك مجموعة من الحضارات القديمة التي قامت وازدهرت من دون الاعتماد بشكلٍ كاملٍ على الفلسفة، ويرى أنّ ذلك بسبب طبيعة الفلسفة نفسها، ذلك عندما يقول أنّ التّفكير الفلسفيّ هو النّشاط العقليّ الأكثر هشاشة، والاستمرار في التّفلّسف جهد استثنائيّ نادر يحتاج إلى بيئةٍ حاضنةٍ لا تلزم العقل بتقديس المُسلّمات.

إلّا أنّه يؤكّد أنّ ابتداع أنساق علميّة جديدة في العلوم والمعارف الحضاريّة المادّيّة، يحتاج إلى طفراتٍ فلسفيّة جديدة، فإذا ما أردنا تقديم نظريّات مهمّة في الفيزياء الفلكيّة أو الميكروفيزياء بحيث تتخطّى ما وصل إليه كُلّ من "ألبرت أينشتين" و"ماكس بلانك" من قبل، فقد صار من اللازم علينا أن نستند إلى أطروحاتٍ فلسفيّةٍ جديدة تتجاوز المعارف الفلسفيّة المعروفة حالياً. فالفلسفة كما يراها "سعيد ناشيد" هي وحدها القادرة على نقد المفاهيم الكبرى، وعلى التّنظير لمفاهيمٍ بديلة عنها، وتلك المفاهيم تُمثّل حجر الزّاوية في مسألة الإبداع والابتكار المعرفيّ. فبواسطتها يستطيع عقل الإنسان أن يُفكّر في العالم والحياة.

وبالتّالي، يُقدّم "ناشيد" رؤيةً خاصّة للفلسفة باعتبارها السّبيل الوحيد الذي يمكن من خلاله تطوير الحضارة البشريّة، والتي ظهرت آثارها في ميادين السّياسة والفنون والأخلاق، وغير ذلك من حقول المعرفة الإنسانيّة.

كما يؤكّد "سعيد ناشيد" أنّ الفلسفة يُمكنها مساعدة الإنسان في إعادة التّفكير في أنماط التّفكير الاعتياديّة، وهو الأمر الذي يتيح الفرصة للتّخلُّص من الآلام والمشاعر السّلبيّة التي لطالما ارتبطت بأوقات الانكسار والخسارة في حياتنا. ومن أمثلة ذلك يتساءل "سعيد ناشيد" حول السّبب في الشّعور بالأسى والغضب، فيجيب بأنّ السّبب الرّئيس في ذلك هو أنّ الإنسان يتصوّر الألم وكأنّه نوع من الظّلم والاعتداء، أو أنّه احتمال لشيء ليس بعادل، هنا يأتي التّفكير الفلسفيّ كملجأٍ وملاذٍ أمن، حيث سيتيح هذا النّمط من التّفكُّر، الفرصة أمام اكتشاف حقيقة مهمّة، وهي تلك التي تعتقد بأنّ الغضب مجرَّد ردّ فعل انفعاليّ يضرب بجذوره في أعماق اللاوعي الجمعيّ عندما كان الإنسان البدائيّ يرى الألم لعنة من الآلهة أو السّحرة أو الأرواح الشّريرة. وبهذا النّحو من الإدراك العقلانيّ الهادئ يمكنني أن أتحرّر من سطوة بعض الانفعالات السّلبيّة البدائيّة، لن يختفي الألم بالضّرورة لكن ستتحسن قدرتي على التّحمُّل، بل قد أجعل الألم فرصة للإبداع بدل الشّكوى، والغضب، والإحباط.

ويرى "سعيد ناشيد" أنّ هناك ثلاثة مشكلات أو عقبات رئيسة تقف في وجه الإيمان المطلق بأهمّيّة الفلسفة في الحياة، وهي:

أوّلاً: إنّ الفلاسفة عبر التّاريخ قد اهتمّوا بالعقل، وتخصّصوا في دراسة المجتمع والسّياسة والعلم والمنطق، ولم يولوا اهتماماً يذكر بالجسد، فكيف يمكن الإدّعاء أن هؤلاء يستطيعون إرشادنا على الطّريق الأمثل للعيش؟

ثانياً: إنّ معظم الفلاسفة قد عاشوا حياة كئيبة وفاشلة، فقد عانوا من الأمراض المزمنة، والإخفاق العاطفيّ، والإفلاس الماليّ، وحتّى المنفى والسّجن والإعدام، هذا بالإضافة إلى فشلهم في أغلب الوقت على صعيد الحياة الاجتماعيّة والأسريّة.

ثالثاً: إنّ تاريخ البشريّة يذكر لنا كيف أن الكثير من الحكماء الكبار مثل "بوذا" و"كونفوشيوس"، قد عاشوا حياة رائعة وقدّموا طرقاً بديعة في التّعامل وتحقيق السّعادة من دون أن يحتاجوا أبداً لدراسة الفلسفة. ويذهب "ناشيد" إلى أنّ المبدأ التي تقوم عليه فلسفات فَنّ العيش بسيط ومتّفق عليه في تاريخ الفلسفة، التّفكير هو أداة تحرير الإنسان من الانفعالات السّلبيّة والغرائز البدائيّة والتي هي العامل الأساسيّ في تعاسته وشقائه، ويؤكّد أن أغلب مشكلات الحياة تدور في فلك طريقة التّفكير في المشكلة.

الخلاصة، كتاب (التّداوي بالفلسفة) يُعالج الكثير من الأمور الحياتيّة عن طريق الفلسفة إذا ما أعدنا النّظر في مفهوم الفلسفة وتوظيفها التّوظيف الصّحيح، أيّ نعتبرها واحداً من الأساليب الحياتيّة الرّئيسة.

***

علاء البغداديّ - كاتبٌ وباحثٌ من العراق

في المثقف اليوم